نصر
القفاص
تؤكد
الوقائع والتاريخ أن "الأزهر" استمر صداعا فى رأس مصر, بقدر ما قدم من
علماء وأساتذة عظام يستحقون أن نفخر بهم.. سر هذه "المعضلة" أن القائمين
على "الأزهر" كانوا – ومازالوا – حريصين على المشاركة فى "مزاد
السياسة" كلما كان منصوبا!!
وفهم
صورة وحالة المجتمع المصرى لحظة صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ضرورة
مهمة, لأنها كاشفة لتفاصيل كثيرة.. فقد صدر الكتاب فى شهر يونيو عام 1925, وقت أن
كان "شيوخ الأزهر" يلعبون دور البطولة لتنصيب الملك "أحمد
فؤاد" خليفة للمسلمين.. وكان جلالته يخوض معركة شرسة ضد "الوفد"
وزعيمه "سعد زغلول" باعتباره مرفوض من الانجليز.. ورغم الأغلبية الكاسحة
للوفد فى أول انتخابات بعد صدور الدستور, وتولى "سعد زغلول" رئاسة
الوزارة لعشرة أشهر.. قدم استقالته بعدها بسبب اغتيال "السير لى ستاك"
سردار الجيش الانجليزي, ثم أعقب ذلك تكليف "أحمد زيوار باشا" برئاسة
الوزارة على أن تقوم بالإعداد لانتخابات برلمانية جديدة تخلص الانجليز والملك من
زعامة "سعد زغلول".
الصورة
كان يفهمها ويدرك تفاصيلها الشيخ "على عبد الرازق" لكنه ابتعد عنها,
وركز جهده وعلمه وفكره على القضية الأخطر بتوريط مصر فى أن يكون حاكمها هو
"خليفة المسلمين" لتدخل فى صراع مع باقي الدول العربية والإسلامية وفق
ما تراه وتهدف إليه سلطة الاحتلال الانجليزي.. وهذا ليس كلاما مرسلا, بل له
خلفياته ووقائعه..
فالأزهر تم إقحامه فى معركة السياسة من بداية
العام الذى صدر فيه "الكتاب الزلزال" وقبل صدوره.. تحركت مظاهرات شارك
فيها "شيوخ الأزهر" وطلابه ضد "سعد زغلول" وكادت أن تؤدى إلى
اضطرابات.. وما إن تولت وزارة "زيوار باشا" المسئولية, وكان "إسماعيل
صدقي" هو وزير الداخلية فيها حتى تحركت لاستقطاب الشيوخ وطلاب الأزهر,
ليكونوا عونا لجلالة الملك.. وقبل الشيوخ وخلفهم الطلاب المهمة, وقاموا بتشكيل وفد
كبير اتجه يوم 7 يناير إلى القصر الملكى برئاسة فضيلة الشيخ "محمود أبو
العيون" وهناك "تشرفوا" بلقاء كبير الأمناء.. وقدموا الولاء لجلالة
الملك, وعبروا عن أنهم يحوطون عرشه المفدى بقلوبهم.. ويأملون فى عطف صاحب الجلالة
على "الأزهر" وهتفوا لجلالته وسمو ولى عهده.. رد عليهم رئيس الديوان –
حسن نشأت – بأن جلالة الملك سيرعى مطالبهم ويعيد للأزهر مجده القديم, وخطب فيهم
مؤكدا على أن القصر يتعهد بأن يعيد الأزهر مهدا للعلوم والمعارف.. وغادر الوفد
نفسه القصر الملكى إلى مقر وزارة الداخلية وقابلوا "إسماعيل صدقي" وخطب
ثلاثة منهم أمامه تعبيرا عن تقدير "شيوخ الأزهر" لمعاليه.. وبادلهم
الرجل ردا بمودة وتعهد برعاية الأزهر وشيوخه وطلابه, فشكروا وهتفوا له وأطلقوا
عليه "وزير الأزهر"!!
نشرت
الأهرام هذه التفاصيل يوم 8 يناير عام 1925 وغيرها من الصحف.. ولأن جلالة الملك
ورجاله والمعتمد البريطاني يأخذون مسألة "الخلافة" بجدية شديدة.. فكان
من الضروري ضرب زعامة "سعد زغلول" خاصة وأن حزب "الأحرار
الدستوريين" لم ينجح فى ذلك فى أول انتخابات برلمانية.. هنا قرر القصر
والانجليز أن يخوضوا المعركة بوجه جديد.. تم "فبركة" حزب جديد على عجل
أسموه "الاتحاد" ونصبوا "يحيى إبراهيم باشا" رئيسا عليه, إلى
جانب توليه وزارة المالية.. وكان يدير المسرح "حسن نشأت" رئيس الديوان
الملكى.. وكل هذه الأسماء ستفرض نفسها على قضية كتاب "الإسلام وأصول
الحكم" وستلعب أدوارا خطيرة ومذهلة.. وتم الاتفاق على أن ينسق حزب
"الاتحاد المفبرك" مع "الأحرار الدستوريين" وكليهما يهادن
الحزب "الوطنى المصرى" وثلاثتهم يستميلوا نواب "الوفد" مع
تشجيع من أراد أن يرشح نفسه مستقلا.. المهم ألا يفوز "الوفد"
بالأغلبية.. وتحفل صحف هذا الزمان بتفاصيل كثيرة, وكلما مر الوقت ووجدوا عزوفا من
الشعب عن حزب "الاتحاد المفبرك" تزداد عصبية الوزارة والقصر وخلفهما "المندوب
السامى" البريطانى.. دفع ذلك الوزارة إلى التعلق بورقة "الأزهر"
لتأثيره على الناخبين عبر شيوخه وأئمة المساجد.. تم تشكيل لجنة وزارية لبحث
المسائل المتعلقة بإصلاح الأزهر والمعاهد الدينية!! وهنا قد تضحك عندما تجد أن
"الصداع" قديم فى رأس الوطن.. وأن "الأزهر" بقيادة شيوخه
اختاروا دائما أن يكونوا طرفا فى لعبة السياسة.. المهم أن اللجنة الوزارية التى
ترأسها "إسماعيل صدقى" باعتباره قد تم تنصيبه من الشيوخ وزيرا للأزهر..
وأعلنت اللجنة يوم 2 فبراير خطتها وقراراتها مع توصية بزيادة نفقات الأزهر.. وحملت
صحف يوم 5 فبراير قرارات الإصلاح المزعوم للأزهر, وشملت ضم مدارس المعلمين ودار
العلوم والقضاء الشرعى إلى الجامعة الأزهرية, على أن يستمر إشراف دار المعارف –
التربية والتعليم – إداريا على هذه المدارس!!
على
أن يدير هذه المدارس مجلس إدارة برئاسة شيخ الأزهر.. وتقرر إضافة مواد حديثة –
هكذا جاء فى القرار – إلى مناهج المعاهد الدينية.. وشملت القرارات تعديلات فى نظام
الدراسة ومسمى الشهادات التى يحصل عليها الخريجون, والتأكيد على أولويتهم فى
التعيين.. وتم اقتراح لجنة تقوم بالنظر فى تعديل مناهج الدراسة بالأزهر والمعاهد
الدينية, تعديلا يلائم روح العصر.. وتقرر رفع مرتبات الشيوخ والخريجين الجدد بواقع
جنيهين إلى ثلاثة جنيهات.. وتم إعلان موافقة مجلس الوزراء على هذه الخطة ليحتفل
الشيوخ وطلاب الأزهر بهذه المكارم الملكية.. وجندوا أنفسهم لتحقيق حلم جلالته فى
أن يكون "الخليفة" وأن يفوز حزبه "المفبرك" بالأغلبية وأن يتم
إبعاد "الوفد" وهزيمة "سعد زغلول"!!
كان
الإعداد للانتخابات الجديدة يجرى على قدم وساق.. ترتيبات التزوير تشهد عليها كافة
الصحف, وتحفظها كتب التاريخ.. كما كانت الصحف البريطانية تتابع ما يحدث وتعلق
عليه.. فكتبت "التايمز" تحليلا جاء فيه: "إن نجاح وزارة زيوار باشا
يتوقف على أن يقدم لها المصريون كل ما يسمح به جبنهم الوراثى من التأييد"!!
ونشرت الجريدة ذاتها مقالا آخر يحذر من الإفراط فى إدارة الانتخابات بطرق غير
شرعية وجاء فيه: "المصريون لا يتوقعون انتخابات بأساليب دستورية مألوفة فى
البلدان الغربية, ولنا أن نعرف عنهم أنهم يعجبهم الحزم فى الحكم.. أما إذا انقلب
الحزم إلى تحكم ستجدهم لا يحترمونك وينصرفون عنك"!! وكانت الصحف المصرية تنقل
ذلك وتنشره مترجما خاصة صحف "الوفد".
كل
هذا كان يحدث قبل صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بأيام.. وتم إجراء
الانتخابات يوم 12 مارس وأعلنت وزارة الداخلية أن الأحزاب الداعمة للحكومة فازت
بالأغلبية.. وأكد البيان أن "السعديين" وهو وصف كان شائعا على
"الوفد" فازوا بمائة وواحد مقعد فقط من أصل 226 مقعد يمثلون كل أعضاء
مجلس النواب.. وفى اليوم التالى تم تصحيح رقم أعضاء الحزب "الوطنى المصرى"
من 15 عضوا إلى ستة أعضاء!! وبدا أن الأمر ضبابى لأن كل طرف من أطراف هذا الصراع
يعلن فوزه.. وانفردت صحيفة "وستمنستر جازيت" بتأكيد أن: "الحكومة
تخادع والسعديين فازوا بأكثرية تتفوق على جميع الأحزاب مجتمعة" وقالت صحيفة
"الديلى نيوز" فى تقرير لها: "أنه يجوز لنا القول أن الكفتين متعادلتين"
والمهم أن حزب "القصر المفبرك" الذى أطلقوا عليه "الاتحاد" لم
يفز بغير 43 مقعدا, رغم أن مرشحيه كانوا يجاهرون بأنهم مرشحى جلالة الملك!!
إجتمعت
الوزارة برئاسة "زيوار باشا" وقدمت استقالتها لجلالة الملك فى ضوء نتائج
الانتخابات.. رفض الملك قبول الاستقالة, وكلف "زيوار باشا" بتشكيل
الحكومة الجديدة, التى أعلنها بعدها بساعات لتضم "يحيى ابراهيم" وزيرا
للمالية و"إسماعيل صدقى" للداخلية و"عبد العزيز فهمى"
للحقانية و"توفيق دوس" للزراعة و"اسماعيل مرسى"للأشغال
العمومية و"يوسف قطاوى" للمواصلات و"على ماهر" للمعارف العمومية
و"محمد على" للأوقاف.. وكلها أسماء ستجد لها أدوارا فى زلزال
"الإسلام وأصول الحكم"!!
فى
يوم 23 مارس انعقد البرلمان و"تشرف" بحضور جلالة الملك "فؤاد"
الذى سمع طوال الطريق الهتاف له ولاسم "سعد زغلول" مع أن مرافقه كان
"زيوار باشا" رئيس الوزراء.. ألقى الملك خطبة العرش.. تولى رئاسة أول
جلسة "أحمد مظلوم باشا" أكبر الأعضاء سنا.. تم الإعلان عن فتح باب
الترشح لرئاسة البرلمان والوكيلين.. تقدم مرشحا للرئاسة "سعد زغلول"
الذى نال 123 صوتا ونافسه "عبد الخالق ثروت" الذى حصل على 85 صوتا وهو
المدعوم من الائتلاف الحاكم!!
وتم إعلان فوز "على الشمسى"
و"ويصا واصف" كوكيلين.. ترأس "سعد زغلول" الجلسة فشكر
الأعضاء, ودعاهم للانعقاد فى تمام الخامسة مساء لإتمام الإجراءات.. وبينما الجلسة
منعقدة دخل "أحمد زيوار" رئيس الوزراء وطلب الكلمة ثم قرأ بيان وقرار
الملك "أحمد فؤاد" بحل مجلس النواب!!
كانت
خسارة الملك فادحة فى رهانه على حزب "الاتحاد" الذى "فبركه"
وتضاعفت مرارته بفوز "الوفد" بالأغلبية ثم تحدى النواب لإرادته بانتخاب
"سعد زغلول" رئيسا للبرلمان على حساب "عبد الخالق ثروت"
المدعوم من الائتلاف الحاكم والقصر.. ووسط هذه المرارة والأجواء صدر كتاب الشيخ
"على عبد الرازق" لينسف حلمه فى "الخلافة" بعد كابوس عودة
"سعد زغلول" بأغلبية.. فحدث أن تحرك "الأزهر" بتلك العصبية
وأصدر قراره ضد "القاضى" الذى جعلوه "متهما" لتشهد مصر واحدة
من أخطر الأزمات السياسية, لدرجة أنها تجاوزت فى حجمها وتداعياتها حل البرلمان بعد
ساعات من انعقاده.. وقد رأيت أن أضع هذه الملامح أمامك لتعرف سر الحرب المستمرة ضد
الكتاب منذ صدوره وحتى الآن..
يتبع
0 تعليقات