نصر القفاص
سمع "شيخ الأزهر" وهيئة العلماء الشيخ "على عبد
الرازق" وهو يقول: "أما عن النقطة الثانية".. وضحت علامات الضيق
أكثر على الوجوه.. لكنهم تشاغلوا صامتين وتركوه يقرأ, كأنهم يريدون أن يقولوا له..
لا طائل من وراء ذلك.. الحكم جاهز قبل أن تحضر وتتكلم!!
قال "المتهم": "قد استقصينا الكتاب أيضا, فلم نجد
ما ترونه وربما كان ذلك استنتاجا لم نهتد لمقدماته.. وقد ورد فى بعض صحائف الكتاب,
شيء يقرب من هذا القول فى تقرير رأى من الآراء لم نرض به.. ومذهب رفضنا آخر الأمر
أن نذهب إليه.. وليس ثمة حرج فى حكاية قول قد رددناه ورفضنا أن يكون قولنا.. بل
نحن قررنا ضد ذلك على خط مستقيم.. نحن لا نشك فى أن الإسلام وحدة دينية..
والمسلمين من حيث هم جماعة واحدة.. والنبى صلى الله عليه وسلم دعا إلى تلك الوحدة
فأتمها بالفعل قبل وفاته.. وأنه كان على رأس الوحدة الدينية.. إمامها الأوحد.. مديرها
الفذ وسيدها الذى لا يراجع له أمر ولا يخالف له قول.. وفى سبيل هذه الوحدة
الإسلامية ناضل عليه الصلاة والسلام بلسانه وسنانه, وجاءه نصر الله والفتح وأيدته
الملائكة وقوته حتى بلغ رسالته وأدى أمانته.. وقلنا لا يرينك هذا الذى ترى أحيانا
فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم, فيبدو لك كأنه عمل حكومى ومظهر للملك والدولة..
فإنك إذا تأملت لن تجده كذلك.. بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التى كان عليه
أن يلجأ إليها تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة.. وليس عجبا أن يكون الجهاد وسيلة من
تلك الوسائل.. هو وسيلة عنيفة وقاسية, ولكن ما يدريك ففعل الشر ضرورى فى بعض
الأحيان, وربما وجب التخريب ليتم العمران.. إلى آخر ما ذكرناه.. وقلنا.. أما بعد..
فتلك جملة لا تلزمنا ولا يحتملها كتابنا.. ولا هى رأينا ونحن بحمد الله منها براء".
كان واضحا أن حضرات الشيوخ لا يركزون فيما يقال.. وأدرك هو ذلك.. فانتقل
لقراءة "النقطة الثالثة" ورده عليها.. كما لو كان يقول لهم.. سأسجل
للتاريخ كلمتى لتحفظها ذاكرة الأزهر وأرشيفه, ولتبقى من بعدى بين أيدي المسلمين
لتدارسها لعلهم ينصفونى اتفاقا أو اختلافا.. فقال: "نحن لم نقل أن نظام الحكم
فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض وإبهام.. ونحن نبرأ من هذا
الاعتقاد.. أما عن "النقطة الرابعة" فكلامي عنها يوضحه الكتاب..
وبالنسبة "للنقطة الخامسة" أقول: نحن نرى ما قررناه فى الكتاب من أنه لم
ينعقد بين المسلمين صحابة وغيرهم إجماع على وجوب الإمام بالمعنى الذى اصطلح
الفقهاء على تسميته بالخليفة..
ونحن نعتقد أننا فى ذلك نقف فى صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة,
ومن سلف هذه الأمة وعلمائها الصالحين الذين لا يمكن الطعن فى دينهم ولا علمهم..
وليس صحيحا أننا ننكر إجماع الصحابة على أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها فى الدين
والدنيا.. وقررنا ذلك بوضوح فى كتابنا.. وإن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة أو
الخلافة ذلك المعنى الذى يريده علماء السياسة بالحكومة.. كان صحيحا ما يقولون من
أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة فى أى
صورة كانت.. أما إذا أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص الذى يعرفونه, فدليلهم أقصر
من دعواهم وحجتهم غير ناهضة".
ثم ذهب الشيخ "على عبد الرازق" إلى "النقطة
السادسة" ليقول: "نحن قررنا أنه لا شك فى أن القضاء بمعنى الحكم فى
المنازعات وفضها كان موجودا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم.. كما كان موجودا عند
العرب وغيرهم قبل أن يجيء الإسلام.. وقد رفعت إلى النبى خصومات فقضى فيها.. وقال:
إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض.. فمن قضيت إليه بحق أخيه شيئا
بقوله, فأنا أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها.. وأضاف قائلا: فى التاريخ الصحيح
شىء من قضائه عليه السلام فيما كان يرفع إليه.. وقد فسرت ذلك.. فأما جعل القضاء
وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة, واتخاذه مقاما ذا أنظمة معينة وأساليب
خاصة.. فذلك هو الذى قررنا أنه من الخطط السياسية الصرفة, ولا شأن للدين بها.. فهو
لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها.. إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.. والذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة
شرعية قالوا أن القضاء خطة مختصة بالخلافة ومتفرعة عنها وداخلة فيها.. وقالوا أن
نصب القاضى من ضرورات نصب الإمام فكان فرضا.. القضاء عندهم إذن يستمد حكمه من حكم
الخلافة أو الإمامة العظمى.. فمن أنكر الخلافة.. أنكر القضاء.. وقد عرفت ما توارد
على الخلافة من إنكار.. وذلك الإنكار كله ينصب حتما على القضاء أيضا.. ويزيد
القضاء عن الخلافة لما نقله بعضهم من أن الإمام أحمد فى أظهر رواياته يرى أنه ليس
من فروض الكفايات, ولا يجب على من تعين له الدخول فيه وإن لم يوجد غيره.. والشرح
فيه تفاصيل أكثر بالكتاب".
ثم نأتى "للنقطة السابعة" ونقول: "الذى قررناه هو
أن زعامة النبى صلى الله عليه وسلم كما قلنا, كانت زعامة دينية.. وأردنا بكونها
دينية أنها جاءت عن طريق الرسالة.. لذلك قلنا عقب كلمة دينية بالنص.. جاءت عن طريق
الرسالة لا غير.. فذلك صريح فى أن الزعامة الدينية معناها الزعامة التى تستند إلى
الرسالة والوحى.. وتقابل الزعامة الدينية بهذا المعنى الزعامة اللادينية فهى لا
تستند إلى وحى أو رسالة.. كذلك قلنا أنه طبيعى ومعقول إلى درجة البداهة ألا توجد
بعد النبى زعامة دينية.. أما الذى يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك, فهو نوع من
الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين.. هو إذن نوع لا دينى.. وإذا
كانت الزعامة لا دينية, فهى ليست شيئا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو
السياسية.. زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين.. وأما إذا أريد بكلمة لا دينية
معنى آخر غير ما هو واضح بالكتاب, فذلك ما لا شأن لنا به".
انتهى الشيخ "على عبد الرازق" من قراءة ردوده, ولم يسمع
أى تعليق أو سؤال.. فالجلسة كانت مجرد إجراء شكلى, وشيوخ الأزهر بكبيرهم ارتضوا أن
يضعوا أنفسهم فى هذا الموقف.. لذلك أذن "شيخ الأزهر" للقاضى الذى جعلوه
"متهما بالتفكير" بأن ينصرف.. وبعد وقت قصير تم إعلان الحكم على أن يتم
نشر أسبابه فيما بعد.. فقد كان الحكم السابق التجهيز هو المهم, لأن هناك من ينتظره
فى القصر!! وقرأ "شيخ الأزهر" منطوق الحكم كالآتى: "حكمنا نحن شيخ
الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ على
عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية ومؤلف كتاب
الإسلام وأصول الحكم من زمرة العلماء".. وفى التفاصيل وشرح الأسباب أضافت
هيئة "محكمة الأزهر" عزله من وظيفته وحرمانه من أى وظيفة!!
لأن المشهد كارثى بكل المقاييس.. بقى شاهدا على خلط الدين بالسياسة
وعواقبه.. وبقى صفحة لا يحب "شيوخ الأزهر" تذكرها أو الحديث عنها, لذلك
راحوا يواصلون تجويد "إعدام قاضى وعالم" بتجاهل كتابه وأفكاره.. سمحوا
للذين يمارسون الدجل بالترويج "للخلافة" أن يعيدوا طرح جهلهم.. بل ذهب
بعضهم إلى مناقشة القضية – رفضا وتأييدا – بسطحية وسذاجة, وتركوا الكتاب الذى
"زلزل مصر" مهجورا وتناسوا سيرة صاحبه الذى يستحق أن يكون عنوانا من
عناوين فخار الأزهر كما هو "رفاعة الطهطاوى" و"محمد عبده"
و"طه حسين".
خرجت صحف صباح يوم 13 أغسطس عام 1925 لتتحدث عن محاكمة
"القاضى العالم" وطرده من زمرة علماء الأزهر لإرضاء جلالة الملك
"فؤاد" الباحث عن لقب "خليفة المسلمين" ولتهدئة خواطر
المستعمرين الذين يبحثون عن ألعوبة جديدة تحمل اللقب ليسهل مهمتهم فى استمرار
استعباد ونهب الدول الإسلامية وغيرها من دول العالم الذى جعلوه ثالثا بجرائمهم..
وانفجرت الأزمة خارج الأزهر فى ميدان السياسة, لتستمر لوقت غير قصير.. لم تنته
بإقالة "عبد العزيز باشا فهمى" وزير الحقانية ولا استقالة ثلاثة وزراء
يمثلون حزب "الأحرار الدستوريين" من حكومة ائتلافية كانت تضم معه حزب
"الاتحاد" الذى فبركه "القصر لضرب حزب "الوفد" وزعامة
"سعد زغلول" وانتقل الملف بتفاصيله إلى صحف بريطانيا وفرنسا وغيرهما من
الدول الأوروبية.. ولأن البرلمان كان مجمدا.. لم يناقش نواب الشعب الموضوع.. لكن
تداعياته انعكست على المشهد السياسى, فدفعت نواب الشعب إلى تحدى الملك والحكومة
وعقد جلسة لهم بفندق "الكونتننتال" الذى كان كائنا بميدان
"العتبة" وبسبب الأزمة نفسها احترق حزب "الاتحاد" وكادت تتكرر
أحداث ثورة 1919 وتكشفت حقائق وأسرار مذهلة.. نشرتها الصحف حين راحت تتبادل القصف
دفاعا وهجوما على الشيخ "على عبد الرازق" ولأن السياسة تفرض كلمتها..
فقد تم رد الاعتبار "للقاضي المتهم" فيما بعد.. بل أصبح وزيرا للأوقاف..
وترك الوزارة بمعركة شرسة, وموقف ناصع آخر خلد اسمه كوزير.. كما خلده علمه وفكره..
وتلك تفاصيل تستحق أن تعرفها وتطلع عليها..
يتبع
0 تعليقات