محمود جابر
قلنا فى الحلقة السابقة أن محمد بن عبد الوهاب ادعى تمسكه بالسلف، غير ان الحقيقة انه لم
يتمسك يوما إلا بكلام شخصين الأول هو ابن تيمية والثاني ابن القيم اللذين مثلا له
المرجعية الفكرية والرافد الرئيس في منهجه .
وحتى نتعرف
على أصول منهج محمد بن عبد الوهاب لابد من معرفة الأول والثاني ....
الأول :ابن تيمية الحرانى
هو أحمد
بن عبد الحليم بن تيمية حفيد الفقيه بن تيمية الحنبلي ، ولد بجانب حران ببيت علم
من الحنابلة سنة 661هـ ، وقد أتى والده عبد الحليم مع ذويه خوفا من حران الى الشام
خوفا من المغول 667هـ .
تميز
بذكاء شديد وقدرة على جمع العلم والاستيعاب حتى الاستحسان وثناء الكثير من العلماء
في أول أمره ، قال الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن تيمية ( كان يتكلم على المنبر على
طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر
مالا يقدر أحد أن يورده في عدة مجالس ، كأن هذه العلوم بين عينيه ، فيأخذ منها ما
يشاء ويذر ، ومن ثم نسب أصحابه الى الغلو فيه ، واقتضى له ذلك العٌجب بنفسه ، حتى
زها على أبناء جنسه ، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قويهم
وحديثهم حتى انتهى الى عمر ( ابن الخطاب ) فخطأه في شيء .... وقال في حق على (ابن
أبى طالب ) أخطأ في سبعة عشر شيئا خالف فيها نص الكتاب ... )[1].
قال عنه
المحدث الحافظ الفقيه ولى الدين العراقي في كتابه الأجوبة المرضية على الأسئلة
المكية ) :
"علمه
أكبر من عقله " وقال أيضا " إنه خرق الإجماع في مسائل مثيرة قيل تبلغ
ستين مسألة بعضها في الأصول وبعضها في الفروع خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها
" ، وتبعه في ذلك خلق كثير من العوام فأسرع علماء عصره بارد عليه ، منهم
الإمام الحافظ تقي الدين على بن الكافي السبكى ، قال في ( الدرة المضيئة ) ما نصه
:
( أما بعد
فإنه بعد ما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أمور العقائد ، ونقض من دعائم الإسلام
الأركان والمعتقد ، بعد أن كان مستترا بالكتاب والسنة ، ومظهرا أنه كان داع الى
الحق هاد الى الجنة ، فخرج عن الإتباع الى الابتداع ، وشذ عن جماعة المسلمين
بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية في الذات المقدسة ، وأن الافتقار إلى
الجزء ليس بمحال ، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى ..) ، وقد تخلى عنه معاصروه كالتاج الفزارى وابنه
البرهان ، والجلال القزوينى ، والكمال الزملكانى ، و محمد بن الحرير الانصارى
والعلاء القونوى وغيرهم بعد أن بدأ في إذاعة فتنته ولم يأبه بالنصح .
وله حادثة
شهيرة في صحن المسجد الأموي بدمشق وقد ضربه الناس بالنعال ، حيث يروى أبو الحسن
على الدمشقي عن أبيه قال : ( كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ ، وتعرض لآيات
الاستواء ثم قال :" واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا " فوثب الناس
عليه وثبة واحد وأنزلوه من الكرسي ، وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال ..) [2].
وقد كان
دأب ابن تيمية على إتباع أسلوبا غريبا لنصرة مذهبه مبنية على التشهير والتشنيع
لمخالفيه هو وأشياعه حتى تتشوه صورهم في
الأذهان ، وقد كان لا يتردد في رمى المسلمين بالشرك الأكبر (الكفر) لأقل الأسباب [3]. وكذلك تضعيفه
واتباعه لكل حديث يخالف منهجهم ، من غير عودة الى العلل الحقيقية لتضعيفه ، فيكفى
لذلك أنه مخالف لمنهجهم ، فالحديث يجب أن يتبعهم لا أن يتبعوه ، ولهذا قال الذهبي
مخاطبا ابن تيمية (يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك ، بل في كل وقت تغير عليها
بالضعيف والإهدار ، أو التأويل والإنكار [4] .
مثل هذا
السلوك الدائم والمتبع من ابن تيمية مع تعاظم فتنته بين العامة ، فقد استتيب مرات
، ومرات وهو ينتقض مواثيقه في كل مرة ، ومنع من الفتوى ، وعزر وحبس مرات ومرات ،
وكان حبسه الأخير بفتوى من القضاة الأربعة [5]، وحكموا عليه بأنه
ضال يجب التحذير منه كما قال ابن شاكر الكتبى في عيون التواريخ ، وهو من تلامذة
ابن تيمية نفسه ، وأصدر عليه حكما سمي مرسوم الملك قلاوون يقضى بسجن ابن تيمية بعد
أن خاض في مسائل الذات والصفات وأظهر البدع ، وبمنعه من التصرف والظهور وكان نص
المرسوم : (بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي تنـزّه عن الشبيه والنظير
وتعالى عن المثل فقال عزَّ وجل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} أحمده على أن
ألهمنا العمل بالسنَّة والكتاب ، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ،
وينزِّه خالقه عن التحيُّز في جهة لقوله تعالى {وهو معكم أينما كنتم}وأشهد أن
سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته ، وأمر
بالتفكر في آلاء الله ونهى عن التفكر في ذاته ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع ، وشيّد الله بهم من قواعد الدِّين الحنيف ما
شرع ، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع . وبعد فإن العقائد الشرعية ،
وقواعد الإسلام المرعية ، وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية ، هي الأساس
الذي يبنى عليه ، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه ، والطريق التي من سلكها فقد فاز
فوزاً عظيما ، ومن حاد عنها فقد استوجب عذاباً أليما ، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها
ويؤكد دوامها ، وتصان عقائد الملة عن الاختلاف ، وتزان قواعد الأئمة بالائتلاف ،
ويفرَّق من فِرَقِها ما اجتمع . وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ،
ومدَّ بجهله عنان كلمه ، وتحدَّث في مسائل الذات والصفات ، ونصَّ في كلامه الفاسد
على أمور منكرات ، وتكلَّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون ، وفاه فيما اجتنبه
الأئمة الأعلام الصالحون ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام ، وانعقد على خلافه
إجماع العلماء والحكام ، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخفَّ به عقول العوامّ ،
وخالف في ذلك فقهاء عصره ، وعلماء شامه ومصره ، وبعث برسائله إلى كل مكان ، وسمّى
فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان… الخ المرسوم. [6]
لقد جاء
ابن تيمية بكل غريب وشاذ وقد أجمع أهل زمانه من العلماء بانحرافه وزيغه وليس من
العجب أن يموت في محبسه بسجن قلعة دمشق في الثاني عشر من ذي القعدة سنة 728هـ ،
غير مأسوف عليه .
وللحديث
بقيه
الإخوان المسلمون القصة الكاملة (3)
[1] - ابن حجر ، الدرر الكامنة (1/144) .
[2] - ابن حجر العسقلاني ، الدرر الكامنة ، 1/154 ، ورواها أيضاً ابن بطوطة في
رحلته ص 95 ، فيدعي الحشوية اليوم أن القصة مختلقة فيسمونها "الكذبة
البطوطية" وفي هذا دلالة على جهلهم بشيخهم فابن تيمية لم يؤدب بالسجن إلا على
مثل هذه الأفكار فمن أين لهم نكران سجنه وأفكاره التي جاهر بها وتلميذه ابن القيم
في كتبهما ؟! هذا ومجاهرتهم بالعقيدة الفرعونية بأن الله في السماء – يسميها
علماء المسلمين فرعونية لأن فرعون أول من قال بها {وقال فرعون يا هامان ابن لي
صرحا لعلي أبلغ الأسباب .أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} ولعل الوهابية
سيقولون أن فرعون كان على عقيدة صحيحة ، أو أن موسى عليه السلام قال له ذلك فآمن
بدعوة موسى ! – والقول بأن الاستواء هو القعود على الكرسي ليس له
تمثيل جيد إلا جلوس ابن تيمية على كرسيه ، ولو كان الوهابية يعقلون القرآن لعلموا
أن الكرسي لا تسعه السماوات والأرض {وسع كرسيُّه السماوات والأرض} ولأن القارئ
وهابي يجب أن تشرح له معنى الضمة في آخر كلمة كرسي ومعنى الفاعل في النحو ؛ أي أنه
هو الذي وَسِعَ السموات والأرض فالسموات
مفعول به والأرض معطوف على المفعول به.
[3] - العلامة جعفر السبحاني ، بحوث في الملل والنحل ، 4/40 ، نقلاً عن العلامة
الكوثري ، تكملة السيف الصقيل ، ص 192.
[4] - نفس المرجع
[5] - شافعي و مالكي وحنفي وحنبلي ولمعرفة أسمائهم راجع مقال (ذكر بعض العلماء
والفقهاء والقضاة من أهل السنة الذين ناظروا ابن تيمية أو ردّوا عليه) بهذا الكتاب.
[6] - المرسوم بأكمله مذكور عند العلامة الهرري ، المقالات السنية ، ص 33-36.
0 تعليقات