محمد قاسم الطائى
تعارف في أدبيات العرب وعاداتهم أن للحرب قواعد وأخلاقيات لا يمكن
للمقاتل ذي المروءة أن يتجاوزها أو يتخطاها ومن ارتكبها عامداً لحِق به عيب العار
عندهم حتى ولد الولد من قبيل- مثلا-ً ضرب المرأة أثناء الحرب، ويشير أمير المؤمنين
"ع" لذلك في إحدى وصاياه: « وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية
بالهراوة أو الحديد، فيعير بها عقبه بعده».
وهذه لم تكن حبيسة العصر الجاهلي فحسب وإنما تأكدت بقوة وزادت في
كلمات النبي الأكرم "ص" بخصوص المراعاة لبعض الاستثناءات التي تنسجم مع
البعد الأخلاقي والإنساني .
فقد روي عن عبد الله بن جندب، عن أبيه:« أنَّ علياً عليه السلام
كان يأمر في كل موطن لقينا معه العدو يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم، فإنكم
بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا قاتلتموهم
فهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا
بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا الستر، ولا تدخلوا داراً إلا بإذني،
ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة إلا بإذني،
وإن شتمنّ أعراضكم وتناولنّ أمرائكم وصلحاءكم فإنهنّ ضعاف القوة والأنفس والعقول،
لقد كنا وإنا نأمر بالكف عنهنّ وإنهنّ لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في
الجاهلية بالهراوة أو الحديد، فيعير بها عقبه بعده » [مستدرك النوري الطبرسي
ج١١،ص٤٠.]
وترجع جذور هذه المراعاة منذ أيام الإسلام الأولى التي كانت تحظى
بقيادة النبي" ص" ومتابعته فيما ينبغي للمقاتل الرسالي من اكتساب
أخلاقيات الشرف والمروءة حتى مع الأعداء في الظروف الحرجة التي تحبس فيها الأنفاس،
والواقع هذه ليست مثالية طارئة بقدر ما تعني بحق للمقاتل الرسالي أن سعيه وجهاده
وتضحيته في سبيل أهداف ومبادئ عليا مقررة، وليس من أجل عقد انتقامية ومصالح دنيوية
زائلة وفرقٌ كبير بين الأثنين .
فقد روي «أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان إذا بعث
جيشاً أو سرية، أوصى صاحبها بتقوى الله في خاصة نفسه، ومن معه من المسلمين خيراً،
وقال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله ـ إلى أن قال ـ ولا تقتلوا وليداً، ولا شيخاً
كبيراً، ولا امرأة ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا..» [مستدرك النوري الطبرسي
(باب آداب أمراء السرايا وأصحابهم) ـ ج 11 ص 39 رقم الحديث 1237]
وتجسدت هذه المسيرة عملياً في شخصية أمير المؤمنين "ع" ولما
سيطر أهل الشام على ينابيع الفرات ومن ثم منعوا من شربه جيش الإمام علي
ع"ولما حصل العكس فلم يعاملهم الإمام علي بالمثل والجزاء كما عاملوه! وحين
وصل جيشه إلى شراع الماء رفض بعضهم أن يسقوهم كما فعلوا بهم من قبل، فما كان من
أخلاق الإمام أن يمانع بل أباح لهم ورود الفرات بعرضه العريض؛ فيالله والنفس
الكبيرة! ويالله وللحقائق التاريخية كيف تحرف فيصبح مثل علي "ع" قاتل
الأحبة ومفرّق الأمة ومثل معاوية جامع الأمة وكاتب الوحي المسدّد!
تحدثت المصادر التأريخيّة تقول: ففي معركة صفين غلب معاوية على ماء
الفرات ومنع جيش أمير المؤمنين عليّ (ع) من الماء، فلما سمع عليّ ذلك قال: قاتلوهم
على الماء فقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب عليّ، فلم يمنعه
(ع) عن أعدائه قائلاً لجيشه: خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم فإنَّ الله نصركم
ببغيهم وظلمهم»
[تاريخ ابن الأثير ـ ج 3 ص٢٨٥، والإمامة والسياسة لابن قتيبة ـ ج 1
ص 124 ـ 126 شرح بن أبي الحديد ج٣،ص٣١٩ ]
وهكذا تجسدت أخلاق الحسين "ع" في مواطن عديدة منذ قدومه
المدينة حتى الوصول إلى أرض كربلاء، ومن هذه المواطن - موقف الحر بن يزيد الرياحي
بعد ما دارت مشدات كلامية بينه وبين الإمام، في البدء أن الحر جاء ضمن أوامر
لتسليم الإمام الحسين لعبيد الله بن زياد لكن لم يستطع بعد ذلك، ومجيء جيش الحر
حسب رواية الشيخ المفيد كان في وقت حر الظهيرة فقال الإمام الحسين" ع"
لأصحابه :
«اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفاً، ففعلوا وأقبلوا
يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو
أربعاً أو خمساً عُزِلَت عنه وسقوا آخر، حتّى سقوها كلّها» [الارشاد ج٢،ص ٧٨]
ومن ذلك نستفيد أمور :
الأول : أن خطوات معسكر أهل الحق المتمثلة بشخص الحسين
"ع" ناظرة نحو أهداف ومصالح عليا بصرف النظر عن تحديد مصاديقها، والتي
بذلك تضع مائز أساسي بين قواعد الحرب السائدة آنذاك- وبين أخلاقيتها، وسنلاحظ
أثناء مسيرة الإمام أن جملة من الإجراءات التكتيكية حصلت في الطريق تشكل أبرز
المصالح الشريفة في إضعاف الباطل وأهله؛ ومن الواضح أن تحديد مساحة المصالح راجع
لنفس الإمام "ع"القائم بهذه المهمة .
ثانياً : قياس مع الفارق فيما توهم بعضهم بين دفن النبي
"ص" لآبار بدر ومنع الماء عن مشركي قريش وبين منع الماء عن أبي الأحرار
الحسين بن علي بدعوى أن هذه قواعد الحرب السائدة عند العرب!
ويرد ذلك: أن فعل النبي "ص" كان ناظر لوجود وعدم وجود من
بقاء الإسلام حيث أن آبار بدر تشكل محطة حيوية لجيش المسلمين آنذاك وأن الإخلال
بذلك يعني فناء الإسلام وأهله ، وبذلك سبق النبي" ص" بمعية المسلمين
الوصول إليها قبل أن يصل إليها مشركي قريش بخلاف ما قام به عمر بن سعد من منع
الحسين "ع" وأصحابه من ماء الفرات التي لا يوجد أحد على الإطلاق يعتقد
أن الحسين ليس بمسلم بما فيهم يزيد ومن خرج لقتاله أقصى ما هنالك أن بعضهم يعتقد
أن الحسين" ع" خرج على إمام زمانه والأكثرية منهم خرج لمحاربته من أجل
الدينار والدرهم ورضا السلطان كما تبين لاحقاً بعد الواقعة .
إذن ما صنع بأبي الضيم وأهله يتنافى تماماً مع أخلاقيات الحرب وشيم
الأحرار السائدة عندهم؛ والأدهى من ذلك أن الأجساد الطاهرة تعرضت للتمثيل والتقطيع
والسحق، وقد تحدثت بعض أرباب المقاتل أن عمر بن سعد أمر الخيول أن تطأ صدر الحسين
فلهفي عليك يا تريب الخد ومقطع الأوصال، لهفي عليك يا صريع الدمعة الساكبة وحيداً
غريباً بين عساكر الظلام تخاطب القوم لم يفقهوا ما تقول وأنت تفصح لهم عن بيان
القرآن ومعدن الوحي والتنزيل- سيدي أبا عبد الله لئن كان عمر بن سعد وشمر واحد
فاليوم ألف شمر وألف عمر بن سعد وألف عبيد الله بن زياد كلهم يسعى لذبحك من الوريد
إلى الوريد فليذهبوا جميعاً سُدى وأنت الوتر في الخالدين لم تزل .
0 تعليقات