عز الدين البغدادي
يعلل كثير من الناس وخصوصا من كبار
السن ما يحصل لنا من بلاءات متكررة بأنه يرجع إلى أننا أكلنا الحرام، وبسبب ذلك
فلن تتغير حالنا وسنبقى من مأزق إلى مأزق، وهكذا.
هناك قصة مشهورة نسمعها من الصغر، يذكرونها
كدليل على هذا الرأي، وهي تتحدث عن مدينة لم يستطيع أي حاكم أن يستبدّ بها، أو
يخدع سكانها أو يسيطر عليهم، فسرعان ما يقف أهلها في موقف واحد ضد أيّ خطأ يرونه.
بعد فترة جاءهم حاكم ماكر، وعلم أنّ هؤلاء واعون ومن الصعب خداعهم، ففكر أنّ أفضل
طريقة للتخلّص من هذه الحال هو أن يجعلهم يأكلون الحرام (بحسب القصة)، فدعاهم إلى
أن يتبرعوا لمدينة مجاورة حصل فيها نكبة أو زلزال أو شيء من هذا القبيل... تبرّع
الناس بما لديهم وبما تجود به أيديهم حتى اختلطت الأموال، وعندها طلب الحاكم منهم
أن يسترجع كلّ واحد مهم ما أعطاه لانتفاء الحاجة إليه. إلا إنهم لما أرادوا أن
يفعلوا ذلك، سوّلت نفوس كثيرٍ منهم أن يأخذوا غير أموالهم، فبدأ يدبّ بينهم
الخلاف، وعندها قال الحاكم: الآن تمكنّت منكم.
وهذه القصة كثيرا ما يستشهد بها كدليل
على صحة هذه الدعوى، فهذا الحاكم لم يتمكن منهم حتى أكلوا الحرام، وبالتالي رفع
الله عنهم الرحمة.
هذا الكلام من الأوهام التي يرددها
البعض ويحاول البعض أن يثبتها في الوعي العام وخصوصا من رجال الدين الذين يربطون
كل شيء بالحرام أو الذين لا يملكون رؤية تتجاوز هذه المفاهيم. وهي أيضا فكرة تجد
تأييدا من الحاكم الفاسد لأنها ترفع المسؤولية عنه وتلقيها على الشعب الّذي أسخط
الله فعاقبه بذلك.
وواقعا فإن الأمر لا يرجع إلى أنهم
أكلوا الحرام، بل لكون الحاكم أوقع بينهم الخلاف، فمن بيده السلطة يمكن مفاتيح
الوعي، ويستطيع أن يقوم بأمور يتمكّن بها من السيطرة على المجتمع، فهناك مآخذ يمكن
أن يدخل بواسطتها، وخيوط يستطيع أن يلعب بها، اللّهم إلا إذا كان هناك وعي حقيقي
يتجاوز التديّن البسيط. وإلا فإنّ من الممكن دائما أن يتم استغلال الدين للخداع،
ويندر من يتنبّه إلى ذلك أو يعيه، بل إنّ كل اعتقاد ديني فيه جانب عاطفي يمكن
الدخول منه.
هذه الفكرة من الأفكار السيئة والمدمرة
التي تضخ إلى الناس، وتحاول أن تزرعا وعيا زائفا، والوعي الزائف يجعل الإنسان يفكر
لكن بطريقة خاطئة، يمرس تفكيرا لكنه ليس بتفكير، بل مجرد عملية خداع للذات وتبرير
للوهم.
هذا الطرح يقول للناس: أنتم سبب ما
أنتم فيه، وليس الحكام. أنتم أكلتم الحرام، ففعل الله بكم ما فعل.
لكن، هل هذه هي مشكلتنا فعلا؟ أليست
هناك دول قامت على اغتصاب حق الآخرين وأوطانهم مثل أمريكا وكندا واستراليا
ونيوزلندا والكيان الصهيوني، وهي دول لم يؤثر عليها أكل الحرام بل تقدمت وتتقدم
باستمرار، دون أن يقفوا عند مسألة أكل الحرام ويفلسفوها.
إن المسألة لا تتعلق بذلك، بل تتعلق
باشتباك المصالح، فالسلطة الفاسدة دائما لا تتعامل مع الناس بالمساواة، بل تفضل
بعضهم على أساس عشائري أو مذهبي أو ولاء سياسي، وهو ما يجعل مصالح الناس تشتبك،
وهو ما يجعل المواطن يشعر بأنه مظلوم في وطنه وأن حقه مسلوب منه، وهو ما يجعله
يفضل مصلحته الخاصة على العامة، وهو ما يسمح له بأن يسرق أو يأكل الحرام، فأكل
الحرام ليس سبب ما نحن فيه بل نتيجة...
0 تعليقات