آخر الأخبار

سياسة الحسين… بين الرؤية والانتحار

 





 

عز الدين البغدادي

 

 

هل كان الحسين صاحب رؤية سياسية حقيقية أم كان إنسانا ينطلق من شعارات دينية دون إدراك للواقع السياسي؟

 

هناك من شكك في وجود رؤية سياسية للحسين ع والدليل هو أن إنّ الحسين لم يستفد من التجارب التي عاصرها وعايشها من مواقف أهل الكوفة من أبيه وأخيه، وأصر على أن يجرّب المجرّب. كما إنّه لم يأخذ بما قدّمت إليه من نصائح بعدم الذهاب إلى الكوفة، وهي نصائح بنيت على تجارب مرّت من قبل لا سيما مع أبيه وأخيه. لقد غرته –كما قيل- كتب أهل الكوفة، فلم يفكر بعواقب الأمور كما ينبغي، وبالتالي فإن ما قام به لم يكن غير عملية انتحار نتيجتها محسومة.

 

برأيي أن هذا الطرح غير دقيق، فالحسين كان يدرك جيدا ما يقوم به، وما يترتّب عليه. وهو صاحب رؤية سياسية حقيقية، إلا أن السياسة بالنسبة له لا تعني تحصيل السلطة ثمّ الحفاظ عليها، بل كان يرى أن السياسة تدبير وإصلاح، وهو يعتمد تطوير الحياة والعمل على تحسينها وإنضاجها ودفع البشر نحو التعلّم والعمل والتعمير.

 

 

وبحسب هذه الرؤية فإنّ السياسة تعني إقامة العدل وإشاعة الأمن ونشر السلام والأخذ بالالتزام بالعهود والمواثيق ورعاية حقوق الآخرين ونشر قيم التسامح والإخاء.

 

لم يكن الحسين ممن تستخفّه ظواهر الأمور، ويدلّك على ذلك ما تجد لديه من تشخيص. وفي بعض الخطب التي ألقاها يبيّن لنا أنّ التديّن وهو حاجة هامّة للإنسان غالبا ما تكون وسيلة عند كثير من الناس بل غالبهم ليكونوا جزءً من وضع المجتمع وبما يجعلهم مقبولين وييسر لهم أن يعملوا وأن يكسبوا. هذه وظيفة الدين عند كثير من الناس، ولا تتجاوز ذلك، لذا قال: إنّ الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإن محصوا بالبلاء قل الديّانون.

 

وهذا الكلام ليس المراد منه ذم المجتمع وانتقاده، بقدر ما يبين عمق إدراكه للتدين ووظيفته الحقيقية في حياة الناس، وعدم انغراره بالحالة الظاهرة. وهذا ما يبيّن أنّ الحسين لم يكن إنسانا متديّنا، يصلّي يصوم يدعو يحجّ، بل كان سياسيّا ليس من حيث العمل فحسب، بل وعلى مستوى متقدّم من التنظير.

 

إلا أن المشكلة كانت تكمن في الخيارات التي يمتلكها الحسين، فأي سياسيّ عندما يتّخذ قرارا ما، فإنّ هذا القرار يعتمد على نظره للواقع، وهذا ما يحدّد اختياره. فلا يمكن أن نحكم على موقف ما بحسب النتيجة فحسب، بل لا بدّ أن ننظر للاحتمالات التي كان الواقع قد أفرزها والتي يمكن أن يتحرّك المرء بينها.

 

كيف نظر الحسين للواقع؟ لقد رأى أنّ يزيد يمثّل خطرا عظيما، وأنّ مبايعته بل ومجرّد سكوته عن يزيد سيكون موقفا سلبيا لا يليق بخطر الظرف. فكان أمام خيارات كلّها صعب مستصعب: فإنْ سكت فإنّ بني أميّة لن يتركوه حتى يأخذوا منه البيعة ليزيد. وإن بايع، فيكون ملزما بطاعة يزيد ما دام قد أعطاه صفقه يده.

 

أحيانا يكون الإنسان أمام موقف لا بدّ أن يركب فيه مركبّا صعبا، وإن لم يكن مقتنعا به من حيث إمكان تحقيق النتائج التي يرغب بتحقيقها، لكن لا بدّ من ذلك بحسب الظرف.

وتأكيداً على ما قلت لك من أنّ الحسين لم يكن ممن تستخفّه كتب القوم التي أرسلوها، فيمكن أن تلحظ أنّه كان حزينا إلى حدّ ما حتى لتقرأ الحزن بل واليأس من الحياة في كلامه، وهو واضح من قوله: إن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرَّت جدا فلم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به وانَّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما.

 

وهذا ليس كلام رجل استخفته الكتب أو الوعد بالنصر أو الألوف المؤلفة.

 

ولا ننسى أن الكثير من مشايخ الصحابة وعقلائهم نصحوه بعدم الخروج إلا أنه لم يأخذ برأيهم، فما هو تبرير ذلك؟ هناك ممن يختصر ذلك فيقول: إنّ الحسين لم يأخذ بهذه النصائح؛ لأنّه كان يعتقد بأنّ الموت قدر مكتوب لن يأتي إلا بوقته، وإنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها. وهذا رأي يختصر كلّ شيء وكفى الله المؤمنين شرّ التفكير.

 

إلا أني اعتقد إنّ ما جعل الحسين يرفض هذه النصائح أمور منها:

 

• ان عدم خروجه لا يمكن أن يتم بانعزاله، بل لا بد من البيعة ليزيد وهذا أمر لم يكن مقبولا بأي حال، كان يعلم أن بني أميّة لن يتركوه حتى يقتلوه، وقد ذكر ذلك غير مرّة، فقال: وأيم الله، لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم! والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت.

 

وعندما سأله الفرزدق: ما أعجلك عن الحجّ؟ قال: لو لم أعجل لأخذتُ.

• كره الحسين أن يبقى في مكة، أو في الحجاز لأنه لم يحب أن تكون المواجهة معهم في الحرم، لذا قال: ولأن أقتل خارجاً منها بشبرين؛ أحبُّ إليَّ من أن أقتل خارجاً منها بشبر.

 

• إنّ هناك قرائن موضوعية جعلت الحسين يعتقد أنّ تحقيق النصر أمر ممكن، لا سيما مع الكتب التي جاءته وكثرة شيعته وأنصاره في الكوفة، فضلا عن كون ذلك الموقف أقام حجة شرعية وأخلاقية عليه. إنّ هؤلاء الّذين نصحوا الحسين ظنّوا أنّ الحسين مثلهم في الوضع والتكليف، ولم يكن الحسين كذلك. فلئن كان هؤلاء قادرين على تبرير السكوت، فلم يكن الأمر كذلك عند الحسين. لقد كان تكليف الحسين أن يخرج، لا بمعنى أنّ هناك أمراً جاءه كما قيل، بل بحسب قراءته للوضع. والخطأ الّذي حصل لم يكن في الحسين حيث خرج، بل في تأخّر الناس عن نصرته بعدما رأوا من جور بني أميّة وظلمهم.

 

• إن الحسين بحسب ما يؤمن به بل وبحسب ما حدث ويحدث لم يقاتل بحساب العدد، فقد كان القرآن يؤكّد دائما على أنّ النصر لا يقترن دائما بالكثرة، كما قال عز وجل:( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ). وهذا ما أكّد عليه الشريف الرضيّ وهو يبرّر ذلك فقال: فأما محاربة الكثير بالنفر القليل، فقد بيّنا أن الضرورة دعت إليها، وان الدين والحزم ما اقتضى في تلك الحال إلا ما فعله، ولم يبذل ابن زياد من الأمان ما يوثق بمثله. وإنما أراد إذلاله والغض من قدره بالنزول تحت حكمه، ثم يفضي الأمر بعد الذل إلى ما جرى من إتلاف النفس.

 

إذن، تحرّك الحسين بحسن الواقع، فقد كان ينظر الى وضع حرج، ولم يكن ممكنا إلا أن يطرح حلا سريعا، ولأنه حلّ سريع فإن احتمال النجاح لا يمكن أن يكون كبيرا.

 

الواقع هو الّذي جعل جيش ابن زياد ينتصر، كما إن الإيمان هو ما جعل قضيّة الحسين تنتصر رغم هزيمتها عسكريا.

 

وهنا يكمن العجب!

 

إرسال تعليق

0 تعليقات