آخر الأخبار

مسرحية : ع الرصيف وتلويث تراثنا الوطني

 

 





 

بقلم : فاروق عبدالقادر

 

منذ سنوات لم تشهد الحياة المسرحية في مصر مثل هذا القدر من الاهتمام والجدل حول عمل من الأعمال. وإذا كان المألوف فيما مضى أن يدور الجدل حول أعمال المسرح الجاد أو مسرح الدولة أو ما شئت من هذه المسميات فإنه يدور - هذه المرة - حول عمل من أعمال المسرح التجاري أو المسرح الخاص (وليس لهذا من سابقة تستحق الذكر إلا حين عرضت المسرحية سيئة السمعة "يحيا الوفد" في 1975)، والعمل هو "ع الرصيف" من (تأليف) نهاد جاد، وأضع الكلمة بين قوسين لأسباب ستتضح فيما يلي - وإخراج جلال الشرقاوي وأداء سهير البابلي وحسن عابدين وآخرين.

 

 

والحقيقة أن جلال الشرقاوي ليس مخرج العمل فقط، لكنه صانعه وصاحبه بالمعنى الحرفي للكلمات، فهو المنتج والمخرج وصاحب المسرح والفرقة ومديرهما المتفرغ، وهو يستثمر فيه كل أسلحته (كتب محرر المسرح في صحيفة "الوفد" - والذي أشاد بالعمل دون حياء أو تحفظ - أن جلال "دفع من أمواله الخاصة في هذه المسرحية ما يعادل ميزانية هيئة المسرح الرسمية" ! 10/1/86، ومن ثم وجب أن يكون هو البداية.

 

تحقيق الرواج أولاً !

 

وجلال الشرقاوي (1934) حالة نموذجية - بالمعنى الذي يقصده الأطباء - لهذا الجيل من المسرحيين، بعد أن تخرج في الجامعة (كلية العلوم) ومعهد المسرح، سافر للدراسة في موسكو، لكنه تحول إلى باريس مع طلاب البعثات الذين حولوا لمعاهد الغرب في أعقاب صدام عبدالناصر مع السوفييت نهاية الخمسينيات، وفي "الإديك" درس تاريخ السينما مع جورج سادول، وقدم رسالة منشورة بعنوان "في تاريخ السينما العربية" (1970) تضم قائمة الأفلام المصرية - فالرسالة مقصورة عليها رغم عنوانها العام - منذ نشأتها حتى 1961، وهي قائمة يتشكك كثيرين من السينمائيين في دقة ما حوته من معلومات وحين رجع في 63 بدأ العمل بالسينما، لكنه سرعان ما تحول إلى المسرح، حتى أرتبط به اسمه: مخرجًا وممثلاً ومديرًا ومدرسًا للإخراج في معهد المسرح ثم عميدًا له، ومنذ ترك العمادة تفرغ لإدارة فرقته ومشروعاته الخاصة.

 

وقد تميز جلال دائمًا بقدرته الفائقة على تشمم اتجاه الموجة القادمة والتهيؤ للقائها، وأثناء عمله بمسرح الدولة أخرج أعمالاً لرشاد رشدي ولطفي الخولي وميخائيل رومان وعلي سالم وسواهم، وربما رأيت أن هذه الأسماء ذاتها لا تكاد تجمع على فكر بعينه، وقد تتنافر رؤاها ولا تنسجم، لكن "جلال" لم يكن يبالي، هو يبحث في كل عمله يخرجه عما يثير ويجتذب الجمهور، وهو أحد أهم المسؤولين عن تلك الشعارات التي ارتبطت بالمسرح الكوميدي - الأب الشرعي لهذا المسرح التجاري - ومسرح الحكيم، من نوع "ثلاث ساعات من الضحك المتواصل" و"النجاح منقطع النظير"، لا ولاء عنده لشيء سوى "الإقبال الجماهيري" وتحقيق أكبر درجة من الإثارة حول اسمه وعمله (في السنة الأولى لاشتغاله بالإخراج المسرحي قدم عملين أحدهما من تأليف لطفي الخولي والثاني من تأليف أنيس منصور !)

 

وحين وضح أن خط الثقافة الجادة أخذ في الانكسار بعد 67 لم يفقد جلال اتجاهه أبدًا، فكان من أوائل المبادرين لدعم المسرح التجاري ووضع حرفته في خدمته (قد نذكر هنا أنه أخرج لهذا المسرح درته اللامعة "مدرسة المشاغبين" في 70، وفي 73 كان يعرض له عملان يشغلان معظم ساحة هذا المسرح: "قصة الحي الغربي" و"هاللو دوللي"، وبلغ به الأمر حد الجمع بين عمادة "المعهد العالي للفنون المسرحية" وإدارة فرقة خاصة، في ذات الوقت، ودون أدنى إحساس بالتناقض !

 

من شريك في فرقة صغيرة (عمر الخيام) إلى مالك ومدير فرقة قوية خاصة، يقود جلال الشرقاوي دفة لون خاص من المسرح التجاري، يتمثل ذكاؤه - أكثر ما يتمثل - في تغليف الابتذال وإحكام تقديمه، في مجاراة الذوق العام وتأطير نجومه، في معرفة جمهور مسرحه حق المعرفة: أعراب النفط والعاملين في ديارهم والمتعلقين بحبال الانفتاح والصاعدين في المجتمع الجديد، وهو - من ثم - يتبنى قيم هذا الجمهور، ويعبر عن آماله وتطلعاته، ويدعم عاداته السقيمة في الذوق والمتعة، ويسري عنه، ويجعل على المسرح نماذجه الأنثوية المفضلة، ويكف عنه أذى التفكير والطموح لواقع أفضل .. وأي واقع عندهم أفضل مما هم فيه ؟ ثم يحيط هذا كله بحرفة "الإطار المسرحي" ممثلة في الألوان الحارة والموسيقى الصاخبة والتلاعب بالديكور والستائر، وتقديم أكبر قدر من الأجساد العارية، راقصة أو غير راقصة، في استعراضات لها داع أو دون داع !

 

في عبارة واحدة: جلال الشرقاوي - في المسرح - هو مكافئ نجوم الانفتاح في الاقتصاد والمجتمع، وفي خدمتهم، وولاؤه الوحيد هو ذات ولائهم الحصول على مزيد من الثروة، وتحقيق مزيد من الرواج .. و .. شباك التذاكر لا يخطئ أبدًا.

 

هذا هو .. فما وجه الاهتمام، إذن، والجدل ؟

 

السيدة نهاد جاد كاتبة صحفية، تعمل مديرة لتحرير "صباح الخير" ونص العمل منشور مع مسرحية أخرى قصيرة سبق أن قدمتها السيدة نعيمة وصفي على مسرح الطليعة في 81/82 (والكاتبة تهدي عمليها لزوجها سمير سرحان الذي علمها كيف تحب المسرح، وقد كتب مقدمة لهما د. عبدالعزيز حمودة الذي لم تفته الإشادة بهذا العرض أيضًا - الجمهورية 9/8/1986) والنص المنشور قصير لا تبلغ صفحاته الخمسين من القطع الصغيرة وهو مشهد واحد لا يستغرق تقديمه على المسرح أكثر من الساعة:

 

صفية مدرسة مصرية أقنعها زوجها ليلة زفافهما بالسفر للعمل في الكويت، حيث قضت عشر سنوات متصلة لم تأت فيها للقاهرة مرة واحدة كي توفر المال الضروري لشراء تلك "الأشياء" التي رجعت تحملها، فوجدت زوجها قد طلقها وتزوج بأخرى بعد أن استولى على بيتها ومالها فلم تجد لها مكانًا إلا على محطة أتوبيس .. وهو عنوان للمسرحية - حيث تلتقي بنموذج ثان هو القاضي كمال عبدالحق .. كان قاضيًا وتعرض لإحدى قضايا فساد السلطة - توحي بأنها سلطة للمخابرات العسكرية أو أجهزة المشير عامر قبل 67 - فيتعرض للتعذيب والفصل عن عمله، لكنه يعود إليه حتى يخرج للمعاش ويتنازل عن شقته لأبنته وزوجها ومن ثم لا يجد مكانًا سوى نفس الرصيف ليجلس ويكتب مذكراته ويتذاكران فجأة أنه كانت لهما حكاية حب قديمة في 56 ويحاولان استعادتها .. ولكن عبدالصبور - الزوج المستغل - يجهض حلم صفية وطفلها المنتظر معًا.

 

تلك مسرحية نهاد جاد يلفت النظر في نصها لون من التلسين ذي الطابع السياسي الذي ألفناه حتى الإملال والإضجار في مسرح السبعينيات وأفلام السينما المصرية - يتمثل في سطور متباعدة يقول كمال عن أحداث 56 جمال عبدالناصر هو أحنا .. وأحنا هو .. البلد كانت ليل طويل وجالها الحلم زي الشهاب ما يلمع وسط الظلام: الفارس الأسمر الطويل خارج من تراب مصر .. بيحلم بمصر جديدة نضيفة شريفة قوية اشتراكية زينا .. ويقول عن موت عبدالناصر - وفي الخلفية أغنية جنازته .. ومات الحلم في لحظة خطفها الزمن من عمر نضال شعب بحاله .. ركن دماغه ومات زي أسد مثخن بالجراح وجروحه بتنزف دم.

 

ويتمثل كذلك في نموذج الانتهازي الذي ينضم لأحزاب السلطة من الاتحاد القومي إلى الاشتراكي لتحقيق مصالحه.

 

إثارة ذات طابع سياسي

ويلفت النظر في النص كذلك هذا التخبط في رسم الشخصيتين الرئيستين وعدم اتساق ملامحهما وإن حاول الدكتور عبدالعزيز حمودة - عميد كلية الآداب كما يثبت صفته بنفسه .. نسبة هذا التخبط إلى تكنيك أكثر ملائمة وهو التعبيرية التي تمكنها من الحركة بحرية واضحة والانتقال من الحاضر إلى الماضي والعكس دون التمسك بحرفية الواقع وقيوده (...) لكن أهم ما حققه هذا الشكل للمؤلفة في الواقع هو قدرتها على إعطاء صفية أبعادًا أكبر من الأبعاد الضيقة للشخصية المحددة، فالمشكلة - كما قلنا منذ البداية ليست مشكلة صفية بل مشكلة جيل بأسره، أم تراها مشكلة مصر كلها في فترة معينة ؟ نعم .. "مصر" هكذا كتب الأستاذ الذي يجلس على مقعد منصور فهمي وطه حسين ومن إليهما !

 

لكن تلك المسرحية القصيرة، الفقيرة، لا يمكن أن تقنع جلال الشرقاوي بأن يضع عليها اسمه وينفق ماله، لهذا اعتمد عليها، وصاغ - مع المؤلفة أو بدونها، فالأمر لا يعنيه ولا يعنينا - عرضًا مسرحيًا أبرز ما فيه هو الإثارة ذات الطابع السياسي، ولجلال الشرقاوي في هذه الإثارة تاريخ متصل :

 

• في 68 خاص جلال ورشاد رشدي معركة حول مسرحية "بلدي يا بلدي" وقد ثارت المعركة حين رفضت السيدة محسنة توفيق - وقتذاك - أن تلعب الدول الأول فيها ووضعت المسرحية موضع - الاتهام فكريًا وسياسيًا وانتهت المعركة بعرض المسرحية وقد لعبت الدور الأول السيدة سهير البابلي ذاتها (ألست ترى البدايات تؤدي أحيانًا للنهايات ؟)

 

وفي المسرحية كشف رشاد رشدي - أكثر وأكثر - عن وجهه الحقيقي الذي يحتقر جماهير الناس في سعيها اليومي، ولا يراها سوى غوغاء تنشط لإشباع الفم والفرج، شعب جاهل متواكل، ينصرف عن المصلح والداعية والثائر، ولا يجتمع إلا حول الحاوي والراقصة، والشخصيات التي يفترض أنها "ثورية" متعالية على الشعب، ومعزولة بعيدًا عنه، مهزومة منذ البداية، وهزيمتها من داخلها لا من خارجها، ودعوى السيد البدوي مغرقة في المثالية والغموض، وانعزاله عن الناس هو هزيمته وفشله.

 

ولم يقف جلال الشرقاوي عند هذا كله، وما كان له أن يقف، يكفيه أن أقام على المسرح "مولدًا" حقيقيًا صاخبًا، يزدحم بالذاكرين والمنشدين والراقصات، والأبطال يغنون مواويل الإلتياع الجنسي المحرق، والسيد البدوي في عزلته يداعبه طيف العاهرة الجميلة المشتهاة: فاطمة بنت بري !

 

• وفي 70/71 وصل جلال الشرقاوي - ومعه علي سالم - لصياغة توليفة من العناصر حققت الإثارة وجذبت الاهتمام والجمهور لعمليهما المتتاليين: "أنت اللي قتلت الوحش" و"عفاريت مصر الجديدة" وأهم هذه العناصر - في التحليل الأخير - البحث عن قضية ساخنة (هزيمة 67 في الأولى وحوادث الاعتقالات والتعذيب في الثانية التي عرضت بعد مايو 71)، ثم تمييعها وخلط أوراقها، بكل الوسائل المتاحة:

 

الرقص الشرقي والتلميحات الجنسية والنقدات الجزئية لمظاهر الحياة اليومية، والإحالة لأحداث معروفة، وشيء من الميلودراما، وإطلاق عدد من الكلمات الكبيرة مثل البالونات الملونة، توحي بأنها تأخذ موقفًا من الواقع، وتناقش أخطر قضاياه. هذه الكلمات بالذات ترضي قطاعًا بعينه من الجمهور فلا يزال المسرح مسرح الدولة، ولازال الجمهور لم يفسد تمامًا بعد !

 

ما أود أن أؤكده حول هذين العملين أنهما كانا آمنين وفي خدمة النظام القائم: في العمل الأول كانت تلقي بين يدي أوديب مقاليد الأمر من جديد، وأهل طيبة متهمون بالعجز، حتى حين خرج إليهم أوديب ينهي إليهم ما كان يمكن أن يدهشهم، وهو أنه لم يقتل الوحش القديم. ضاع صوته وسط ضجيج غنائهم له، والفساد - كل الفساد - مصدره تلك الحاشية، التي يتخلص منها أوديب بسهولة، أما العمل الثاني فيكفيه أنه جسد على المسرح ما رددته أجهزة السادات عما اسمته "مراكز القوى" إضافة لدفاعه البليغ عن جهاز الشرطة ودوره في حماية الناس وتحقيق أمنها !

 

هل يبدو نابيًا في هذا السياق إن أخرج جلال .. بين هذين العملين عملاً في رثاء عبدالناصر، يربط بين موته وموت النبي (حجة الوداع) ؟

 

• وفي 73 كانت العلاقات بين مصر وليبيا طيبة، وثمة اتفاقية للوحدة، بادر جلال الشرقاوي فأخرج مسرحية عن ثائر ليبي اسمه "غوما" بعنوان "الزعيم" من تأليف مصطفى محمود (وهي ليست أول مسرحية يخرجها له جلال)، قدمته لنا - في ثرثرات المؤلف المألوفة - خليطًا مضطربًا من الثائر والمصلح والانتهازي والدرويش والمتفلسف، يتخبط بين هذا كله، فيسلم أسلحته لأعدائه، ويمكنهم من نفسه ورجاله وثورته جميعًا.

 

لكن الهدف كان واضحًا: مجرد إعداد مسرحية للتصدير إلى الغرب، هكذا استعان المخرج بمطرب يؤدي أغنيات باللهجة الليبية، وراقصة ترقص على الطريقة الليبية كذلك .. أي بثيابها الكاملة !

 

• وفي 76 كان السادات في أوج حكمه وكان الشرقاوي في أوج تعاونه مع رشاد رشدي: جلال عميدًا لمعهد المسرح، ورشدي مديرًا لأكاديمية الفنون، كون الاثنان فرقة خاصة، قدمت "شهرزاد" التي كتبها مدير أكاديمية الفنون على نحو ركيك ومضطرب كي يقول شيئًا واحدًا: إن مصر (شهرزاد) كانت أسيرة بين يدي الطاغية شهريار (عبدالناصر) حتى جاء حبيبها الشاطر حسن (السادات) فحررها من أسره !

 

وفي العام التالي قدما "عيون بهية" أيضًا كي يقولا أن مصر هي بهية وأن الأمير الأسمر (السادات) هو عيناها !

 

إثارة سياسية

 

بهذا التاريخ المتصل من استخدام المادة ذات الطابع السياسي في العمل المسرحي، تناول جلال الشرقاوي نص نهاد جاد، فحذف القليل وأضاف الكثير، وكان أهم ما حذفه تلك السطور القليلة التي فاتت عليك عن عبدالناصر، وأضاف أحداثًا وشخصيات، وجعل في بؤرة عرضه المسرحي توابل الإثارة السياسية، وما فعله جلال هنا يمكن وصفه بكلمة واحدة: إنه "تعهير" التاريخ المصري القريب، برجاله ورموزه وأحداثه: من عبدالناصر إلى السادات، ومن 56 إلى 73: عندما يتعرض المستشار للتعذيب يرتفع صوت عبدالناصر: "إن هذا الجيل جاء على موعد مع القدر .." وحين يتفق اللصان يرددان كلمات أغنية عبدالحليم حافظ: أحلف بسماها وبترابها .. وعندما تلفق للمستشار قضية مخدرات يرتفع صوت السادات متحدثًا عن سيادة القانون، وأغنية عبدالحليم عن الثورة: تاريخها وإنجازاتها هي إطار خلفي لكل أحداث المهانة التي يتعرض لها البطلان.

 

هذا من ناحية. من ناحية ثانية ثمة أفاضة البطلة في وصف جفاف حياتها في الكويت، ومصاعبها مع رجال الجمارك وسائقي التاكسي، الذين تضطر للتلويح لهم بالدشداشة والعقال ومحاولتها الحديث باللهجة الكويتية، وارتفاع صوت أغنية سعودية زاعقة، وأخيرًا تلك الشخصية الباهتة للمرأة التي تزوجت ثريًا عربيًا فلقيت الإذلال في بلاده، وعادت لتبرئ ساحة البطلة المظلومة.

 

ومن ناحية ثالثة، هناك النماذج التي أثبتت نجاحها من قبل: الخادمة اللعوب زبونة الشقق المفروشة التي تقبض أجرها بالعملات الصعبة، ثم تعطيها لبليه، الفقير الفهلوي الصاعد بسرعة كي يصبح - كما يصفه المستشار العارف بالقانون - "شهبندر التجار وفارس هذا الزمان .." أضف لهذا كله امرأة بيضاء بضة تقدم رقصتين كاملتين.

 

أقول إن هذا التعهير كله مطلوب لجمهور هذا المسرح، مطلوب لأعراب النفط الذين يشكلون أغلبية الجمهور القادر على استهلاك هذا اللون من البغاء المسرحي، ما يقدم منه على الخشبة، وما يتم في الكواليس (التقاط الصور مع النجوم بأثمان فاحشة يتقاسمها هؤلاء مع صاحب المسرح) أو في البوفيه (فباب المسرح يغلق تمامًا في الاستراحة الوحيدة، حتى لا يأتي أحد من الخارج بطعام أو شراب) ولست أشك لحظة في أن أولئك الأعراب سيسعدون حتى يجدون "فنانين" مصريين، يتوجهون نحو تاريخهم ورموزهم، يلوثون كل شيء بهذه الغلظة والفظاظة، ثم يتوجهون نحوهم ونحو بلادهم بالمداعبة والحديث والإشارة، ويحيلون إلى أحداث معروفة لهم: مع موظفي الجمارك وسائقي السيارات وخادمات الشقق المفروشة.

 

أما القطاع الباقي من الجمهور، أعني المتعلقين بحبال الانفتاح فقد رفع عنهم كل الوزر، إذا لم يكونوا قد انضموا إلى الاتحاد القومي ثم الاشتراكي (يقف الشرقاوي طبعًا عند حزب مصر، فهو لا يجرؤ على التقدم خطوة بعد ذلك، وإذا لم يكونوا من أصحاب البوتيكات، ولم يرغموا زوجاتهم على البقاء في الكويت عشر سنوات متتالية، وإذا لم يسعوا للزواج من بنت "تاجر الخيش" هؤلاء هم المستغلون الفاسدون المفسدون المجرمون المتواطئون ..

أما الذين يخلقون الشروط الموضوعية التي تفرز كل هؤلاء وتجعل بين أيديهم القوة والسيادة، فلا كلمة واحدة عنهم، لأن هذا يكشف جوهر التواطؤ بين المسرح - البغي والزبون !

 

وكلا القطاعين من الجمهور سعيد بأداء هؤلاء "المشخصاتية"، وعلى رأسهم سهير البابلي وحسن عابدين: أعرف وجهًا قديمًا للسيدة سهير، عرفته في أعمال كثيرة (لعل آخرها كان "ليلى والمجنون" في 71) أحببت هذا الوجه وأحبه الكثيرون، أما وجه نجمة "ريا وسكينة" فقد بدا إمكانية مهدرة، ولازمات مفتعلة، وجه النجمة المصبوغ والمصنوع. وجه سهير البابلي "ع الرصيف" وجه المهرجة التي تؤدي "نمرًا" مضحكة، في عصبية وافتعال.

 

أما السيد حسن عابدين فلعل لأبلغ رد على مونولوجه الأخير - وهو من أكثر المونولوجات التي سمعتها على المسرح غلظة وافتعالا وركاكة، والذي يطالب في نهايته بمحاكمة الذين سرقوا مصر - هو ما قاله متفرج بتلقائية من الصفوف الأخيرة حين أجابه صائحًا: "أنت دريت يا عبس" ؟!



مجلة (الهلال) - سبتمبر 1986

 

إرسال تعليق

0 تعليقات