عز الدين البغدادي
بعد ثلاثة أيام (وقيل يوم واحد) بقيت فيها الأجساد الطاهرة على
رمال كربلاء دفن الجسد الطاهر لأبي عبدالله (ع) وال بيته أصحابه، وقد حصل خلاف متأخر
في تشخيص من قام بالدفن، فكثيرا ما نسمع من أرباب المنابر بأن الإمام السجاد (ع)
الذي كان في الحبس خرج من الحبس بطريقة معجزة ودفن أباه والشهداء معه.
إلا أن هذا لم يكن معروفا عند المؤرخين من الطرفين الذين اجمعوا
على أن من قام بالدفن هم بنو أسد. ويمكن أن نقف عند أقوالهم:
فقد صرح بذلك أبو مخنف، فقال: ودفن جثتهم بألطف أهل الغاضرية من
بني أسد بعد ما قتلوه بيوم.
وقال الشيخ المفيد: ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا
نزولا بالغاضرية إلى الحسين عليه السلام وأصحابه فصلوا عليهم ودفنوا ابنه على بن
الحسين الأصغر عند رجله، وحفر للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي
رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعا معا، ودفنوا العباس بن على عليهما
السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن.
وقال الدينوري: واجتمع أهل الغاضرية فدفنوا أجساد القوم.
وقال الطبري: ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد.
وبنفس العبارة ذكر ذلك ابن الأثير في كامله.
وقال ابن كثير: فدفنهم أهل الغاضرية من بني أسد بعدما قتلوا بيوم
واحد.
وقال الخوارزمي:.... عمد أهل الغاضريّة من بني أسد فكفّنـوا أصحاب
الحسين، وصلّوا عليهم، ودفنوهم، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.
وقال البلاذري: ودفن أهل الغاضرية من بني أسد جثة الحسين، ودفنوا
جثث أصحابه رحمهم الله بعدما قُتلوا بيوم...
وقال الحسن بن علي الطبري في كتاب "كامل البهائي": إنّ
بنــــــي أسد افتخرت على قبائل العرب بأنا صلينا على الحسين ودفناه وأصحابه.
وقال المسعودي: ودَفَنَ أهل الغاضرية - وهم قوم من بني غاضر من بني
أسد - الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم.
وقال ابن طاووس وهو متأخر وقد ذكر خبر الدفن مقتضباً: ولمّا انفصل
عمر بن سعد لعنه الله عن كربلاء؛ خرج قوم من بني أسد فصلّوا على تلك الجثث الطواهر
المرمّلة بالدماء، ودفنوها على ما هي الآن عليه.
وقال ابن نما: ولما انفصل الناس من كربلاء خرج قوم من بني أسد
كانوا نزولا بالغاضرية فصلوا على الجثث النبوية ودفنوها في تلك التربة الزكية.
وقال ابن شهر آشوب: ودفن جثثهم بألطف أهل الغاضريّة من بني أسد من
بعدما قتلوه بيوم.
وقال الطبرسي: فلما رحل إبن سعد خرج قوم من بني أسد ـ كانوا نزولاً
بالغاضريّة ـ إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين عليه
السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر عند رجليه، وحفروا
للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرعوا حوله حفيرة ممّا يلي رجله، وجمعوهم
فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليَ في موضعه الذي قتلفيه على طريق
الغاضريّة حيث قبره الآن.
وقال عباس القمي: ولما رحل ابن سعدٍ خرج قوم من بني أسد كانوا
نزولاً بالغاضريّة إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلّوا عليهم ودفنوا
الحسين حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأكبر عند رجليه، وحفروا
للشهداء من أهل بيته وأصحابه الّذين صرعوا حوله مما يلي رجلَ الحسين وجمعوهم
ودفنوهم جميعاً معاً.
ولم يذكر أحد منهم شيئا من التفصيل أكثر من ذلك.
إلا أنّك تعجب جدّا بعد ذلك، حيث تجد أنّ هناك من ذكر الخبر فجاء
بأمر عجيب لم يكن له ذكر من قبل ربما مائة أو مائة وخمسين سنة، فقد اعتمد السيد
عبد الرزاق المقرّم المعاصر في خبر الدفن على مصادر لا وزن لها ولا اعتبار منها
كتاب "الكبريت الأحمر" و"معالي السبطين" و"الدمعة
الساكبة" و"أسرار الشهادة" ، فقال: ولمّـــــــا أقبل السجّاد (
عليه السلام ) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولم
يهتدوا إلى معرفتهم، وقد فرق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم، وربما يسألون من أهلهم
وعشيرتهم! فأخبرهم ( عليه السلام ) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم
على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء والعويل، وسالت
الدموع منهم كل مسيل، ونشرت الأسديات الشعور ولطمن الخدود.
ثم مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً
عالياً، وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق،
فبسط كفّيه تحت ظهره وقال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله
ورسوله، ما شاء الله لا حوّل ولا قوّة إلاّ بالله العظيم، وأنزله وحده لم يشاركه
بنو أسد فيه، وقال لهم: إنّ معي من يعينني. ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره
الشريف قائلاً: طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة
بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسهّد، والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي
فيها أنت مقيم، وعليك منّي السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته.
وكتب على القبر: هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام
)، الذي قتلوه عطشاناً غريباً. ثم مشى إلى عمّه العباس فرآه بتلك الحالة التي
أدهشت الملائكة بين أطباق السماء، وأبكت الحور في غرف الجنان، ووقع عليه يلثم نحره
المقدّس قائلاً: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من
شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته. وشقَّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه
الشهيد، وقال لبني أسد: إنّ معي من يعينني.
نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم
موضعين وأمرهم أن يحفروا حفرتين، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب
وأمّا الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن. وبعدما أكمل الإمام ( عليه
السلام ) دفن الأجساد الطاهرة، عاد إلى الكوفة والتحق بركب السبايا.
وقد شاع هذا الخبر بين الخطباء وهذا من أعجب العجب، حيث لا تجد له
ذكرا عند أحد من أهل التاريخ، نعم ذكر قوم أنّ المسعودي صرّح بذلك، فقال: أقبل زين
العابدين في اليوم الثالث عشر من المحرم لدفن أبيه.
لكن، هذا موجود في كتاب "إثبات الوصيّة" الّذي ينسب
للمسعودي، وهو قطعا ليس له، والقول بصحّة نسبة الكتاب إلى المسعودي محض تخريف،
وأسوأ منه ذلك الوهم الذي وقع فيه عدد من أهل الفضلاء توهموا أنه شيعي، وهذا خطأ
محض. فإن الرجل كان شافعيّا في الفروع وإن كان يرى رأي المعتزلة. ومن نظر في كتابه
"مروج الذهب" يعلم بل يقطع أنّ الرجل وإن كان محبّا لأهل البيت؛ إلا
أنّه ليس على مذهب الإمامية.
كما إنّ الرجل قد صرّح في "مروج الذهب" وهو مما لم يختلف
على نسبته له بأنّ الدفن كان من قبل بني أسد بعد يوم من الواقعة.
وإن أصررت على أنّ هذا الكتاب للمسعودي، فلا بدّ أن يكون هناك شخص
آخر يحمل هذا الاسم واللقب، وبالتالي لن يكون إلا مجهولاً.
وهناك من أثار بعض الإشكالات وحاول أن يثبت ذلك عقديّا. وبأي حال؛
فإنّ مسألة الدفن سواء كانت مسألة تاريخية أم اعتقاديه، فإنها تحتاج بالتأكيد إلى
دليل. فإن قلنا إنها مسألة عقدية ( أو عقائدية ) فما الدليل عليها؟ قيل بأن الدليل
هو ما ورد من روايات من أن الإمام لا يغسله ولا يكفنه ولا يصلي عليه إلا إمام، وقد
وردت فيه روايات، وقد روى الكليني ثلاث روايات، والغريب أن هذه الروايات الثلاثة
رواها معلى بن محمد وهو ضعيف، كما إن الأخيرتين منهما فيهما محمد بن جمهور العمي
وهو ضعيف إجماعا، بل إن المجلسي رغم تساهله اعترف في كتابه "مرآة
العقول" بضعف الروايات الثلاثة.. هذا فضلا عن الإعراض عنها من علماءنا كما هو
واضح في تصريحهم بان بني اسد هم من دفنوا الإمام، فضلا عن غرابة أن لا يرويها إلا
شخص واحد رغم أهمية موضوعها.
وهناك رواية رابعة ذكرها االشيخ الصدوق في كتابه "عيون أخبار
الرضا" عن هرثمة بن أعين، ورد فيها ان الإمام الرضا اخبر هرثمة انه سيموت في
هذه الليلة، وجاء فيها "أن الإمام لا يغسله إلا إمام".. إلا أن الخبر
موضوع قطعا لأن هرثمة بن أعين توفي سنة 200 هـ بينما توفي الإمام الرضا سنة 203 هـ
على المشهور.
كما وردت رواية عن الكشي عن الإمام الرضا في حوار له مع بعض
الواقفة ذكر فيها أن علي بن الحسين خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى ولي أمر أبيه ثم
انصرف. إلا أن السيد الخوئي قال عن هذه الرواية: هذه الرواية ضعيفة بأحمد بن
سليمان وبإسماعيل بن سهل وبالإرسال ( معجم رجال الحديث 12- 169).. كما ذكرت رواية
في هذا المعنى في كتاب "إثبات الوصية" ص 175 عن سهل بن زياد بن العباس،
عن إسماعيل بن سهل، عن بعض أصحابه.... إلا أن سندها ضعيف جدا، فضلا عن كون الكتاب
غير ثابت للمسعودي كما بيّنا أعلاه.
أيضا أشكل البعض بأنه كيف أمكن لبني أسد أن يتعرفوا على الجثث لا
سيما بعد قطع الرؤوس؟ لكن هذا ليس أمرا صعبا، وذلك أنّ كثيرا من أهل الكوفة ممن لم
يشترك في المعركة كان يشاهد المعركة، ولقد روي أن أشياخاً من أهل الكوفة كانوا في أثناء
المعركة وقوفا على التلّ يبكون (على الحسين) ويقولون: اللهم أنزل نصرك، حتى قال
لهم أحد الحاضرين: يا أعداء الله، ألا تنزلون فتنصرونه؟ فهؤلاء كانوا يدعون للحسين
(ع) بالنصر إلا أنهم لم يشاركوا في المعركة، بل كانوا متفرجين فحسب، فضلا عن أن
معرفة الجثث لا سيما للشخصيات المعروفة لم يكن أمرا صعبا سواء من علامات الجسد أو
من قرائن المعركة، أو من نوع الإصابات كأبي الفضل (ع) الذي قطعت يداه.. ولا تنس
بأنك تتكلم عن قوم من العرب عرفوا بفراستهم؛ فلا تخفى عليهم أمور كهذه.
0 تعليقات