حازم الرفاعى
ترتبط فكره الصراع مع الدين في أذهان الناس بالثورة الاشتراكية في
روسيا عام 1917 فلقد اصطدمت الثورة الروسية اصطداما عميقا وواسعا مع الكنيسة
فطوردت الكنيسة ومنعت أي مظاهر دينيه في حياه الناس فصار الزواج ذاته مدنيا
بالكامل وصار أي تدريس للدين مرتبطا فقط بما يسمي علم الإلحاد الذي يتناول كل الأديان
من البوذية للمسيحية كظواهر تاريخيه ونتاج للعقل الإنساني ومنطقه وتشبثه
بالأساطير. استمرت الدولة السوفيتية في تبني هذا المنهج حتي عام 1990 أي ما يقارب
من سبع عقود.
ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي صاحبه تراجع يصعب تقييم حجمه في الأمر
فعادت المظاهر الدينية بعد 70 عاما لروسيا فقائد الجيش يرسم علام الصليب قبل
استعراض القوات الروسية في الساحة الحمراء، فلقد عاد التزلف الي الدين كقوة
سياسيه. ولكن نزع الدين عن وجه المجتمع لم يبتدأ في روسيا فحقيقة الأمر انه ابتدأ
في فرنسا إبان الثورة الفرنسية فالثورة الروسية عام 1917 هي في بعض جوانبها
استمرار لصراع فكري وسياسي تم في باريس وفرنسا قبل الثورة الروسية ذاتها بأكثر من
قرن.
ففي أثناء الثورة الفرنسية تصادمت كل قوي الثورة الفرنسية مع الكنيسة
الكاثوليكية كلية وانقسمت تلك القوي حول إنكار فكره الإله وحول نوعيه وطبيعة العبادة
المدنية أو الدين غير السماوي الذي اقترحوه بديلا. أدركت قوي الثورة أيضا ان الإنسان
لا يستطيع التباعد عن العقيدة الدينية بسهوله فسعوا لاستبدال العقيدة الدينية
بمسلسل قيم عقليه وأخلاقيه مختلف حاولوا إعطائها ردائا دينيا. أدركت قوي الثورة أيضا
أن الإنسان لا يستطيع التباعد عن العقيدة الدينية بسهوله فسعوا لاستبدال العقيدة الدينية
بمسلسل قيم عقليه وأخلاقيه مختلف حاولوا إعطائها ردائا دينيا.
كان هناك متشددون وثوار بارزون كجوزيف فوشيه ممن تبنوا فكره أهميه
تبني ( دينا مدنيا رسميا للدولة) يسعي لتطور الإنسان وتطويره. كان هذا المذهب هو (
عباده المنطق cult of reason ) الذي تصوره الثوار
الفرنسيين بديلا عن المذهب الكاثوليكي المسيحي كما أسلفنا. وتعد كلمه عباده العربية
ترجمه ضعيفة لكلمه cult فربما كان الأقرب هو (ديانة المنطق ) . فمع إعلان
الجمهورية في سبتمبر 1792 تبنت الدولة سياسة رسميه ضد رجال الدين وصار نهج ( عباده
المنطق ) هو سياسة رسميه تقترب من أن تكون دينا رسميا للجمهورية الوليدة. هذا
النهج أو العبادة أو الدين تباعد عن فكره أي إله من الالهه المعروفة الخارجة عن الإدراك
الإنساني الملموس ولكنه سعي لخلق دين الفضائل الإنسانية العليا مع التباعد عن
الرموز الدينية المسيحية. ومع حاله العنف ضد الرموز الدينية تم مثلا تحويل كنيسة
نوتردام الي (معبد للمنطق) بل وأقيم احتفال ب ( عيد المنطق) في نوفمبر 1793. لم
تكن كل رموز الثورة الفرنسية علي قلب رجل واحد في تصورهم لما هو الدين الجديد فلقد
أختلف ماكسمليان روبسبير كما سيبدو لاحقا في تصوره عن الأمر.
رغم تعدد التفاصيل الآ ان اي دارس لتاريخ الثورة الفرنسية سيصطدم
بتكرار تعبير (نزع المسيحية أو التخلص من المسيحية De-christianization) في فرنسا. فلقد كانت الكنيسة أحد أركان الحياة وكانت كيانا
مستقلا فوق أي تساؤلات ماليه أو فكريه أو أخلاقيه. وكانت ذات مناعة في قلوب الناس
وذات ثروة ضخمه وريع هائل وأرستقراطيه لا تلمس. ولقد أعلن البابا تحفظه على إعلان
حقوق الإنسان والدستور وكان هو ذاته يمت بصله قرابة أو نسب لملك فرنسا.
كانت الكنيسة رمز ديني كبير وعلى تواصل مع كل ملوك أوربا والنبلاء
فلقد كان الدين والمسيح والمسيحية أحد مصادر شرعيه (الملك-الإله) في عموم أوربا
وأحد منابع الادعاء بالنبل والأرستقراطية فلقد كانت شرعيه هؤلاء تمتد من خدمات غامضة
قدمها جدودهم لأساقفة ورجال الكنيسة يوما ما. كان الصراع مع سلطه الكنيسة لذلك قد
ابتدأ قبل الثورة ذاتها ولهذا فلقد كان الجمهوريون منحازين من اليوم الأول لتقليص
نفوذها. فلقد كان الفلاسفة الأوربيين قد بذروا فكره المساواة لقرن سابق للثورة
الفرنسية ولهذا فلم يكن من الغريب ان تكون رموز ك (ميرابو وبارناف) مع تقليص دور الكنيسة.
ابتدأ الصراع مع الكنيسة عندما ضم مجلس الفئات 13 عضوا من
البروتستانت للمرة الأولي ( وهو عدد هزيل فلقد كان عدد أعضائه يتجاوز ال 900 بينما
عدد البروتستانت في فرنسا وقتها يقترب من المليون ). هذا القرار كان في محتواه هو
مبدأ (التسامح وتقبل الآخر). أنتهي ألأمر بانتصار الفكرة بشكل عملي في قرار يرسخ
بوضوح الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية لكنائس الأقليات.
وهكذا فلقد تساوت الفروع المختلفة
للديانة المسيحية فما دام الولاء للدستور والقانون قائم فحتي الزنوج والأتراك
والملحدين صاروا متساويين في الحقوق.
ظهرت القضية اليهودية على خجل في العام الأول للثورة وقبل إعلان الجمهورية
في 1792! فلقد ثار جدل عن حصولهم على حقوق المواطنة الكاملة كالبروتستانت مثلا.
فحتي مفكري عصر التنوير من السابقين للثورة ك(فولتير) كانوا رافضين للمساواة المطلقة
مع اليهود والزنوج. أنتجت الخلافات حول تلك القضايا تمييزات غريبة كتلك التي ظهرت
بين اليهود الشرقيين( السفاردييم) والاشكيناز المتحدثين باليدش فلقد كان اليهود
الأشكيناز من أدني الطبقات داخل المجتمع الفرنسي.
صوتت الجمعية التأسيسية بـ 568 صوتاً مقابل 346 لإنهاء الاستقلال
المالي للكنيسة في 2 نوفمبر 1789 مع امتناع 40 عضوا عن التصويت وكان هذا بداية
الحرب المعلنة بين الكنيسة وقوي التغيير في فرنسا.
لم يتناول الصراع رجال الدين فقط بل امتد ليصارع فكره الدين وفكره الحياة
بعد الموت وهي قلب المفاهيم الدينية الإبراهيمية فلقد استبعدت عبارة (رقد في انتظار
القيامة) من التماثيل ورموز القبور. اتخذت الثورة أو الجمعية الوطنية سلسله من
القرارات المتتابعة دعمتها تحركات جماهيريه لخلق ما عرف باسم (القساوسة
الدستوريين) اي الذين يقسمون بالانحياز للدستور في المراحل الأولى للثورة. وكان
هؤلاء محل غضب واستبعاد السلطة الكنسية في فرنسا وخارجها. كان القرار محل خلاف
كبير وسط رجال الدين والكنائس ففي عام 1791 كان عدد القساوسة ورجال الدين الرافضين
لأداء القسم الدستوري يصل إلى 30000 من ضمن 60000 اي نصف عددهم.
حوصرت كنائس بعينها وتغيرت أسماء الشوارع التي تحمل أسم (القديس
فلان) برفع اسم كلمه القديس من الشارع ثم تطورت الأمور لقرار بمنع ارتداء رجال
الدين لملابسهم في الشوارع وخارج الكنائس في احتفال عيد الفصح في 6 ابريل 1792.
كان الصراع المكتوم مع الثورة يتصاعد وهكذا ففي أواخر ديسمبر 1792 في ليله
الكريسماس منع احتفال منتصف الليل الديني الكاثوليكي المعتاد وأعلن أن الكنائس
ستكون مغلقه من السادسة مسائا للسادسة صباحا. كان هذا القرار تحديا للكنيسة
ولعادات الناس في إطار الحملة ضد الشعوذة الدينية هوجمت الكنائس والصلبان وحطمت
رؤوس المسيح على التماثيل وصور أمه مريم. توسعت الحملة ضد الشعوذه فتم التهجم على
الصلبان واستخدمت الإيقونات الذهبية لتمويل الميزانية وبحلول عام 1794 تزوج 6000
قسيس استقال أكثر من 20000 قسيس. استمرت الحملة لتغيير أسماء الشوارع في المدن والأقاليم
وتحولت التخلص من الرموز الدينية من مسألة اختياريه لمسالة إجبارية. وصلت الثورة لإبعاد
جديدة فلقد ظهرت صور جديدة للعذراء وهي العذراء السوداء كتحدي للمستقر في أذهان
الناس عن الشكل الأبيض للمسيح ولأمه.
كانت معاول المعركة مع المسيحية والملكية تأخذ أشكال متعددة ولربما
أكثرها غرابه ودلاله كان تبني تقويما زمنيا جديدا يتباعد عن اي تعبيرات مسيحية.
فلقد قرر ثوار فرنسا البدء بتقويم جديد للبشرية ليس له علاقة بميلاد السيد المسيح.
وهكذا كان العام 1792 هو بدء التقويم الجديد وعد هذا العام الأول للبشرية. كانت الأجندة
الجديدة احتوت أسماء جديدة للشهور والأيام جديدة لحذف اي إشارة مسيحية أو إيمانيه
مسيحية أو وثنيه في حياه الناس. فصارت هناك شهور ك برومير وثرمودير الخ وألغيت الأيام
بصفاتها وأسمائها القديمة بل وظهر (الأسبوع) ذو العشرة أيام مستبدلا ذاك ذو السبع
أيام حتي ينسي الناس (يوم الأحد) الذي يربطهم بالكنيسة. استمر العمل بهذا التقويم
لمده 5 سنوات وتوقف فقط عندما توج نابليون نفسه إمبراطورا. صاحبت التغيرات في النتيجة
تبني فرنسا ومن بعدها العالم للمقاييس المترية فلقد كان الإيمان بمنطقيه النظام
العشري طاغيا. فلقد كان نظام القياس المعتمد على البوصة والقدم والياردة يعتمد
مثلا على مقياس قدم (الملك) أو أصابعه الخ ولهذا فلقد كان للعالم الفرنسي مكتشف
الأكسيجين (لافوازيه) دوره في خلق النظام العشري فمن الملليمتر للسنتيمتر للمتر
للكيلومتر رغم ان لافوازيه ذاته واجه المقصلة لاحقا. النظام العشري الديسمتري امتد
للجرام والكيلوجرام. ولكن امتداد الأمر لساعات الليل والنهار والدقائق لم ينجح.
وكان أصحاب نهج (عباده المنطق ) متطرفين في حماسهم وفي إيمانهم
بقدرتهم علي تحقيق الهدف الا ان ثوار آخرين كروبسبير مثلا رفض الفكرة ورفض التطرف
في ممارسات نزع المسيحية وكان علي قناعه ان الإنسان يحتاج الي إله يرشده لطريق الفضيلة
وإن الوصول الي الفضيلة والفضائل هو هدف كل الأديان وان لم يكن حكرا علي القناعات الرومانية
واليونانية في إشارة الي المسيحية. وهكذا فإن الصراع بين التيارين أخذ أبعاد تعمقت
ووصلت الي إعدام بعض متطرفي حمله نزع المسيحية عن فرنسا وألي أطلاق احتفال مهيب
أطلق عليه الاحتفال ب( الكائن الأعلى…Supreme being) أو الاسمي تجسيدا
لفكره الفضيلة والفضائل التي آمن بها روبسبير وأقيم نصب تذكاري ضخم وسط باريس لهذا
الاحتفال. كان الصراع مع الكنيسة الكاثولكية مفهوما فهو في احد جوانبه صراع مع الملكية
ذاتها. أما الصراع مع الدين ذاته فلقد كان تطورا بالغ الخطورة ويعد استمرار
لتساؤلات عصر التنوير الذي سبق الثورة الفرنسية ذاتها ولكنه كان تيارا وسط نخبه
المثقفين فقط فتعامل معه الناس بريبه وحذر. بل وانه يعد أحد مقدمات سقوط روبسبير.
ولكن التمرد علي الأديان و (البحث عن دين جديد ) لم يتوقف فلقد ظهر
السان سيمونين لاحقا يربطون (المسيحية الجديدة) بالمجتمع ثم ظهر أوجست كونت في اتجاه
مشابه لمزج المنطق والفضائل بفكره الإله. ولقد مثلت ثوره أكتوبر وانتصار الشيوعيين
الروس بعد قرن من الزمان امتدادا للجدل الذي دار أثناء الثورة الفرنسية وانتصارا
للتطورات الفكرية والعلمية والفلسفية التي نتجت من تلك الثورة فلقد تبنت الثورة الروسية
(الفكر المادي ) والعلمانية المطلقة. فلقد كانت الدولة السوفيتية تتناول الأديان
كلها باعتبارها أساطير وخزعبلات وكانت علوم دراسة الأديان تسمي ( علوم الإلحاد).
كانت حمم الثورة الفرنسية تسقط على مدن ومجتمعات أوروبا أفكارا
كالبراكين فتغير كل ما يقابلها من تركيبات اجتماعيه وأفكار. كانت التحركات الفكرية
لتحرير الإنسان الأسود سابقه للثورة فلقد كان هناك (لجنه أصدقاء الإنسان الأسود)
التي ترأسها ميرابو والتي تكونت عام 1789 بعد سقوط الباستيل.. وتطورت الفكرة لوجود
نائب اسود في الجمعية التأسيسية.
أنجبت الثورة الصناعية وليدا جديد إذن هو الرأسمالية بما أتت به من
تكنولوجيا تتحدي النسق الإقطاعي المستقر من سيطرة لملاك الأراضي على عبيد الأرض وأفنانها.
وكان القانون النابليوني مثلا (Napoleonic
code) تعبيرا عن ذلك التغيير رغم أنه ظهر بعد هزيمة الثورة ذاتها. فلقد
كان نابليون هو أول من كون حكومة مركزيه في فرنسا تستند إلى القانون الوضعي فلقد
قسم (الكود النابليوني) القضايا تقسم إلى أربعه فروع أساسيه عن (البشر، الممتلكات،
التجارة، النزاعات المدنية والإدارية).
من كتابي مسودات لن تكتمل
0 تعليقات