حازم الرفاعى
تقترب الذكرى الخمسون لغياب جمال عبد الناصر المفاجئ والمريب في ٢٨
سبتمبر ١٩٧٠. منذ ذلك الحدث الكبير ثارت الشكوك وبعده عن اغتيال هواري بومدين
وياسر عرفات ثم قتل القذافي وإعدام صدام حسين. لم يكن سلاح الاغتيال غائباً أبدا
عن العمل السياسي منذ مطلع التاريخ ولكن غياب عبد الناصر عُزي فورا بشكل قاطع غامض
لأمراض الرجل ولأزمة قلبية أصابته. كان الطبيب المناوب لعبد الناصر ساعتها طبيبا
قليل التجربة ولكنه مدعوما بأطباء كبار وهو الطبيب الصاوي حبيب ولكن أهم القرارات
اتخذت بهذا الطبيب وحده ، فمن اتخذ قرار تعينه ومن تابعه ومن اشرف ومن راجع
قراراته في علاج زعيم عظيم لا أعرف.
أول من تشكك في سبب موت عبد الناصر كان الصينيون فلقد سأل (شواين
لاي) هيكل لماذا مات عبد الناصر؟ هكذا كتب هيكل مندهشا من السؤال في كتاب (عبد
الناصر والعالم). فرد شواين لاي إن عبد الناصر شاب عمره ٥٢ عاما فقط؟ فاجأنا هيكل
بعدها بسنوات بما قصه في قناة الجزيرة عن أن تحقيقاً رسمياً قد تم بشأن موت عبد
الناصر وأن طباخه (محمد داود) قد قال إن الرئيس السادات قد ذهب لمطبخ الهيلتون حيث
كان عبد الناصر قائلا سأصنع لك قهوة بنفسي يا ريس! موجها حديثه لجمال عبد الناصر.
فكيف ولماذا قام السادات بصنع تلك القهوة؟ وهو الأمر الذي سخرت منه زوجه السادات
قائلة: "وهل كان السادات يصنع القهوة لنفسه؟" ما يؤكد الحدث أن هيكل أكد
أن تحقيقا رسميا قد تم وان الطباخ ذكره وذكر اسم الطباخ على الهواء. فأين هو هذا
التحقيق ومن قام به ومن أشرف عليه؟
كانت للضباط الأحرار عهود بينهم على الابتعاد وعدم الغدر ولا أعلم
ماذا كان عليه الحال بعد غياب عبد الحكيم عامر ١٩٦٧ وما أثير حول انتحاره من شكوك.
كانت مصر وقتها أيضاً تشهد خلافات حول مسارها فلقد كان هناك من يعتقدون أن نصراً
مصرياً هو أمر مستحيل لأن أوراق الحل في يد أمريكا. وكان هناك أيضا من أدرك وتفهم
ثروة النفط والخليج وكان يري موقع مصر هو معهم وبينهم.
كان السادات صديقا لعبد الناصر والمشير عامر وكان هو من لعب دور
النديم لعبد الحكيم عامر عندما (باعه الجميع!) وكان هو الحاضر القريب من شقيق عبد
الحكيم عامر يوم ولحظه أن سمع خبر وفاة شقيقه. كان السادات أيضا رجل الدهاء واللعب
بين أجهزة المخابرات فمن المخابرات الألمانية ولعزيز المصري كان السادات حاضرا.
وكان كذلك المشارك في اغتيال أمين عثمان ومحاولات اغتيال النحاس باشا. وكان ممن
عملوا في الحرس الحديدي ولاءاً للملك فاروق ورغم ما تم ترويجه عن تشرده في هذه
الفترة إلا أن دعم فاروق له قد مكنه من العودة للحياة والزواج في هذه الفترة من
امرأة أخرى هي جيهان صفوت.
لم تكن التصفية الجسدية والاغتيالات والعمالة المزدوجة بعيدة عن
تركيبه السادات إنما كانت جزءا منه ومن تفكيره. دهائه هذا ظهر ليله الثالث من
عشرين من يوليه حيث لم يشارك في الحدث عند عودته للقاهرة بل ذهب للسينما وافتعل
مشاجرة مع شخص ادعى أنه تحرش به وبزوجته فذهب لقسم الشرطة لتحرير وتوثيق محضر
يبرئه إن فشلت الثورة. كان هو أيضاً ربما (العميل المزدوج) الذي أفشى سر الثورة للملك
وحرض ناصر ورفاقه على الحركة بتاريخ معين. ليلة الثورة حدث لبس في موعد الحركة
فتحرك الضابط الشيوعي يوسف صديق العضو بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني المعروفة
بـ (حدتو) قبل الجميع بشكل غامض، فهل كانت تلك خطة خداع أيضاً من ابتكارات السادات
الذي قرر التضحية بيوسف صديق الشيوعي إن فشل الأمر؟
ظل السادات قريباً من ناصر لمعرفة ناصر بقدراته ودهائه، ولربما كان
عبد الناصر يعده للعب دور في التواصل مع إسرائيل وسط الحرب الكبرى التي كان يعد
لها ناصر والتي كانت آفاقها ستكون مختلفة عما فعل السادات. كانت الجسور مع إسرائيل
تبنى بهدوء لإرباكها وتقسيمها وقت ناصر من خلال اليسار المصري كهنري كورييل وأحمد
حمروش إلى ناحوم جولدمان. كان السادات ربما هو أحد تلك المفاتيح. كانت مصر قد حققت
انقلابا عسكريا تكنولوجيا لا راد له عام ١٩٧٠ ببناء خط الصواريخ الذي قطع يد
إسرائيل الطولى، وأيضا بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتي على استخدام سلاح الردع وهو
الطائرة القاذفة الصاروخية التي بني لها مطار في السودان، والتي كانت قائمه
أهدافها التبادلية قد أعدت. كانت هذه التغيرات لا راد عسكري لها فتكنولوجيا السلاح
المتفوق انتقلت لمصر بشكل مفاجئ وفي توقيت دقيق، ولم يكن لها راد حينها..
كان نصراً مصرياً تحت قياده جمال عبد الناصر الموثوق به من الاتحاد
السوفيتي والمدعوم من ليبيا الثرية وبالجماهير العربية وبثوار العالم الثالث كله
معضلة سياسية. فلقد كانت آفاق انتصاره وانتصار مصر تحت قيادته ستتخطى نتائج الحرب
العالمية الثانية.
ولهذا كان التخلص من عبد الناصر شخصياً ضرورة قصوى. ولعل من يدرسون
المنهج السلوكي كانوا يتوقعون أن يدعو عبد الناصر لمؤتمر قمة عربي في القاهرة إذا
وقعت أحداث جسام كما تم في أيلول الأسود. فلقد دُعي عبد الناصر لمؤتمر قمة عربيه
عاجلة. ولم يكن بالقاهرة وقتها إلا فندقا واحدا يستطيع استيعاب الحدث وهو
الهيلتون. ولربما كان التعرف في أي الأدوار وأي القاعات ستدور الاجتماعات ممكناً.
كان السادات رجل عبد الناصر قد بنى علاقة وثيقة مع السعودية ومع
كمال أدهم رجل المخابرات السعودي وصهر الملك فيصل. أعتقد أن عبد الناصر كان يعرف
تلك العلاقة وأنه كان يظن استخدامها لصالحه. كان السادات قد اقترب من عبد الناصر
شخصيا بشدة، فالقائد المنهك كان وحيداً ولن أنسى كيف قرأت أن السادات قد وصف كيف
أن عبد الناصر كان سعيداً عندما أتاه السادات بمكرونة من إيطاليا لا ترفع مستوى
السكر في الدم! ولا أتذكر إن كان السادات أيضا قد اشرف على طبخها!
لا اعرف من كان مسئولا عن جثمان جمال عبد الناصر بعد وفاته
الصادمة؟ من أشرف علي تغسيله كما تتوجب تقاليد المصريين؟ ولا من كان المسئول عن
جثمانه؟ ولا لماذا لم يتم تشريحه؟ ولكنني سمعت أن جدلاً ثار بشأن تحاليل عينه الدم
المرسلة لقسم الكيمياء في المعامل الطبية المركزية في شارع الخليفة المأمون في
كوبري القبة. فلقد رفض الكيميائي المكلف (فتحي ونيس) التوقيع، فتصاعد الخلاف
مسموعاً وراء الأبواب المغلقة. مما أدى إلى هرج ومرج أدى إلى استدعاء رئيس قسم
الكيمياء في المعامل المركزية الطبية وهو العميد حينها (فؤاد حسن حته) الذي دخل في
جدل كبير بشأن التوقيع علي العينة المأخوذة من دم الرئيس عبد الناصر. و لقد تواترت
معلومات أن الأمر قد حُسِمَ في النهاية بتدخل السادات الذي غضب من التقرير المرسل
من المعامل الطبية، واستخدم تعبير إثارة بلبله في البلد. ثم تأتي تلك القصة
الغامضة عن أخذ قناع من وجه ناصر وأن شخصا اسمه هدايت أشرف على هذا? فمن يا ترى
كان المسئول عن كل هذا؟ هل كان هو أنور السادات نفسه؟
قرأت حديثا أن عبد الناصر قد كتب أمراً في سيارته بتعيين زكريا محي
الدين نائبا لرئيس الجمهورية وأن هذا الأمر المكتوب الذي وصل لهيكل لم يذَع. ولا
أذكر أنني قرأت مثل هذا الوصف أبداً؛ ولكن المؤرخ عاصم الدسوقي يشير أنه علم عن
قصه هذا الحدث الغريب من كتابات هيكل وهو ما لم أقرأه أبداً! غاب عن مصر وسط معمعة
حرب عظمى ووسط جيش باسل من مليون مصري قائد عظيم.. فتحركت تروس مشروع مختلف بدأ
بعرض السادات مبادرة فتح قناة السويس، ثم بأكذوبة اتحاد الجمهوريات العربية، ثم
بالانقلاب على مؤسسات الدولة، والتي كانت قيادتها تستشعر ثقل مسئولية حرب عظمى
وتخشى الزج بالبلاد في مواجهة واحتراب داخلي. ولكن السادات كان يعرف من يساندونه
وكان يعرف طريقه فتحرك بسرعة هائلة، متجاوزاً عن مثاليات الآخرين. رحم الله جمال
عبد الناصر
0 تعليقات