آخر الأخبار

الجغرافيا الإلهية.. الامتداد الشاقولي..






 

نعمه العبادي

 

(الجغرافيا) علم قديم تعود بداياته إلى البدايات البشرية الأولى، ومع اختلاف تعاريفه وكثرتها إلا أنها تتعلق برسم الأرض وأوصافها وما يجري عليها من ظواهر والوجودات التي تتفاعل معها، وقد أصبح اصطلاح (الإقليم) يشير إلى الحيز المكاني الذي تقوم عليه الدولة، وأحد أركانها الثلاثة، كما ان (الجيوبولتيك) أو الجغرافيا السياسية، نحو جديد من فهم الحدود والامتدادات، يقوم على أساس امتدادات التأثير والعمق السياسي، ويتشابك فيها التأثير السياسي مع الطوبغرافي.

 

في هذا المقال (أنحت) مفهوماً جديداً ليس مقسماً لتقسيمات الجغرافيا التقليدية، ولكنه يتحدث عن مساحة خاصة مختلفة، وحدود وقيود، وتقييمات جديدة للاهميات والثروات على غير ما هو معهود.

 

تقوم الجغرافيا الإلهية على أساس مفهوم الإيمان، ولذا فان مواطني هذه الجغرافيا هم المؤمنون بالمعنى الأعم للإيمان، وتتداخل الحدود فيها مع الحدود الطبيعية المعهودة، والسطح الذي تتحدث عن هذه الجغرافيا خليط من فضاء وامتداد (مادي ومعنوي)، فهي ارض وافق اعتباري يمتد بشكل شاقولي وانبساطي، بل في بعض أجزائها تكون بصورة متعددة الاتجاهات محاكاة لصورة الإيمان، التي توصف بإحدى المقاربات على أنها عبارة عن مستقيم بين السماء والأرض، فالحركة فيها نازلة وصاعدة وتفاعلية، وأحيانا يتم تلخيصها بشعاعين متوازين ومتخالفين بالاتجاه، يرمز احدهما الى مسار عطاءات الرب وكل ما يتصل به، وهو شعاع نازل، والثاني يتعلق بشؤون المؤمنين وما يرد منهم، وهو شعاع صاعد، ومع كل هذه التقريبات، فان وحدات القياس في الجغرافيا الإلهية تقوم على مفهوم القرب الاعتباري، والذي يتعالى على المفهومين الزماني والمكاني.

 

مثلما تهتم الجغرافيا التقليدية بكل العناصر بغض النظر عن أهميتها وقيمتها، فهي تنظر الى الكل بنظرة شاملة، فان الجغرافيا الإلهية وإن كانت معنية بشكل أساس بتمظهرات الإيمان وامتداداته ومساحته وحدود تجسده على الواقع، فإنها تعتني أيضا بأضداد الإيمان وفي مقدمة ذلك الكفر بصوره المختلفة، وتفترض الجغرافيا الالهية تاريخيا (يحايث) أحيانا، و(يباين) أحيانا أخرى مع سرديات التاريخ التقليدي، فهي مرتبطة بالدرجة الأساس بالنشاط البشري المتعلق بالإيمان، ولذلك فان سادة وملوك هذه الجغرافيا هم الأنبياء والرسل ومن سار على نهجهم، وان الصراع الأساس الذي يمثل العمود الفقري لتاريخ هذه الجغرافيا، هو المتعلق بصراع الإيمان والكفر، وان بداياتها الأولى لا تفترض (انساناً قديماً) مختلفاً في الهيئة، متخلفاً في المعرفة، بل هي مبدوءة بحركة حضارية إلهية ناضجة يقوم على رأسها (نبي)، والتسلسل الحضاري فيها يقوم على أساس تعاقب الرسالات وتكاملها، كما ان النظرة فيها للاهميات الزمانية والمكانية مختلفة تماما عن مفاهيم الجغرافيا المعهودة.

 

تقوم أهمية الأمكنة والأزمنة في الجغرافيا التقليدية على أساس ما تحمله من خواص وامتيازات تتعلق بالثروة بالدرجة الأساس، كما أن الموقع ومكانته هو الآخر محدد مهم، وهو يتصل بطريقة غير مباشرة بالثروة، وأما في الإلهية، فالأمر فيها مختلف، فمدينة بموقع جغرافي أو جيبولوتيكي مميز كالذي يسمى بأطروحة مركز الأرض، لا يعني ذات القيمة في الجغرافيا الإلهية، لان وحدات الأهمية تقوم هنا على أساس الإيمان، فمدن مثل مكة والمدينة والقدس والنجف وكربلاء ومدن أخرى، يتم التعاطي معها في ظل الجغرافية الإلهية ليس على أساس الطوبوغرافيا التقليدية، ولا على أساس خصائصها المكانية وما تحوي من ثروات وخصوصيات ديمغرافية، بل ينظر اليها بمنظور وحدة الإيمان، وأهميتها في الهدف الإلهي الأكبر، كما أن مناطقاً مهجورة ليست ذات قيمة في بقاع نائية من العالم، ربما تكون من عيون الأمكنة في ظل الجغرافيا الإلهية.

 

تختلف سردية الماضي والحاضر والمستقبل في هذه الجغرافيا، وهي ملتصقة التصاقا جوهرياً بسردية الإيمان، وتفترض هوية علوية تتعالى على الهوية الوطنية والقومية، وترتب حقوقاً متبادلة ومتكافلة تتعدى حدود كل المحددات الجغرافية التقليدية، وهي مختلفة بشكل ما عن جغرافيا الأمة، والتي تقوم على أساس وحدة الدين، لان الإيمان يفترض عبوراً إلى كل الأديان، كما أن مفهوم المؤمن يتجاوز مفهوم المنتمي.

 

من المؤكد، أن يقفز لدى جميع من يطلع على هذا النحت الجديد، سؤال، مفاده، ما هي أهمية الاعتراف بهذه الجغرافيا، وهل هي أطروحة بديلة أو مقابلة لأطروحة العولمة والهوية الكونية التي تصاعد الحديث عنها منذ تسعينيات القرن المنصرم، وهل لهذه الجغرافيا علوية على الجغرافيا التقليدية، وكيف سيتم ترتيب الالتزامات في حالة التقاطع مع التزامات الجغرافيا التقليدية، وكيف يمكن توظيف البعد المعرفي والعملي لهذه الجغرافيا المدعاة؟

 

على الرغم من ان مشروع الجغرافيا الكونية العولمية الذي اشرنا إليه في حقيقته، يبتغي تشكيل جغرافيا تقابل الجغرافيا الإلهية، وهو مشروع بسط السيطرة المطلقة عبر التشبيك المعقد بين أدوات القوة الصلبة والناعمة التي برعت في تطويرها الجهات الواقفة خلف مشروع العولمة إلا ان هذا المشروع لم يبلور نفسه بشكل حاد وبخط مستقيم مواجه في ذات المسار الذي تقف فيه الجغرافيا الإلهية وبشكل معاكس، لان مفهوم السيطرة والنفوذ تفترض أحيانا مراوغات ومخاتلات قد تظهر وكأنها ليست في المسار المضاد للجغرافيا الإلهية، لكنها بالضرورة مستهدفة لجغرافيات الأوطان بل حتى جغرافيا الأمة، لكن (الجغرافيا الشيطانية) هي الضد النوعي للجغرافيا الإلهية، والمشروع المقابل منذ الأزل، وهي تشتغل بالدرجة الأساس على جغرافيا إنبساطية على ذات الجغرافيا الإلهية أو مجاورة لها بغية التمدد والزحف عليها، ومع ان الجغرافيا الشيطانية التي تقوم على أساس الأبلسة، ومرجعها الإعلان الشيطان، وهويتها الشيطنة، قديمة متوازية في تاريخها بنفس لحظة شروع الجغرافيا الإلهية، لكنها لم تتبلور مشروعاً متكاملاً يزحف بشكل منظم كما يجري في الأفاق في هذه الأزمنة الأخيرة.

 

الامتدادات التطبيعية التي شهدتها منطقتنا خلال الأيام الماضية والحديث عن مزيد التوسع، وإن كان يدخل بمقاربة ما في أطار مشروع الجغرافيا العولمية، كما انه يمكن قراءته في إطار ادبيات الجيوبولتيك، ويمكن استنباط نتائج خطيرة منه، ولكن هناك وجهاً خفياً زئبقياً يصعب القبض عليه بالأدوات التقليدية، يتعلق بمشروع الجغرافية الشيطانية، وهو تمدد منظم يتجاوز حدود كل الهويات والمحددات.

 

بما ان الشيطان على هرم هذه الجغرافيا، ومضمون هويتها الشيطنة والابلسة، لذا فهي تفترض غموضاً مقصوداً، ومراوغة منضبطة، كما انها قد تظهر متماهية في كل أنواع الجغرافيات الأخرى بما فيها الجغرافيا الإلهية، وهذا أمر مستوجب وضروري، فالاسم العلني مثلا ( إبراهيم) في حقيقته هو اتفاق نمرود وقارون وفرعون... الخ.

 

دائما وابدأ، أقول، إن إسرائيل الفكرة هي أقدم واكبر واخطر من إسرائيل الكيان والدولة المزعومة، وتلك الفكرة هي احد المرتكزات الأساسية في الجغرافيا الشيطانية، وهي أطروحة موضوعة بعناية كمقابل (إلغائي تقويضي) لسردية الجغرافيا الإلهية حول البداية والنهاية وما بينهما من الأزمنة والأمكنة.

 

تفترض الجغرافيا الإلهية مفهوما مختلفا للمواطنة والحقوق، وهي إضافة نوعية للجغرافيا الوطنية في بعدها الايجابي، بل انه يمكن ان تكون الجغرافيا الوطنية إلهية في ظل الحكم الصالح والعدل والإنصاف، وكلما كان الجور والفساد والظلم واهتضام الحقوق حاضرا في الجغرافيا الوطنية، فإنها اقرب إلى التطابق والانزياح الى الجغرافيا الشيطانية، وأسهل للاندماج معها، وفي ذات الوقت تكون ابعد عن الجغرافيا الإلهية.

 

أتمنى أن تكون هذه الأطروحة مفتاحا لنقاش أوسع وأعمق..

إرسال تعليق

0 تعليقات