د.أحمد دبيان
حين سقطت الأندلس وحدث الاضطهاد المضاد من فرديناند وايزابلا
كممثلين لرأس الكنيسة الكاثوليكية للمسلمين واليهود وجد اليهود الملاذ فى لوبى يهودي
بدأ تأسيسه فى القاهرة على يد طبيب السلطان الناصر صلاح الدين موشيه ميمونيدس الشهير
بموسى بن ميمون .
كان نتاج هذا اللوبى اختراق لرأس الدولة استطاع به اليهود ومنظرهم
ابن ميمون وضع أسس الفقه اليهودى المعاصر وترسيخ قاعدة الأخيار والأغيار الجوييم .
لم تكن هذه السابقة الأولى لليهود فبعد ثورة بارخوبا ومذبحة
المسعدة (الماسادا ) التى قتل فيها بعضهم البعض بعد ان حاصرهم الرومان ، وشتاتهم
الأخير خارج الأرض المحتلة، رأى اليهود تغيير إستراتيجية المواجهة بينهم وبين
العالم كشعب الرب المختار مقابل الأغيار الأدنى، الى ترسيخ قاعدة التحالف مع
الأقوى، ومن تغذية الصراع بين الأوس والخزرج، الى التحالف الوقتى مع الرسول عليه
الصلاة والسلام ثم التحالف المضاد مع الخصم القرشى وتغذية سبل الصراع .
ظلت الكنيسة الكاثوليكية تحمل اليهود دم المسيح كخطيئة متوارثة إلى
أن أعلن البابا بعد اختراقات متعدة براءة اليهود المعاصرين من دم المسيح .
وجد اليهود ضالتهم فى البروتستانت والتأويلات اللوثرية ان إسرائيل
بركة الشعوب والتى تتماثل مع حالة المرأة الكنعانية الممسوسة ابنتها بالشيطان حين
اعترضت المسيح والتلاميذ، طالبة الشفاء للإبنة فأجابها بان خبز البنين لا ينبغى أن
يطرح للكلاب وجوابها بان الكلاب قد ترتضى بالفتات الملقى من أسيادها .
فكانت الهجرة للعالم الجديد بداية اختراقات يهودية فعالة لكنائس
العماد الجديد ما أعطى زخما هائلا لما نصطلح على تسميته اليوم باللوبى الصهيونى .
رغم هذا لم يتوقف اليهود عن التحالف مع القوى المهيمنة ، ومع صعود
نجم نابليون كان التحالف الأول فكانت ورقة نابليون اليهودية، هي الوثيقة التي
تستحق الاهتمام في السياق التاريخي، لأنها الأثر الإستراتيجي الباقي في المنطقة من
تلك الأيام وحتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
وكانت ورقة نابليون بونابرت من خارج أسوار عكا تقول إحدى فقراتها : «إن الجيش الذي
أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس
مقرا لقيادته..ياورثة فلسطين الشرعيين..إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال
والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء »..
كانت «ورقة» نابليون اليهودية ( وعدد اليهود في فلسطين ذلك الوقت لم يزد على ألفين
) محاولة لخدمة تصوراته الإستراتيجية المبكرة في المنطقة ما يدل على اختراق يهودى
مبكر لقطب من أقطاب الصراع الدولي .
حين حسمت انجلترا الصراع فى القرن التاسع عشر القي اليهود الصهاينة
بثقلهم مع انجلترا فكان حراك تيودور هرتزل الذى مد بخيوطه الى كل الأطراف بما فيها
الخلافة العثمانية المريضة فكانت الهجرات اليهودية فى عهده المغيرة للتركيبة
الديموجرافية لفلسطين لتنتهى لوعد بلفور وشرعية التأسيس المزيفة بوعد من لا يملك
إلى من لا يستحق .
كان هناك مشاريع لدولة يهودية فى جغرافيا مغايرة ولضرب خطوط
الجغرافيا الاستعمارية من القوى المنافسة .
فقد أصدر الزعيم جوزيف ستالين قرارا عام ١٩٢٨ بإنشاء جمهورية
لليهود ذات سيادة ولها حق الحكم الذاتي تحت مظلة الاتحاد السوفيتي:
"الأوبلاست"، وتم تخصيص منطقة تقع شرق الاتحاد السوفيتي، بجوار الحدود
الصينية، بها غابات الأخشاب الثمينة ومناجم الفحم والجرافيت، ونهرين لخدمة الزراعة
( خاصة نهر الأمور).
كذلك قام ستالين بإعطاء مميزات وحوافز أخرى لإنجاح هذه الجمهورية
اليهودية، فقد أقر لها عاصمتها "بيروبيجان"، حتى تم تسميتها فيما بعد
بدولة بيروبيجان، كما اعتمد لها اللغة اليديشية كلغة رسمية (لغة اليهود قبل
العبرية الحديثة)، وأقام المدارس اليديشية، وكذلك مسرحا شهيرا باللغة اليديشية
"مسرح نجمة بيروبيجان". كذلك تم تقديم العديد من الحوافز المادية لليهود
فى أنحاء الاتحاد السوفيتى، بل فى أنحاء العالم، للانتقال إلى جمهورية البيروبيجان.
كان الاتحاد السوفيتى بهذه السياسة التحفيزية يقاوم المشروع
الصهيونى لنقل اليهود إلى فلسطين، فكان يعتبر أن الصهيونية مشروع استعمارى رجعى
وبوجوازى، يتنافى مع الفكر الاشتراكى. وعند وفاة ستالين عام 1953، نشطت الحركة
الصهيونية داخل الاتحاد السوفيتى لقتل فكرة الجمهورية اليهودية السوفيتية
"بيروبيجان"، وقامت المخابرات البريطانية بلعب دور محورى فى افشال هذه
التجربة خدمة للحركة الصهيونية. وبالفعل بدأت حركة الهجرة من الاتحاد السوفيتى
تتجه خلسة إلى فلسطين.
مع صعود النازى اتصلت الحركة الصهيونية باودلف هتلر وتحالفت معه
ممثلة فى اسحق شامير والذى اعتبرته انجلترا إرهابيا تحت واقع ان اضطهاد اليهود فى أوروبا
يصب فى مصلحة كم الهجرة اليهودية الى فلسطين .
بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الاتحاد السوفيتي والولايات
المتحدة الأمريكية كقطبى العالم وبعد غروب شمس الامبراطورية البريطانية والفرنسية
فى السويس عام ١٩٥٦ كان الخيار هو الإمبراطورية الأمريكية وكان الدعم الغير محدود
الذى تمتعت به إسرائيل والى اليوم .
مع بوادر انحسار الإمبراطورية الأمريكية وصعود الصين بتمددها
الهادئ وأحياء طريق الحرير القديم تسعى إسرائيل لدعم لوبيها المؤثر فى الصين وفي
الواقع كانت بكين تقيم علاقات سرية مع تل أبيب منذ نهاية السبعينيات، فبعد موت ماو
الذي كان ينحاز للحركات التحررية الثورية حول العالم وبعد انحسار المشروع العربى
التحررى بموت الزعيم جمال عبد الناصر وخروج مصر الاحادى الطوعى من دائرة الصراع ،
ومع تولي دينج شياو بينج قيادة البلاد، اعتمد المنهج البراجماتي في علاقاته
الخارجية، وأقر خطة لتطوير البلاد كان تحديث الجيش أحد محاورها الأربعة، وحينها
كانت علاقاته فاترة مع كل من واشنطن وموسكو، فوجد نفسه مدفوعًا لإسرائيل، التي
كانت مستعدة لفتح ذراعيها لأي قادم، طالما يصب في مصلحتها، ومثلت العلاقة منفعة
مشتركة للطرفين، وكان الجيش الصيني شديد التعطش للتكنولوجيا العسكرية بعد أدائه
الضعيف في الحرب الفيتنامية عام 1978.
وأعطت تل أبيب زبائنها الجدد ما يشتهونه، بعلم واشنطن في البداية،
لكن العلاقة بينهما تجاوزت حدودها ووصلت إلى المستوى المحرم أمريكيًّا، حيث أمدت
الصينيين بتكنولوجيا فائقة، مست هيبة ردع الولايات المتحدة في وسط وجنوب آسيا، مما
سبب توترًا في العلاقة مع تل أبيب ما لبث اللوبي اليهودي في واشنطن أن محا آثاره.
وفي المقابل سعت تل أبيب لخلق نخبة صهيونية في الصين، من خلال
العمل على عدة محاور، أهمها هو خلق جالية صهيونية في الصين تحمل عبء القضية، وتعمل
ككتيبة متقدمة للدفاع عن الرؤى الإسرائيلية، ونصرتها، وكانت المشكلة هي عدم وجود
طائفة يهودية هناك، على غرار الحالة الأمريكية أو البريطانية. فبدأ العمل على
اصطناع تلك الطائفة وإيجادها لتقوم بالدور المطلوب في خدمة المشروع الصهيوني،
ونقَّب الباحثون الإسرائيليون عن أي صلات سابقة لأي فرد يهودي أقام بالبلاد، في
أية مرحلة تاريخية ماضية، وبالفعل وجدوا أن عائلة يهودية سبق أن أقامت في منطقة
كايفنج، بمقاطعة تسمى «هينان» أو «خنان» شرق الصين، ومن هنا كانت البداية.
بدأ الإسرائيليون في البحث عن أحفاد تلك العائلة في أنحاء الصين،
وتواصلوا معهم، وقدموا لهم الدعم والمساعدات ونظموا صفوفهم بالرغم من قلة عددهم
الذي قد لا يتجاوز عدة مئات، وأقنعوهم بضرورة العودة إلى جذورهم اليهودية القديمة،
وإعادة تعريف أنفسهم كيهود وصهاينة، وتم استقدام بعضهم إلى تل أبيب ومنحهم
الجنسية، وتطوع عدد منهم في الجيش الإسرائيلي.
واحتل عدد من اليهود مناصب رفيعة في الصين، مثل إسرائيل أبشتاين
وسيدني شابيرو، عضوي المجلس الاستشاري الصيني، وهو أحد الهيئات المسئولة عن توجيه
السياسات الداخلية والخارجية للبلاد.
واليوم ونحن على مشارف إعادة توزيع لمناطق النفوذ وموازين القوى فى
العالم لا زلنا كقوى عربية متشرذمة لا نملك اى آلية لمد جسور او صنع ثقل عند مراكز
صنع القرار الدولى الجديد ولا زلنا نحلم بمن وسلوى نضب معينهما لدى العالم الجديد
والذى صار قديما . فلا زلنا نتخبط فى مد الجسور بعد ان افقدنا ذواتنا وبأريحية زخم
التمدد الذى صاغته ارادة التحرر فى الستينات فى سبيل امجاد شخصية اضاعتها
السبعينيات لم تفلح حتى فى مد الجسور مع الصين الصاعدة منذ ذلك الحين وتركتها
فريسة للاختراق الصهيونى ، ولا زلنا فى عنجهية الجهل والتغييب نزايد ونلعن ونتعامل
بعنصرية مقيته مع الصين الصاعدة ومع غروب شمس الإمبراطورية الأمريكية.
0 تعليقات