آخر الأخبار

{الحوزة العلمية بين النقد والتضليل}

 


 

 

بقلم/ السيد علي السيد قاسم

 

رئيس مركز حوار الأديان والثقافات

في لبنان

 

الجمعة : ٣٠_١٠_٢٠٢٠

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله تعالى في قرآنه المجيد:

﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾

 

يعتبر الاختلاف من الأزمات التي تواجهها البشريّة، منذ أن هبط الإنسان إلى الأرض إلى يومنا هذا، حيث ينقل القرآن الكريم قصّة ابنَي آدم، عندما اختلفا في موضوع القربان:

 

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وذٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

 

ويستمرّ هذا الخلاف عبر التاریخ إلى يومنا هذا، وصولاً إلى خلافات كثيرة في الأمّة الإسلاميّة نفسها بين التیّارات الدينيّة المتعدّدة، والاجتهادات الفقهية المتنوعة وعليه نقول أنّ باب الاجتهاد في مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" مفتوحٌ، والاختلاف في الاجتهاد أمر طبيعي جدّاً، وهذا الاختلاف ليس نقمة، وإنّما هو نعمةٌ مَنَّ الله بها علينا ؛ لأنّه بالاجتهاد يتمّ إثراء العلوم الإسلامية، وهو أمرٌ ضروري لنهضة الحياة الفكريّة والعلميّة ولنهضة الوعي في الأمّة.

 

لم تكن الأمور في البداية على هذا الشكل الذي نراه اليوم من المكتبات الضخمة في مختلف العلوم الإسلاميّة وإنّما صارت كذلك نتيجة التحاور وتراكم العلوم والنقد المتبادل عبر مئات السنين.

 

إنّ مبدأ الاجتهاد يجرّنا إلى مبدأ ثانٍ وهو «معذوريّة الإنسان الخاطئ»، فإذا قبلنا بمشروعيّة الاجتهاد، نعلم أنّ المجتهد قد يقع في الخطأ أحياناً، وهذا أمرٌ طبيعي جداً، لكنّه معذور في خطئه إذا لم يكن مقصّراً، وهذا ما يتبنّاه جمهور علماء المسلمين، فإذا خرج المجتهد بنتيجة فقهيّة معيّنة، ثمّ بعد فترة تبيّن أنّه أخطأ، فليس هو بالمذنب ولا الذين اتّبعوه في هذه النتيجة؛ لأنّ إمكانات الإنسان في الفهم محدودةٌ، وقد يُخطىء وقد يُصيب، فمادام المجتهد لم يخرج من المعايير الموضوعيّة في البحث العلمي، ولم يقصّر، فهو معذورٌ عند الله.

 

كذلك الأمر في سائر المجالات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فإنّ الاختلاف أمرٌ طبيعي، والمخطئ معذورٌ، فإذا اختلفنا مع الآخر يجب أن نحترم خطأه، وفي الوقت نفسه نختلف معه في هذا الذي نعتبره الخطأ .

 

نحن اليوم أمام آفة فكرية ثقافية ومجتمعية , وهي أنه بمجرد أن يطرح أحد فكرًا أو نقدًا أو مراجعة فكرية لأي شأن من شؤون الدين أو الدنيا, فنجد الردود السريعة وسرعان ما تتحول المسألة إلى صراع شخصنة وإلى لغة إقصاء وتكفير وتضليل, بل يصل الأمر إلى كيل السباب والشتائم, بما يعني أنها «لغة العاجز» عن إدراك صلب الموضوع, وعن إدارة حوار فكري متقدم يتم فيه «نقد النقد» أو دحضه, أو البرهنة على باطله بالأسانيد والحجج الفكرية القوية, بل وإن استدعى الأمر بقراءة تاريخية معمقة, لتبيان المسألة المختلف عليها..

 

ولكن المؤسف في عالمنا عند وقوع الإختلاف يلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة وهي الاختلاق والاجتزاء والتشكيك.

 

فالاختلاق عبارة عن جملة الأخبار اليومية المزيفة التي تفبرك وتُدس لتنقل للناس روايات مكذوبة عن أشياء لم تحدث وتغرس في أذهانهم صوراً مغلوطة عن تصريحات لم تقال ولقاءات لم تنعقد وصفقات لم تتم وهجمات لم تحدث!!

 

أما الاجتزاء فيعمد إلى نشر أنصاف بل وأرباع الحقائق حتى يبدو ما يقال أو ينقل على أنه صحيح. فالمعلومة الناقصة لا تنشر إلا من أجل إثارة الريبة في نفوس الناس ودفعهم إلى السير في الاتجاه الذي يريده من يروجها وصولًا إلى إعتماد التشكيك كوسيلة أخرى تتعمد خلط المعلومة بالرأي والخبر بالتحليل ليقدم من خلاله أصحاب الهوى الأرقام والأحداث على أنها الحقائق وليست مجرد صوراً عنها.

 

من هنا وأمام هذا الواقع المرير الذي تتعرض فيه القامات العلمية إلى التضليل والتشكيك ونحن نرى أن من أوجب الواجبات إحترام أهل العلم وببركة وجودهم في الأرض تأتي التوفيقات الإلهية على العباد ، ولأننا نرى أن شخصية متجددة كشخصية آية الله العظمى السيد كمال الحيدري التي تتمتع بشمولية علمية وإحاطة موسوعية للمعارف حيث أسهمت كثيرًا في بلورة الأفكار والرؤى التي أنجحت لغة الحوار بين الرسالات السماوية والتقريب بين المذاهب، وقدمت أطروحة متقدمة من خلال البحوث العقدية والقراءات الفقهية التي تواكب الزمان والمكان من قبيل جواز التعبد بالمذاهب ، والقول بإسلام الآخر ظاهرًا وباطنًا ، إلى قراءته الجديدة لفقه المرأة إلى طهارة الإنسان وغيرهم من المباحث التي أغنت المكتبة الاسلامية وقدمت قراءة جديدة للنص الديني وأسهمت في إثارة الذهنية العلمية ودعت إلى إعادة النظر في الكثير من الموروث الروائي الذي دُس فيه الإسرائليات وأعاد المحورية للقرآن الكريم من خلال عرض الموروث الروائي عليه والأخذ بسننه ومناهجه .

 

 

في ظل النقاشات والردود المتعددة اليوم في داخل حوزاتنا الدينية والتي قد تؤدي إلى التشرذم والتشتت والإنقسام الحاد ندعو إلى تغليب لغة الحوار العلمي الهادف والتزام الموضوعية في الطرح والنقد البنَّاء بعيدًا عن منطق التخاصم وردات الفعل التي تشخصن القضايا وتؤدي إلى تهديم مواقع القوة في مذهبنا الحق وها هو تاريخ حوزاتنا العلمية شاهد على الثراء العلمي والمعرفي والإختلاف الحضاري بين أهل العلم وإليكم بعض هذه النماذج علنا نتأدب بسننهم وننهج مناهجهم .

 

من هذه النماذج المشرقة في تاريخ حوزاتنا الدينية السيد المرتضى (رحمه الله) الذي خالَفَ أستاذه وشيخه المفيد وكلاهما من أركان الطائفة في ما يقرب من مائة مسألة عقائدية، وقد ألّف الشيخ قطب الدين الراوندي رسالة في هذا الشأن وجمع فيها اختلافاتهما العقيدية فبلغت نحو خمس وتسعين مسألة، وقال في آخرها لو استوفيت كلّ ما اختلفا فيه لطال الكتاب...

 

ومنهم ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابه عدّة الأصول عن اختلاف علماء الطائفة في الأحكام الشرعية قال: "فإنّي وجدتها- الطائفة- مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى أبواب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات الفرائض..." ثم يعدّد بعض اختلافاتهم ويضيف: "وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى أنّ باباً منه لا يسلم إلاّ وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى"، إلى أن يقول: "حتى أنّك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينتهِ إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته!"..

 

ولو تأملنا الخلاف في مدرسة أهل السنة فنجد مذهب الإمام أحمد وهو مذهب يقوم على اتّباع الأثر قد اتّسع للعديد من الروايات والأقوال بحيث ملأت كتاباً من اثني عشر مجلّداً هو كتاب الإنصاف في الراجح من الخلاف".

 

إرسال تعليق

0 تعليقات