شعبان يوسف
الدكتور غالى شكرى ولعبة الطرد خارج الحلبة: (هوجم بضراوة عندما
برز اسمه فى نهاية الخمسينيات، تم الربط بينه وبين لويس عوض وسلامة لأغراض طائفية،
ظل غالى شكرى ينتج ويبدع رغم كل هذا العواء، ظلّت الإشاعات تطارده بشكل متطرف
ومتعصب فى حياته وبعد رحيله)
مقدمة لا بد منها:
هناك إشاعات كثيرة تنمو وتتجدد فى حياتنا الفكرية والسياسية
والثقافية حسب متغيرات وانحرافات مفاجئة، وربما تكون انحرافات مدروسة ومدبرة
ومعدّة سلفا، هذه الإشاعات التى تترسخ يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وعقدا بعد
عقد، تظل عاملا قويا للتضليل وللتحليل الصحيح لأى ظاهرة، وأكثر هذه الإشاعات رواجا
وترسخا تخص المجال السياسي والفكري والاجتماعي فى مصر منذ سنوات بعيدة، هى أن
تكريس الخطاب الطائفي لم يولد وينمو ويتوحش إلا فى عقد السبعينات نتيجة لأسباب
سياسية بأشكال قاطعة مانعة، ذلك العقد الذى حكم فيه السادات بالحديد والنار كما
يقولون، ولكنه وجد معارضة شرسة من كافة قوى المعارضة اليسارية والناصرية والقومية،
وإزاء تلك المعارضة لم يجد السادات سوى الاستعانة بجماعة "الأخوان
المسلمين"، كفزاعات جاهزة ومضمونة لتلك القوى، فأخرجهم من السجون، وأعاد لهم
مطبوعاتهم ومنشوراتهم ومقراتهم، وأعطاهم منديل الأمان بالكامل، وعلى رأس هذه
المطبوعات جاءت مجلة "الدعوة" التي راح أعضاء الجماعة يعيدون كل أشكال
خطابهم الممنوع والمقموع والمتطرف على الملأ، كما أن قواعدهم الطلابية وجدت أشكالا
من الرعاية الكاملة فى الجامعات المصرية، وكانت هناك غرفة ل"الجماعة الإسلامية"
فى كل الكليات.
بالفعل ذلك كله حدث تماما وبحذافيره، بل أكثر من ذلك، وجاءت جماعة
"الأخوان المسلمين" وفق شروط معينة وشبه مدروسة من زاوية الأجهزة
المعنية، واتفق عليها مسبقا كما وضح فيما بعد، وعلى رأس هذه الشروط، ضرب المعارضة
اليسارية والناصرية دون هوادة، ومن عاش تلك الفترة فى الجامعات المصرية، سوف يلاحظ
أن أعضاء تلك الجماعات الإسلامية كانوا يمارسون كل ما يحلو لهم، ويحملون الجنازير
بشكل فعلى_لا مجازا_ لضرب كافة القوى الطلابية الأخرى، ومن ثم كان فرض الخطاب الديني
المتطرف فى الجامعات، وبالتالي فى المجتمع كله، جاء تبعا لذلك العنف الكامن
والمقموع منذ سنوات الخمسينات والستينات، لينفجر بشكل سافر فى السبعينات.
نعم انفجر الخطاب الطائفى فى عقد السبعينات على كافة المستويات
المجتمعية، لكن ذلك لا يعنى غياب هذا الخطاب فى العقود السالفة منذ بدايات القرن
العشرين، ولا أريد العودة إلى ماحدث فى مستهل العقد الثاني من القرن العشرين بشكل تفصيلي،
عندما انفجرت الأحداث بشكل عنيف فى القاهرة وأسيوط، وسالت عبارات وشعارات طائفية
فجّة وجارحة، على رأسها ذلك الخطاب الذى كرس له الشيخ عبد العزيز جاويش أحد أقطاب
الحزب الوطنى _حزب الزعيم مصطفى كامل_ ، وشرع الفرقاء من المسلمين والمسيحيين
لإقامة مؤتمرات لا غرض لها سوى التحريض والتجييش والتكريس لوجهات النظر المتحاربة
والمتناقضة، لولا أن بعض الأصوات الوطنية ظلّت ترفع شعارات من طراز "عاش
الهلال مع الصليب" و"الدين لله والوطن للجميع" وهكذا، وتكرّس لخدمة
هذه الشعارات، ثم جاءت ثورة 1919 ليرتفع البعد الوطنى فى مواجهة التطاحن الدينى
البارز، وبعد أن تعرضت الثورة لانتكاسات عميقة، راح هذا البعد يختفى رويدا رويدا،
وزال هذا الوهج الوطني النبيل بفعل كثير من التدخلات المحلية والاستعمارية، ومع
ارتفاع أصوات طائفية واضحة من قبل أحزاب كانت تميل وتخدم شعار الخلافة الإسلامية،
ومنذ اشتعلت الخلافات السياسية والفكرية، ظلّ البعد الوطني يتأرجح تحت البعد الطائفي،
حتى نشأت جماعة "الأخوان المسلمين" عام 1928، لكى يكون هناك ذلك الصوت
الدائم والثابت الذى يضلل التوجه الوطني ويحرفه بقوة عن مساراته الطبيعية، لحساب
تلك التوجهات الدينية المتطرفة طوال العقود التى تلت ذلك.
بعد ثورة يوليو وبروز اسم غالى شكرى:
وظلّت جماعة الأخوان بارزة فى الأحداث بقوة، حتى قيام ثورة 23
يوليو 1952، ولا ينكر أحد أن جماعة الأخوان اعتبروا ثورة يوليو إحدى ثمرات سعيهم،
كما أنهم كانوا على صلة وثيقة ببعض من ضباط يوليو، ولذلك لم يتوان القادة الجدد
آنذاك فى إعطاء وعود قاطعة لبعض أشخاص بارزين فى الجماعة لكي يتولوا مناصب رفيعة
فى الدولة، وعلى رأس هؤلاء الأشخاص تردد اسم سيد قطب بصفته العضو البارز فى مكتب
الإرشاد، ومن ثم كان الصراع بين الرئيس محمد نجيب المنحاز للجماعة بشكل واضح، وبين
بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتم حسم الأمر فيما بعد فى مواجهة الجماعة، ولكن
أمر اللعب بورقة الدين ظل قائما وفاعلا وواضحا وضوحا كبيرا.
وإذا كان هذا على المستوى السياسي، فكان تجسيد ذلك على المستوى الثقافي
واضحا تماما للعيان، وكان المفكر سلامة موسى يتعرض لحملات دائمة شرسة، وليست حملات
موسمية، على اعتبار أنه كان مسيحيا، بل حملات كانت دائمة من عباس العقاد ويوسف السباعي
وغير هؤلاء، رغم أن سلامة موسى لم يهب تلك الحملات، ولم يتراجع فى أى لحظة من لحظات
عمره عن أفكاره، وظلّ يواجه كافة الأفكار الرجعية دون أى تخاذل.
وعندما رحل سلامة موسى عام 1958، كتب الكاتب الروائي والصحفي فتحي
غانم فى 11 أغسطس بمجلة روز اليوسف مقالا يغمز ويلمز بأن موسى كان ينطلق من ثقافة
منحازة للثقافة القبطية_هكذا_، بل ومتعصبة، مما اضطر كاتبا شابا، لم يتجاوز عمره
ثلاثة وعشرين عاما، أن يكتب تعقيبا حادا فى العدد التالي مباشرة كى يرد على
افتراءات فتحي غانم، وكان ذلك الشاب هو غالى شكرى، والذي كان مفعما بحماس وثقافة
مستنيرة واضحين، وجاء عنوان المقال "كنيسة سلامة موسى، وكنيسة فتحي
غانم"، وفيه يضع الكاتب الشاب الذى يتلّمس الحياة الثقافية بحذر، الكاتب
المشهور أمام مسئولية ضميره، وفى بداية المقال يقول شكري: "لست أطلب من
الكاتب المصري أن يكون قارئا ممتازا، قبل أن يمارس مهنة الكتابة، ولست أطلب إليه
أن فى القاموس الانساني كلمة اسمها (الأمانة)، ولكنى أطلب فى إلحاح أن يكون إنسانا"،
وبعد هذه المقدمة الجريئة، يستكمل شكري تصحيحه لبعض المغالطات التى ظهرت فى مقال
فتحى غانم، مثل زعمه أن سلامة موسى وضع الأفكار الشيوعية جنبا إلى جنب مع أفكار
الفاشية، مع أفكار نيتشة، ويضع مزيجا عجيبا لم يأت به سلامة موسى على الإطلاق،
ويعرّج غالى شكرى على غمزه ولمزه فيكتب "..
ويبدو أن الأستاذ فتحى غانم، لم يفهم تماما سلامة موسى، حتى أنه
يلصق به أغرب اتهام يمكن أن يتهم به أعظم مفكر ثورى فى مصر، يقول إن سلامة _بعد
جهاد مرير_ لجأ إلى حظيرة الدين! ويضع فى مقاله جملة (عدت إليها_ الكنيسة_فى حنان)
مبرهنا على صدق اتهامه، وأنا الآن أمامى كل ماكتب سلامة موسى _كل ماكتب على
الإطلاق!!_ وقد أخفقت تماما يا أستاذ فتحى فى العثور على هذه الكلمات، فمتى قالها
سلامة موسى إذن؟، إننى أعرف أنه لم تكن هناك علاقة شخصية بينكما تستوجب أن ترد
مثلا بأنه قالها لك فى جلسة خاصة!".
ويستطرد غالى شكرى فى محاكمته لفتحى غانم، والذى يعقّب بدوره
تعقيبا متهافتا، لا يثبت فيه صحّة ما ذهب إليه فى مقاله المنقود، ولكنه يورد نصّا
لسلامة موسى، لا يتطابق مع زعمه بأن موسى لجأ إلى الكنيسة، وكل ما كان غالى شكى
يدافع عنه هو عدم انحياز سلامة موسى لأى حل دينى عن طريق الكنيسة كما يوحى كلام
فتحى غانم.
ونخرج من هذه المعركة العابرة بين غالى شكرى وفتحى غانم بعدة
ملاحظات، أولها: أن غالى شكرى أصبح منذ هذه اللحظة رقما جديدا ومسموعا فى الحياة
الفكرية والثقافية، ولديه من القوة والمعرفة والثقافة والرأى، ما يجعله يجابه
واحدا من عتاة الكتّاب والمثقفين فى الحياة الصحافية، وله شأن بارز فى مجلة روز
اليوسف، وثانيا: أن غالى شكري أحد العارفين بالمفكر سلامة موسى، وفى تنويهه بأن
أمامه كل ماكتب سلامة موسى على الإطلاق، يعنى إدراكه لقيمة الرجل ودوره، كذلك يدرك
مساحة التجنى التى تعرض لها فى حياته، ولذلك كان أول المنتصرين له بعد رحيله، وكان
أول من خصص له كتابا ضخما عن مسيرته وأفكاره ومعاركه، ولم يخش أى لائمة من الممكن
أن تواجهه من اليمين الفكري والسياسي والديني المتربص بأى رأى تقدمي وطليعي، وكان
الجو السائد آنذاك يعمل على منع وذبح أى محاولة طليعية فى التفكير العقلاني، ولنا
فى مصادرة كتاب "الله والإنسان" لمصطفى محمود دليل قاطع عام 1955، وأتى
بعد ذلك منع رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ عام 1960من صدورها فى
كتاب، رغم نشرها مسلسلة فى جريدة سيّارة، ليؤكد ذلك المنحى الذى يثبت مغازلة
السلطة السياسية للتيارات الدينية التى تتسم بالرجعية فى مجال الثقافة، ربما
لتجنّب بعض شرورها، ولا ننسى فى هذا الشأن بيان لجنة الشعر عام 1964 الذى انتقد
بشدة حركة الشعر الحديث، واعتبرها ضد الدين بدون إثبات أى دليل على ذلك.
بداية سابقة لغالى شكرى:
يتحدث غالى شكرى فى حواراته كثيرا عن المكونات الرئيسية التى ساهمت
فى تنمية إدراكه، وحفظه للقرآن، أما معرفته بالكتب التراثية وشئون الشعر العربي،
فكان يقرأها مع زميله فى مدينة منوف الشاعر محمد عفيفي مطر، والذى كان يزامله فى
المدرسة كما قال ذلك للشاعر حزين عمر وتعرّفه على اللغة الانجليزية لدرجة الإتقان،
ويقول فى أحد حواراته مع الجزائرى عمار بلحسن (22 ابريل 1980):"ولدت فى منوف
بالوجه البحري رغم أن والدى من أعماق الصعيد سنة 1935، وهى السنة التى كانت فيها
مصر تغلى بالتناقضات من حادثة جسر عباس الشهيرة إلى توقيع معاهدة التهادن بين
الاحتلال البريطاني والحكومة المصرية إلى الاضطرابات الجديدة التى جاءت تعلن أنه
إذا كانت البورجوازبة والإقطاع المصرى قد مرّغا علم الاستقلال فى الوحل، فإن صعود
الطبقات الشعبية إلى المسرح السياسي قد تجسّد فى ما سمى آنذاك باللجنة الوطنية للطلبة
والعمال سنة 1946"، ثم يتحدث عن انتشار الثقافة الاشتراكية فى ذلك الوقت، بعد
انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفى عام 1948 حيث النكبة وولادة المشروع الصهيوني
وطرد الفلسطينيين من بلادهم، وكان عمره فى ذلك الوقت 13 عاما، ومن ثم اندفع الفتى
للقراءة النهمة باللغة الانجليزية، كما أن أستاذه الشيخ حافظ كان له فضل تعميق
معرفته بالتراث العربى.
وفى مطلع عقد الخمسينات أتى الفتى غالى إلى القاهرة مسلحا بالوعى
والمعرفة والثقافة الاشتراكية، وكان إقباله على القراءة باللغة الانجليزية، عاملا
كبيرا لإتقانها، مما دفعه فى بداياته العملية الأولى إلى أن يدخل ساحة الترجمة،
وقد نوّه عن ذلك كثيرا فى حواراته، كما أنه نوّه على أنه كتب الشعر والقصة فى وقت
واحد، وربما لم يعرف القارئ لغالى شكرى أى نماذج من تلك النماذج التى ذكرها، وقد
نشر بعضها فى مجلات "الرسالة الجديدة" و"قصتى"، وقد لعب صديقه
أحمد شفيق بهجت "أحمد بهجت" دورا فى إلحاقه بمجلة "قصتى"،
والتى كان ينشر فيها صبرى محمد موسى "صبرى موسى"، وإبراهيم محمد حمادة
"إبراهيم حمادة، وإبراهيم على سعده "إبراهيم سعده"، وأمين يوسف
غراب، وفى 3 ابريل 1955 نشر الفتى غالى ملخصا وافيا فى مجلة قصتى لمسرحية
"ترويض النمرة" ل "للروائي الانجليزي الأكبر ويليام شكسبير"،
كما جاء فى صدر النص المترجم، وكان قبل ذلك قد نشر مقالة نقدية عن قصيدة لأحمد عبد
المعطى حجازى فى مجلة الرسالة الجديدة، وبعدها فى منتصف عام 1954 نشر قصة وصفها
بأنها "قصة سينمائية" تحت عنوان "إلى اللقاء"، وهو يقدم القصة
بكلمة جامعة يقول فيها :"يتحمس الإنسان لمبادئ الفضيلة وقواعد الأخلاق إذا لم
يكن الزلل من نصيب قدميه .. أما إذا كان كذلك فإنه يصبح عدوا لهذه المبادئ وهادما
لهذه القواعد!!"، وتدور القصة فى أجواء غرائبية، يحكى فيها البطل ابن الطبقة
شبه الإقطاعية، الذى يرتكب الخطيئة مع خادمة القصر، وعندما ينكشف الأمر، يقرر
الزواج منها، ولكن الخادمة تكون قد ذهبت مع أسرتها إلى بلدتهم، وعندما يعلم والده
بأنه قرر الزواج، ينزعج ويرفض ويهدده بالطرد، ولكن الإبن يصرّ على الذهاب لكى
يتزوج من ضحيته، وعندما يذهب، يجد أن الخادمة قد ألقت بنفسها فى النيل، وتموت،
ولكنه يلجأ بعد ذلك إلى الرهبنة، قصة تمتزج فيها الأخلاق بالحكمة الدينية،
وتتخللها بعض لفتات الصراع الاجتماعي الذى يقتل بشكل حتمى العنصر الطبقي والاجتماعي
الأدنى، وهكذا كان غالى يسبح فى بعض من الأجواء الرومانسية الممزوجة بالحس
الروحانى والأخلاقي، رغم الخلفية الثقافية الاشتراكية التى ظهرت فى كتاباته فيما
بعد بقوة.
نشاط ثقافى بارز وتجربة المعتقل:
كان غالى شكرى قد تعرّف على الحياة الثقافية والأدبية بشكل واسع،
وبدأ اسمه يأخذ مكانته التى تليق بمكانة شاب مثقف بين أبناء جيله بشكل عميق، وبعد
تأثره بكتابات سلامة موسى العقلانية، واقترابه منه بشكل شخصى، ولا ينكر شكرى أن
الرجل كان يعطيه كتبا مهمة من مكتبته الخاصة، وكان "غالى" دائم الحوار
معه فى شتى أنواع المعرفة، ومن خلاله تعرّف على أقطاب الحياة الثقافية والفكرية فى
مصر، وبذلك كان شكرى قد أعدّ نفسه تماما لكى يكون ناقدا ذا مكان ومكانة مرموقة،
ولذلك هجر الشعر والقصة وكذلك الترجمة، وتفرّغ للكتابة النقدية والفكرية، وكانت
هذه المرحلة زاخرة بكوكبة من النقاد الشباب، على رأسهم الناقد رجاء النقاش، ومحيي
الدين محمد وسامى خشبة ونجيب سرور وفؤاد دوارة وإن كان يسبقهم قليلا، وكانت مجلة
الآداب تستقبل إنتاج كل هؤلاء وغيرهم برحابة صدر، رغم أن كل هؤلاء يختلفون فى
الطرح والأداء والانتماءات الفكرية.
وبرزت دراسات غالى شكرى الفكرية فى مجلة الآداب، ومتابعاته النقدية
لبعض الكتب التى تصدر فى مصر أو فى العالم العربى، أو باللغة الانجليزية، مثله مثل
أقرانه الذين بدأوا بالفعل يصنعون لأنفسهم سمات تخصهم، سمات تحمل جينات ثورة 23
يوليو، وظهرت أول دراسة لغالى شكرى فى مجلة الآداب تحت عنوان "طريق طوله ألف
ميل" بتاريخ مايو 1959، والتى اعتبر فيها أن فن القصة القصيرة، هو الفن الذى
استطاع أن يحمل سمات الحداثة الواردة من أوروبا، ويستهل غالى دراسته بقوله:
"حين استوعب أدبنا المعاصر، القوالب الجديدة، الواردة من أوروبا، كانت القصة
القصيرة، أسرع هذه الأشكال فى امتصاص تجاربنا، وظلّت أحداث تاريخنا فى الماضى، هى
الخامة اليتيمة لكتّاب الرواية عندنا، ولو أن بعضهم تجرّأ على حاضرنا، فالتقط من
صور هذا القرن العشرين، ما تعود أصوله إلى القرن الماضى..".
وبعد هذا الاستهلال النظرى الذى استكمله بعد ذلك، يخصص بقية
الدراسة لقراءة رصينة لرواية "دموع التوبة" للكاتبة صوفى عبدالله، والتى
كانت تطلق على نفسها اسم "أم هانئ"، وتعتبر هذه الدراسة من أهم
الاحتفاليات النقدية التى أقيمت لإحدى ثمرات هذه الكاتبة الكبيرة، والتى ظلّت
بعيدة عن التصنيف السياسي اليميني واليسارى، هذا التصنيف الذى استبعد كتّابا
كثيرين، رغم أهمية إبداعاتهم، ووضع غيرهم فى بؤرة الضوء رغم ركاكة ماكانوا يكتبون،
ولعب اليسار واليمين تلك الأدوار بجدارة، وربما تم نفى ونسف كتّابا بشكل كامل
لأسباب غامضة مثل الكاتب فؤاد القصاص، والذى كتب أكثر من خمسين رواية ومجموعة
قصصية، وله رواية بديعة عنوانها "القتلة الجدد للمسيح"، كما أزيل اسم عزيزأرمانى
من خارطة الأدب تماما، رغم أنه كان يوزع آلاف النسخ، ولكنه لم يندرج تحت أى تصنيف
سياسى، لذلك أهمله اليمين واليسار بدرجة واحدة ولذلك لم تعرف الأجيال اللاحقة بأى
من الكاتبين، كما أن الحسّ الدينى لبعض المتطرفين الإسلاميين كانوا يقفون بالمرصاد
لأى اسم طليعي أو مسيحي يبرز.
بعد بروز اسم غالى شكرى فى نهاية عقد الخمسينات، لحقت به لعنة
المعتقل، وقبض عليه مثلما قبض على كثيرين من أبناء اليسار، وليس لدىّ تاريخ محدد
للقبض عليه، أو الإفراج عنه، ولكن غالى شكري قال أكثر من مرة أن فترة حبسه كانت
مابين 1959و1962، وجدير بالذكر أن مجلة الآداب كانت تنشر له مقالات ودراسات فى تلك
الفترة، ولا أعرف هل هذه الدراسات كانت متأخرة فى النشر، ففى عدد ديسمبر 1959 نشرت
المجلة له دراسة عنوانها "دفاع عن محمد"، وهى قراءة فى كتاب "محمد
الرسالة والرسول" للكاتب والمفكر نظمى لوقا، وفى المقال يركّز غالى شكرى على
النزعات الإنسانية التى أضاءها نظمى لوقا، رغم الخلافات التى طرحها مع المؤلف فى
بعض تناوله لقضايا التاريخ، وفى نهاية المقال يؤكد غالى :"أن لا شئ يأخذ
مكانه فى التاريخ عبثا، وما علينا إلا أن نؤمن بأن المجتمع _بكافة مواضعاته
المادية والاجتماعية_ هو القاعدة الفسيحة لكافة المثل والقيم والفكر.."، كما
أننا نلاحظ أن دراسة أخرى نشرتها المجلة لغالى تحت عنوان "الجنس والفن والإنسان".
غالى شكرى وسياسة الطرد خارج الحلبة:
بعد الخروج من المعتقل، كان غالى شكري قد أنجز عدة دراسات مهمة
للغاية، الدراسة الأولى كانت عن أستاذه وأبيه الروحي والمؤثر الأكثر عمقا فى
تكوينه سلامة موسى، وصدرت هذه الدراسة فى كتاب ضخم فى أغسطس عام 1962، وجاء على
الغلاف تعريف عن غالى يقول: "وغالى شكري، هو أحد أبناء الجيل الثالث، الذين
التزموا بنظرة علمية للكون والإنسان، وكتابه هذا محاولة جادة متعمقة لتقييم أفكار
سلامة موسى تقييما علميا"، كما صدر له فى العام نفسه كتاب "أزمة الجنس
فى القصة العربية" عن دار الآداب فيما يزيد عن ثلاث مائة صفحة، هذا عدا
نشاطات وكتابات غالى اللافتة للنظر فى مجلات الشعر والمجلة والآداب، والتى أحدثت
أثرا كبيرا ومناقشات جادة فى الحياة الثقافية، وفى الوقت نفسه برزت حملة موجهة
وشبه منظمة ضده وضد الدكتور لويس عوض، هذه الحملة التى حاولت طرد غالى شكري من
الحياة الثقافية، لم تختر من بين ما أطلق عليهم أبناء الجيل الثالث سواه لتسديد
سهام سامة وقاتلة إلى كل ما يكتب، واتهامه باتهامات باطلة، كما تم الربط بينه وبين
لويس عوض وسلامة موسى، وهذا دليل قاطع على اختيار المتحاملين لهؤلاء المفكرين
الثلاثة لأنهم ينتمون إلى ديانة واحدة، وهذا مايؤكد أن تكريس الخطاب الطائفي
استفحل بطريقة مزعجة، فضلا عن هؤلاء الثلاثة ينتمون كذلك إلى تيار اليسار، وكانت
قد تسللت معلومة من الأجهزة الرسمية_ليس لى أى دليل على صحتها، كما لا أملك نفيها_
تقول بأن السيد حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة، كان قد كلّف بعضا من الموالين
له، بمهاجمة اليساريين، واختار عددا من الأشخاص منهم الكاتب لمعى المطيعى، والكاتب
محمد جلال كشك، قبل تحوله الكامل نحو اليمين الديني بشكل قاطع.
فى ذلك الوقت، أصدر جلال كشك كتابا تحت عنوان "الغزو
الفكرى"، ضمن سلسلة تزعم أنها "مفاهيم إسلامية"، ومن بين من
تناولهم الكتاب، لويس عوض، وغالى شكري، أما الفصل الذى تناول فيه غالى شكرى اختار
له عنوانا جارحا هو "..وإليكم آخر"، واستهله ب: "ظهر منذ أعوام
..ولغير ماسبب معروف، ناقد .. أغلب الظن أنه مصري.. اسمه غالى شكري، ماركسي
التفكير.. عنصري متعصب، يحمل حقدا دفينا على تراثنا.. ويتعلق بأقدام الفكر الغربي..
الناقد المذكور، بمناسبة وبدون مناسبة، يطعن فى وجودنا الإسلام
مدعيا التقدمية.. ولو استطاع أن يمحو الإسلام من تاريخنا لفعل.. فهو ينكر أن يكون
له أثر فى ثقافتنا.. بل لا يعتبره موجودا فى التراث الإنساني!!".
هكذا يستهل جلال كشك مقاله عن غالى شكري، وهذا يأتي فى استعراض
واضح لإبلاغ السلطات الدينية _كذبا_، وربما السياسية كذلك، باتهامات باطلة وزائفة،
ويستند كشك إلى تلك الاتهامات عندما كتب شكرى مقالا فى عدد يوليو 1963 من مجلة
الكاتب عن تارخ التراجيديا، "..ينحني فيه للأب الراهب جومييه.."، هكذا
يطلق كشك على غالى لأنه أشار إلى دراسة جادة كتبها جومييه عن ثلاثية نجيب محفوظ،
وهى أول دراسة تنشر فى كتاب عن نجيب محفوظ وثلاثيته، ولا يستحى كشك فى أن يقول
:"..ولكن الناقد شكرى غالى _تسخيفا لغالى شكرى_ شأن أساتذته فى مدارس التبشير
التى تعلّم بها، لا يسلك الإسلام فى عداد التراث الإنساني، ولا يعتبر المسلمين
عنصرا لا بد من إضافته فى وضع قوانين عامة للجنس البشرى.."، ويزعم كشك بأن
غالى شكري راح يركّز على التراث الفرعوني والمسيحي، دون الإسلامي، وهذا زيف ما
بعده زيف، ولا يورد كشك أى اقتباس لكى يدلنا على صدق قوله، وصحّة زعمه الذى وصم به
غالى شكري، وفى هذا السياق يكتب كشك كلاما حماسيا تحريضيا من طراز رخيص وهو يهتف:
".. وداعا يا أربعة عشر قرنا..وداعا يا موطن الأزهر..وقلعة الإسلام وعاصمة
الفاطميين.. وقاهرة الصليبيين.. آسرة لويس التاسع..وداعا.. قد صدر قرار المحو ممن
لا يرد قضائه.. الناقد.. السند شكري غالى..".
وهكذا يظل جلال كشك يهرف صائحا ومحرضا بشكل لا لبس فيه، مستدعيا كل
عبارات الحماس، ومحاولا لفت نظر المعنيين بخطورة هذا الناقد الذى لا يمكن السكوت
عليه فى عبارة فجّة، ولم يترك كتابا أو مقالا حتى راح يتصيد منه ويتربص به، ومن ثم
تعرّض لكتاب "أزمة الجنس.."، وينتقده بشدة من زاوية دينية، وليس على أرض
الفكر والأدب، ويظل يقدح ويسب وينبه السلطات: "..فى الوقت نفسه تبذل الدولة
وحكومة الثورة .. الأموال لطبع المصحف وتسجيله، وتعمل ليل نهار لإصلاح الأزهر حتى
يضطلع بمسئولياته.."، ويستطرد :"..وليس من المعقول ولا من المقبول، أن
نسكت على كاتب يحاول أن يسخر من فنان مسلم"، يقول هذا فى سياق نقد غالى شكرى
لإحدى روايات عبد الحميد جودة السحار.
ولا أريد أن أستطرد فى عرض اتهامات جلال كشك التعسفية، والتى أرادت
أن تستبعد غالى شكري من المعادلة الثقافية والفكرية المصرية، وهذا لم يلتفت إليه
غالى، ولكنه ظل مستغرقا فى إنتاجه الفكري المثير للدهشة، ففى عام 1964 نشر كتابه
عن نجيب محفوظ "المنتمى"، وهو أول دراسة شاملة فى أدب نجيب محفوظ، ثم
"ثورة المعتزل_دراسة فى أدب توفيق الحكيم"، و"ماذ أضافوا إلى ضمير
العصر؟"، وظل غالى شكري يصدر كتبا ذات أهمية بالغة، حتى وصلت إلى مايزيد عن
خمسة وأربعين كتابا ويزيد، عدا الدراسات الكثيرة التي لم تجتمع فى كتب أخرى.
ورغم أن غالى شكري كان ينتج ويبدع ويشرف على صحف ومجلات، وترأس
تحرير أهم مجلة ثقافية فى مصر، وهى مجلة "القاهرة"، ومازالت أعدادها
مرجعا فكريا وثقافيا حتى الآن، إلا أن الإشاعات البائسة كانت تطارده، إشاعات دون
أى أدلة، إشاعات للتحريض والطرد من الساحة، منها إشاعة أنه اعتنق الدين الإسلامي
تزلفا للقذافى، أو مقابل نظير مالى ضخم، الإشاعة الأخرى، والتى لم أستوعبها،
ماكتبه الكاتب الروائي سليمان فياض فى كتابه "النميمة"، وزعم فيه أن
غالى شكري كان يقتبس أبحاثه من آخرين، ولم يورد الأستاذ فياض أى أدلة على ذلك، سوى
مشاهدات شخصية لا تصلح فى اتهام خطير مثل ذلك.
فى النهاية التى لا تريد أن تنتهي، أؤكد على أن غالى شكري يظل
الناقد الأكثر إنتاجا وإبداعا وتأثيرا وعمقا وإدراكا، ومن بين النقاد الأكثر
شمولا، حيث أنه كتب فى النقج الأدبي، وفى الفكر السياسي، وظل طوال حياته مقاتلا
وملتزما ومنتجا عظيما، ولاغنى عن كتاباته بأى شكل من الأشكال، تلك الكتابات التى
تعد من أهم مفردات التراث الثقافى المصري العظيم.
0 تعليقات