( ... منذ سنوات بعيدة كنت
من الذين يأخذون موقفاً مُتحفظاً ، من الدكتور " مصطفى محمود " رحمه
الله ، فقد اندلعت بينه وبين بعض أساتذة ومفكري اليسار معركة كبيرة ، كان أشهرها
معركته مع الأستاذ " محمود أمين العالم " والتي سجلها في كتابه الشهير والجميل
" معارك فكرية " .....
وكذلك تعددت المعارك مع رموز أخرى ومقامات عالية في حياتنا الفكرية
تنوعت مصادرها السياسية واختلفت منابعها الفكرية وتوجهاتها الثقافية ، مثل الدكتور
" زكي نجيب محود " فيلسوف مصر والعرب الكبير ، مؤسس فلسفة الوضعية
المنطقية والمحسوب على الفكر الليبرالي غير اليساري ، ودخل زميله في كلية الطب ،
صاحب التوجه اليساري في الأدب والفكر ، أديبنا العبقري " يوسف ادريس "
في المعركة ... ثم اتسعت المواجهات فشملت الكثير من مفكري هذا الزمن الجميل فكان
الدكتور " لويس عوض " بقامته الفكرية والثقافية من الذين اختلفوا مع
اجتهادات الدكتور " مصطفى محمود " كثيراً وعميقاً ....
*************
كُنت أنا وغالبية أبناء جيلي من الذين يأخذون موقف اليسار ، وكان
الموقف من كتابات الدكتور " مصطفى " يُماثل موقف أعمدة هذا الفكر ورموز
تلك الثقافة ، غير أنني انتبهت لقيمة ما كتبه هذا المفكر الذي أثار الجدل والنقاش
في ساحتنا الفكرية والثقافية والأدبية ، عندما كتب في عام ١٩٦٨ بمجلة " صباح
الخير " الأسبوعية التي تصدر عن مؤسسة روزا اليوسف ، سلسلة من الدراسات
الإسلامية المُثيرة ، كان عنوانها " تفسير عصري للقرآن الكريم " ....
فخرجت عليه هذه المرة جبهة من المعارضة القوية ، لا من جبهة اليسار
، بل من جبهة أخرى أمضىّ سلاحاً وأعلى صوتاً . حمل لوائها عدد من بعض الشيوخ من
خريجي الأزهر الشريف ، أو غير الأزهر ... كانت الردود عليه في كثير من الأحيان
بالغة العنف ، ولم يكن الجدل معه ب " التي هي أحسن " بل بالتي هي أعنف !!
******
حينها تعاطفت مع الرجل ، غير أن هذا التعاطف ما لبث أن تحول الى
حُبّ و اهتمام ، فقد كانت الدكتورة " عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ
" أستاذة الفلسفة الاسلامية في الجامعات المصرية والعربية ، وصاحبة الكتاب
الرائد " سيدات بيت النبوة " هي أول وأهم من ناقش الدكتور " مصطفى
" بالحسنى وبالتي هي أحسن ....
تحدثت الدكتورة " بنت الشاطئ " حديث العّالٍم الخبير
والفقيه المُعتبّر ، وابنة الأزهر العريق ، وتلميذة وصاحبة بيت سيد العلماء ،
الشيخ " أمين الخولي " أستاذ الفلسفة الاسلامية العظيم ....
******
ردت عليه في سلسلة من المقالات نُشرت في الملحق الأسبوعي الشهير
الذي كان يصدر كل يوم جمعة عن مؤسسة الأهرام ، وبعد ذلك تم جمعها في كتاب صدر عن
" دار المعارف " المصرية ...
أخذت عليه الدكتورة " الكثير من تشبيهاته الأدبية للأنبياء
والروح الأمين " جبريل " عليه السلام ، والعشرات من تخريجاته لعدد من
الآيات والسور ، فضلاً عن وصف الدكتور لما كتبه ب " تفسير عصري للقرآن الكريم
" وهو الأمر الذي رأت فيه جرأة على فرع من العلم الديني لا يقترب منه سوى من
تخصص في علوم التفسير والعقيدة والفقه وأخذ هذا العلم من شيوخ وأئمة الأزهر الشريف
مأخذ الجد ... مهمة لا يقترب منها سوى من كان أهلا لتلك المهمة الجليلة ...
***********
بعد أن تابعت قراءة ما كتبته الدكتورة " بنت الشاطئ "
كُنت في غاية اللهفة والإشتياق لرد الدكتور " مصطفى محمود " على ذلك
النقد والنُصح المُهذب والدقيق ، وكانت المفاجأة أن تّخلىّ الرجل عن عناده القديم
واعتزازه البالغ بشخصه باجتهاده وبما يكتب ....
فقد إعترف بما وقع فيه من بعض أخطاء ، وكان مبعثه في ذلك " أن
المؤمن يُثاب مرتين بالخير إذا إجتهد وأصاب ، ويُثاب بالخير مرة واحدة في حالة اذا
اجتهد وأخطأ " ...
فضلاً عن تراجعه عن وصف ما كتبه بأنه " تفسير عصري "
فصدرت تلك السلسة عندما تم جمعها في كتاب بعنوان دقيق ومُعبر ، فقد صدر الكتاب تحت
عنوان جديد هو " القرآن .. محاولة لفهم عصري للقرآن " الكريم " ....
أي أن كل مٍنّا يملك رؤيته بما يجود عليه الله من فهم ، وليس
بمايأتي به من تفسير يُلزٍم به من يقرأ أو يستمع ...
والكتاب في ظني ، هو واحد من أهم ما كتبه الدكتور " مصطفى
محمود " رحمه الله ...
*******
هنا اعتدلت الرؤية للرجل ، وتحددت منزلته عندي ، وعند الكثير من
أبناء جيلي ...
لقد أُعجبت بشجاعة " الدكتور" وتنازله عن كبريائه
المعهود ، وعناده الأصيل !!
لقد أحببته عن صدق ، وتابعته عن يقين ، وأهتممت بقدرته المُدهشة على
التفكير غير المُعتاد وغير المألوف والجرئ ، حتى أنني أرىّ في الدكتور "
مصطفى محمود " والدكتور " لويس عوض " وجهين لعملة واحدة ، فكلاهُما
سّلكّا " طريق الاجتهاد في غير المُتعارف عليه ، وطّرقّا أبواباً مٌغلقة ،
والسير في طرق وعرة ، واعتلاء جبال وهضاب لم يعتليها أحد " كان تفكيرهما كما
يقولون بلغة هذه الأيام " التفكير خارج الصندوق " ....
*******
غير أنني أُصنف الحصيلة الثقافية لٍمّ تركه الدكتور " مصطفى
محمود " من دراسات وكتابات وصلت الى نحو مائة كتاب ، وأغلبها من الحجم
المتوسط ، الى ثلاثة أصناف ، أولها : الكتابات السياسية ، وثانيها : الأعمال
الأدبية من مسرحيات وروايات وقصص ، ثم ثالثاً : دراساته في الفكر الإنساني
والإسلامي ...
***************
وموقفي من غالبية ما كتبه على صعيد الفكر السياسي ، وخصوصاً ما
يتعلق باليسار والاشتراكية وغيرها من تلك القضايا ، فاني أعتبر ماكتبه "
الدكتور " قد جانبه الصواب ، بل كان إنعكاساً لمعارك سياسية وتوجهات يمينية ،
وقتية وعابرة ، توجهات ارتفع ضجيجها مع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي ،
عصر الانفتاح الاقتصادي والتحالف مع أمريكا والغرب ...
********
أما ما يتعلق بأعماله الأدبية ، من مسرحيات وروايات ، فلا يٌعد
الرّجُل من المُبدعين الكبار لهذا الفن ، سواء في مصر أو غيرها ...
********
ثم يأتي الاجتهاد على صعيد الفكر الإنساني والإسلامي ، فاني أرىّ
كما يرىّ الكثيرين أن ما سوف يبقى عبر الأجيال والزمن هو ما تركه الدكتور "
محمود " من هذا الصنف من الكتابة ، فلا يستطيع مُنصف للحقيقة أو دارس مُتعمق
فيما كتبه ، سوى تقديم عظيم الاحترام ، وكثير الإعجاب ، وبالغ الدهشة ، لٍمّ قدمه
هذا المفكر الكبير من اجتهاد ورؤىّ على هذا الصعيد ، اجتهاد لا يفخر به الرجل بما
قدمه ، ولكن يفخر ويعتز به كل مصري وكل عربي ، بل وكل من ينتمي للإنسانية ....
**********
رحم الله عبده المؤمن الزاهد النبيل " مصطفى محمود "
الذي صّرّح وفي ذروة نضجه ، وفي حضور عشرات من تلاميذه ، وعدد كبير من مُفكري عصره
، وشيخ من شيوخ مصر العظام ، الشيخ " محمد الغزالي " رحمه الله ، أن قال
الرجل ، وأمام هذا الجمع الحافل :
" أنه ذات يوم ،سأل نفسه سؤال ، سؤال امتلك عليه وجدانه : كيف
أقابل الله بشوية ورق ، حتى لو بلغت عشرات الكتب ، وشوية كلام حتى لو بلغت مئات
الحلقات من البرنامج التلفزيوني " العلم والإيمان " ؟
قام الرجل الصادق بالرد على سؤاله ، قائلاً :
" ماكان عّليّ سوى تقديم ما هداني اليه الله ، بتقديم عمل
صالح دائم ، " جمعية محمود لأعمال الخير " نسبة الى اسم والده ، عمل
مؤسسي مستمر من أعمال الخير ، يبقى بعد أن أموت ، ولا يموت بموتي ، عمل أقدمه
للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، ويساعدني عليه كل قادر أو غير قادر ، حتى لو
كانت مساهمته بضعة جنيهات ، عمل يقدم العون لكل من يحتاج للعون ، وينتظر علاجاً
لمرض ، أو مساعدة في علم ، عمل ليس إحسانا من مُتعاطف ، أو كٍسرة خُبُز يُلقي بها
رجل أعمال أو وجيه من وجهاء الزمن اللئيم في أيدي فقير مُحتاج ، أو مريض استوطنه
المرض ينتظر علاجاً ، أو يتيما يبحث عن رعاية و مأوى بعد تشرد وضياع !!!! ...
*****
رحمك الله يامن كنت مُهتدياً الى الصواب ، وكنت هادياً الى العطاء
النبيل ، ومُرشداً للخير لكل قادر عَلى العطاء بغير مّن أو إحسان ... )
****************
صلاح زكي أحمد
القاهرة :
فجر يوم السبت الموافق ١٧ أكتوبر ٢٠٢٠
0 تعليقات