بقلم / محمود جابر
كان من حسن الطالع - ربما - أن يطلب منى الصديق العزيز والأخ
الأكبر الحاج بكر عبد الحميد ذات مساء كتاب عن العثمانيين فى مصر، فأحضرت له كتاب
عجائب الأثار فى التراجم والأخبار لـ عبد الرحمن الجبرتى طبعة وزارة الثقافة
المصرية - الهيئة العامة لقصور الثقافة ط 2012 تحقيق عبد العزيز جمال الدين ....
فى الجزء السادس من الكتاب دراسة عن مشروع محمد على وتحليل لمشروعه
السياسى فى مصر ....
وأحب أن أنبه القارئ الكريم أن هذه القراءة ليست مدحا أو ذما لهذا
- السيسى - أو ذاك - محمد على ولكن هى فكرة جالت فى رأسي وانا أقرأ هذا السفر
العظيم ومدى التقارب بين السيسى ومحمد على ، وربما يتهمنى كلا الفريقين المؤيد
والمعارض ، ويرجع ذلك إلى أن البعض سوف يرى كلامى من قبيل المدح والتصفيق والآخر
سوف يرى العكس ولكن التاريخ هو ذلك الوجه القبيح من الحقيقة التى لا نحب رؤيتها
ونفضل عليها الأساطير ذات الطابع الرومانسى الذى يستبدل الحقيقة بالكذب وتضخيم
رؤية الذات والرؤية الأحادية .....
المشروع السيسى وماهيته :
وصل محمد على إلى الحكم، كما وصل السيسى بالضبط عبر تحالف واسع،
ففى الجانب المصرى أستهدف كليهما الأمن ، والاستقرار والعدالة ، وكما استهدف
الألبان حلفاء محمد على الوصول إلى السلطة وحصرها، استهدف جماعة يمكن أن تكون شبيه
بالألبان فى مصر المعاصرة حصر السلطة والثروة فى أيديهم فقط باعتباره استحقاق
للتحالف مع الحاكم الجديد .
لكن السيسى كما محمد على كان له أهداف تتجاوز الداخل المصرى، وطموح
جماعة الألبان .
فكلا من الرجلين كان ذا نزعة استقلالية وإصلاحية تتجاوز جماعة
المتحالفين مستغلا كلا منهما تأثير لتناقضات الداخلية والخارجية لفرض رؤيته
الاستقلالية والإصلاحية على السواء على الجميع .
وكما واجه حكم الباشا - محمد على - دوما تهديدات مستمرة دفعته
للتطلع الى الخارج والمحاكاة الإصلاحية، وما يفرضه ذلك من جدل حضاري واجتماعي داخلي،
وهذا قد جعله يستبدل الأدوات القديمة والحالية بأدوات جديدة ومستحدثة، وتطوير
المؤسسات والجماعات التى يعتمد عليها، وكان نتيجة ذلك ن ظهرت تناقضات داخلية
عديدة، انبثق بعضها من التناقض داخل الطبقة الحكمة ، وبعضها من التناقض بين الحاكم
والمحكوم، وبعضها من التفاوت بين المشروع السياسى وبنية التكوين الاجتماعي، والآخر
من التناقضات داخل المشروع نفسه، والحال أن هذه التناقضات الداخلية ، دفعت الباشا
- محمد على - نحو تعديل وتطوير أهدافه ، وتحديد أهداف جديدة ، وتبنى أفكار
مستحدثة، وتطوير المؤسسات، وإحداث تحولات فى البناء الطبقى، وبعبارة أخرى كان
المشروع السياسى يتكامل ويكتسب صياغته النهائية بالتجربة والخطأ، ولقد كان المشروع
السياسى يمثلا كلا واحدا، على مستويات ... مشروع الاستقلال ومشروع الإمبراطورية
.,,,,
بناء الجيش أو إعادة بناء الجيش :
الجيش فى الدولة الحديثة يتجاوز دورة فقط الدفاع عن الدولة، ولكنه
يمثل ركيزة فى استقلال الدولة وكونه صاحب الكلمة الأخيرة فى كل حدث فى الداخل
ولخارج ...
ومن هنا تركز جهود محمد على فى احتكار السلطة والقضاء على بناء قوة
عسكرية حديثة تمتلك قوة نيران كبيرة ومتنوعة، وقد حاول محمد على تطويع الألبان لأهدافه
وإعادة فرض رؤيته على رؤيتهم وأطماعهم ، ولكن الألبان تمردوا على محمد على ، وكان
تمردهم هذا مدخلا للقضاء عليهم تدريجيا عن طريق إرسالهم الى الثغور والى حربه فى
الحجاز .
وكان ضمن التحديث الذى أحدثها محمد على هو بناء الأسطول المصرى
الحديث وقد بلغ هذا الأسطول 70 مركبا حربيا تحمل 983 مدفعا...
مؤسسات الدولة الحديثة :
بالتوازى مع بناء الجيش الحديث أو تحديث قوة نيرانه - حاليا- تمت
عملية بناء مؤسسات الدولة - أو إعادة بنائها - وذلك بهدف تنظيم عمل السلطة
المركزية، بما يكفل رفع الكفاءة الوظيفية - هذا التعبير ورد على لسان السيسى فى
العديد من المناسبات - من جانب، وسيطرة المركز السياسى على الدولة من جانب اخر. ثم
تنظيم عملية السيطرة السياسية على الطبقات المحكومة، بما يحقق التعبئة القصوى
للفائض الاقتصادي من جانب، والهيمنة الطبقية من جانب آخر ... وقد جرى ذلك من إعادة
بناء السلطة الاستبدادية مع تطوير أدواتها بما يتناسب مع طبيعة المرحلة ..
دور العنف فى كلا التجربتين :
فى إطار مشروع محمد على، والسيسى لعب العنف دورا مركزيا فى عملية
الانتقال والتحول، هذا الدور يجد تفسيره فى عدة عوامل، أهمها علاقة التفاوت التى
وجدت بين المشروع السياسى وبين التكوين الاجتماعي، ثم تناقضات فترة الانتقال -
المماليك - الإخوان - ، وفى النهاية الطابع الفوقى للتجربتين ....
يقول محمد على كما جاء فى كتاب بوكلر موسكاو... " ولقد أرغمت
دوما على استخدام العنف مع الشعب من أجل مصالحه،، ومن اجل دفعه نحو ان يعمل
لصالحه" ...
ثم يذكر محمد على " ان هؤلاء الفلاحين لا يمكن لهم أن يقوموا
برى أراضيهم وان يزرعوها دونما أن يجرى إكراههم على ذلك، وقد جعلت رجالى يتشاورون
معهم ... ولكن عبثا فلم يجدى أى شىء ، فوجدت نفسى مرة أخرى مرغما أن أجبرهم على
العمل من اجل مصالحهم ، ودونما وجود سوط فلن يؤدى هؤلاء الفلاحون أى شىء ".
وهو نفس الحوار الذى قاله مرة أخرى :" يجب أن نقود الشعب كما
يقاد الأطفال ، لأننا إذا تركناه وشأنه فسيعود إلى الفوضى التى انتشلته منها، ولو
كففت لحظة عن قيادته لتردى فى وهدتها مدة أخرى ".
وقد استخدم محمد على العنف فى عملية تتجير الزراعة - تحويلها الى
تجارة - وقد أرغم الفلاحين على زراعة الحاصلات السلعية بالعنف والإكراه، وكان
الاحتكار السلعى هو أساس العمل التجارى فى مصر، فقد اوجد محمد على فارق كبير بين
أثمان البيع وأثمان الشراء وكان يسعى دائما للوصول بأرباحه الى أقصى حد مستطاع
.... !!
وقد فرضت عملية الانتقال والتحديث ضرورة تراكم مكثف للثروة النقدية
، وقد تم ذلك عبر ثلاثة أساليب :
- التجارة
- التمدد العسكرى
- ضريبة الأرض - الضريبة .
وقد سبق الإشارة الى كيفية معاملة الزراع، أما الضرايب فقد كانت
ضريبة الاراضى هى الاداة الأساسية فى عملية التراكم ، وقد نتج عنها اعتصار
الفلاحين بشكل بالغ القسوة لا يقارن بحكم المماليك أو الإخوان أو من سبقهم ...
ورافق عملية تصعيد الضريبة استخدام أكثر الأساليب عنفا ووحشية،
وهذا ما دفع احد المؤرخين أن يكتب ويقول " إذا مررت بأحد القرى ووجدت بعض
النسوة يبكين وينحن، وسألت عن السبب قيل لك الضرائب، وإذا تابعت سيرك ووجدت شخصا
موثوق اليدين وملقى على الأرض والجنود يضربونه بالكرابيج ، وسألت عن السبب قيل لك
الضرائب، والحق أنى لاعجب وأتساءل من أين للفلاحين الإتيان بكل ما يطلبه الباشا من
ضرائب وهم لا يملكون شىء، وماذا محمد على فاعل بالقرى بعد خرابها وهروب الفلاحين
منها؟"...
ويذكر أحد الباحثين أن الباشا من أجل نجاح عملية جباية الضرائب كان
يأمر بقتل الاهالى والمشايح وصلب البعض ، وإلقاء البعض الأخر فى النهر أحياء ...
وقد قام محمد على بتفكيك وهدم الطبقة - البرجوازية العسكرية -
القديمة وبناء طبقة برجوازية - رأسمالية - جديدة ، وكان أهم ما يميز هذه الطبقة هو
التكامل والاصطفاف خلف أهداف الباشا والرأسمالية ...
وقد حاول محمد على من خلال الطبقة الجديدة تأسيس نظام الاحتكار
ومنع التجار الوطنيين من التعامل مع الأسواق الخارجية ، وجعل الدولة وسيطا تجاريا إجباريا
يفرض الأسعار ، وعمل نظام سيطرة تجارية عبر التجمع الرأسمالي ، وأصبحت الدولة
بمثابة وسيط تجارى اجبارى يبيع بالسعر الذى يحقق له اعلي ربح ، وفى نفس لوقت كان
يمارس دوره التقليدى فى مراقبة الأسواق ، وعليه فقد كانت الدولة ايضا هى التى تحدد
سعر البيع ، بالاضافة لقيام الدولة بشكل مباشر ببيع السلع دون وسيط تجاريا ، وهو
ما يعنى فى النهاية ضعف تراكم راس المال وانهيار الوضع الطبقي إلا للدولة ورجالها
فى المنظور البعيد .
فقد كانت الجمارك على التجارة الداخلية مرتفعة بل شديدة الارتفاع
وكانت الجمارك على الواردات الخارجية للأجانب منخفضة جدا أو بدون جمارك ، إضافة ان
الدولة أخذت على عاتقها تمويل الزراعات والمشروعات الإنتاجية ، وهو ما عزل التجار
- رجال الأعمال ورجال التمويل- عن ممارسة النشاط المالى والتمويلى المرتبط
بالتجارة والإنتاج والأرباح المتولدة عنه وبتالى انهارت طبقة الممولين ورجال الأعمال
التجاريين .
وقد كانت حاجة محمد على الى طبقة من البرجوازية الأوربية الجديدة
ذات هدف قوى لتوظيفهم لغزو الأسواق الأوربية بالسلع المصرية التى لا يجيد المصريين
التعامل مع تلك الأسواق وهذا ما فسر وجود استثمارات وتجار وبرجوازية أوربية
متزايدة فى مصر ...
وقد ادى ذلك الى دعم مركزهم فى مصر - البرجوازية الأوربية الجديدة
- وكان هذا مرتبط بمقدار ما يقوم به الشخص من دعم وضع الباشا المالى ومساعدته على
تجاوز أزماته المالية وهذا بالتالى سوف ينعكس على وضعه الطبقى فى القرب من السلطة
..
ومن الجدير بالذكر ان محمد على يعتبر رائد فى المجال الصحى الذى
استهدف صحة المصريين من خلال ما سمى المجلس الصحى الذى استهدف علاج ومكافحة
الاوبئة وإجراءات العزل الصحى من اجل ان يجد أطفال للمدارس وجنود للجيش وموظفين
للحكومة على درجة عالية من الصحة ...
ومن الجديد بالذكر أن طبقة البرجوازية الأوربية والمصرية الجديدة
وصل بها الحال انها كانت ترى أن مصالح الباشا لا تختلف فى كثير أو قليل عن مصالحهم
....
الخاتمة
رغم قسوة العبارات المنقولة من الكتاب سالف الذكر، ورغم ان من يقرأ
هذا المقال ولا يعرف عن مصر شىء سوف يتصور ان محمد على كان جلادا ومجرما ولم يترك
مصر الا وهى خراب فى الوقت الذى يصفه كل مؤرخى العصر الحديث بأنه صاحب نهضة مصر...
بيد أن الصورة من الداحل وفى التفاصيل تختلف كثيرا عن تلك الصورة العامة أو الوجه النهائي
للمشروع ....
0 تعليقات