د. يوسف مكي
المشهد الراهن في الوطن العربي، يبدو كئيبا وحزينا، فبالكاد لا
يوجد بلد عربي، لا يعيش أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية... والحروب والصراعات
تكاد تقضي على البقية الباقية، من وجود بلدان عرفت بتاريخها العريق والزاخر
بالعطاء. فهناك أزمات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان والجزائر،
هذا إذا ما تجاوزنا أزمات الفقر والجوع والشرعية السياسية، في بلدان عربية أخرى.
ويضاعف من حدة الأزمة، هو عجز العالم بأسره، عن احتواء وباء كرونا،
الذي تجاوزت إصاباته حتى اللحظة أكثر مليون ومائة ألف من الموتى، وأكثر من أربعين
مليون إصابة، وإسقاطاته على الأوضاع المتأزمة أصلا، في الواقع العربي الراهن.
في يقيننا أن الصراعات التي تجري في منطقتنا، هي براكين تفجرت
الآن، لكنها تجد جذورها عميقة، في أزمات هوية وشرعية مستعصية ومستمرة، لعشرات
السنين، وأيضا في هجمة خارجية، دولية وإقليمية مستعرة، ما كان لها أن تنجح، وتتمكن
من التسلل في العمق، لو شاع مبدأ المواطنة والعدالة وحكم القانون، وبات منهجا يحكم
العلاقة بين الشعوب، وحكامها، في تلك البلدان.
عملية الصهر بين أبناء الشعب الواحد، وشيوع مبدأ المواطنة تقتضي
ابتداء، الاعتراف، أن الهوية شأنها شأن كثير من الظواهر الاجتماعية، تبدأ من
الأسفل، في خط بياني صاعد، من المسكن، إلى العائلة والعشيرة. ومن الحي والزقاق
الضيق، إلى المدينة فالمنطقة والإقليم وصولا إلى انتماء إلى وطن. وأن هذا التطور،
وصولا إلى الهوية الوطنية الجامعة هو المرآة العاكسة للسيرورة التاريخية ونبضها،
والمفسر لحركتها.
إن التشرنق فيما قبل الهوية الوطنية، وغلبة الهويات المناطقية
والطائفية والعرقية، وعدم القدرة على تجاوزها، إلى الهوية الجامعة، هو جذر الأزمة
التي تعاني منها حاليا معظم الأقطار العربية. وما لم يتم تجاوز ذلك، فإن جل
المحاولات التي تجري، في شكل وساطات ومصالحات، لإيجاد صيغ لحل الصراعات الداخلية،
تظل مجتزأة وغير قادرة على إيحاد حلول عملية ونهائية لتلك الصراعات. فالحل لن يكون
ممكنا إلا بتجاوز الهويات الجزئية، بمختلف أشكالها وتمظهراتها. فالمجتمعات البشرية
لاتزدهر، إلا باتساع فضاءات الهوية، وتجاوز شبكة العلاقات القديمة. فذلك هو من أهم
سبل، الإسهام في تشكيل بنيات جديدة على أسس مدنية، يكون من نتائجها انبثاق ثقافات
وأعراف وتقاليد جديدة، تختزن في رحمها ولادة هوية، تقوم على أساس المصالح
المشتركة، وتصبح تعبيرا عن خصوصية وملامح المرحلة الجديدة.
إن ذلك يأتي اتساقا مع التطور التاريخي، الذي أفرز أنماطا جديدة في
الحكم، ونظم سياسية حديثة، استندت على العلاقات التعاقدية بين أبناء المجتمع
الواحد، أهم عناوينها الوحدة الوطنية. وتأسست من خلالها هوية جامعة، مثل نشوء
الدولة المدنية، بعناصرها المعروفة، أحد تجلياتها وتعابير الانتماء لها. وكان هذا
الانجاز، قمة الارتقاء بمفهوم الوطن.
لقد أفرغت الحركة التاريخية، والتطور الإنساني، الهويات الجزئية من
مبررات وجودها، وجعل من تجاوزها أمرا ملحا، وضرورة قصوى، لكي تحقق الأمة نهضتها.
بما يعني، أن استمرار تغول الهويات الصغرى، أو التشبث بتركتها، في زمن باتت فيه من
الماضي الغابر، هو من معوقات مشاريع التنمية والنهضة، عامل تفتيت وفرقة. وهو هي في
ذلك، على النقيض من الهوية الوطنية الجامعة التي تتحشد تحت فيئها الجموع، من أجل
تحقيق منظومة من الأهداف والتطلعات المشتركة، القادرة على نقل المجتمع العربي، من
واقعه المتخلف إلى مجتمع حديث متقدم.
أكدت تجربة السنوات القليلة المنصرمة، أن من شأن تغول الهويات
الجزئية، نشوء الكانتونات الصغيرة، وتشرنقها وبقائها في حالة عداء دائم مع محيطها
المجتمعي، وفي ظل العزلة والغربة، لا مناص من التمسك بالاستتباع للقوى الخارجية،
لكي تحميها على حساب مصلحة الوطن، وتغييب التنمية المستقلة، والإرادة الحرة.
وبالتأكيد سيكون الحديث عدميا، وزائفا في ظل كانتونات المحاصصات والقسمة، عن
الدولة الحديثة، والدستور والمؤسسات، والسيادة والاستقلال.
في شيوغ مبدأ المواطنة، يصبح الحديث عن المجتمع المدني تطابقا بين
المعنى والواقع وبين المضمون وتماهياته، ويحدث تفاعل مبدع، بين التاريخ والجغرافيا
فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الأصيلة والحية في التاريخ، بما في ذلك
الإسهامات الفكرية والثقافية الإنسانية العالمية، وبين ما أنتجته البشرية من أفكار
متقدمة، لإثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل. وفي ظل مبدأ المواطنة، تسود الدولة
المدنية، التي هي بطبيعتها تجريبية نقدية، تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء
خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الك والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف
والنضال المعرفي، لخلق مستقبل أفضل للجميع.
0 تعليقات