نصر القفاص
يمكن أن يصمت التاريخ.. لكنه لا يموت!
تستطيع أن تسجن الحقيقة.. لكنك لا تستطيع أن تتخلص منها!!
تلك ليست مقدمة.. بل هى محاولة لامتصاص غضب "خدم زمن الملكية
والاستعمار" لأن "الولد الذى حكم مصر" هو نفسه "الملك
فاروق" ووصفه بالولد ليس من عندى.. بل أن السير "مايلز لامبسون"
سفير بريطانيا فى القاهرة هو القائل.. تحمل هذا الوصف "الولد" وثيقة
رسمية, أفرج عنها الانجليز وأصبحت متاحة للكافة لكى يطلعوا عليها.. نص الوثيقة
نشرها "محمد حسنين هيكل" فى كتابه "ملفات السويس" بكافة
بياناتها.. فيها يخبر السفير وزير خارجية بلاده بتفاصيل ما حدث يوم 4 فبراير عام
1942.. أى بعد 5 سنوات من بداية حكم "الولد" لمصر.. ولعل بعضنا لا يعرف
أن "الولد" حكم مصر قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره!! وغادر مصر
والحكم قبل أن يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره.. ولعل بعضنا لا يعرف ما حدث يوم 4
فبراير عام 1942.
يروى سير "لامبسون" فى مذكرته الرسمية الحكاية.. كان قد
طلب من "الملك فاروق" أن يعين "مصطفى النحاس" رئيسا للوزراء..
الحقيقة أنه كان أمرا رقيقا, فبدا كما لو كان تمنى أو رجاء.. هكذا فهم
"الولد" وتعامل مع الموضوع..قرر "الملك" أن يرد بما يحمل معنى
الرفض, وليس الرفض الواضح.. ذلك تكشفه الوثيقة – الفضيحة – وفيها: "ربما
يهمكم الحصول على تقرير أوفى عن أحداث الليلة, وهى فى حد ذاتها تسستحق
التسجيل" هكذا افتتح السفير البريطانى نص برقيته – الوثيقة - ثم راح يروى ما
حدث بالتفاصيل.
يقول السفير البريطانى: "فى التاسعة مساء وصلت إلى القصر, وفى
صحبتى الجنرال ستون - قائد الجيش الانجليزي - ورهط من ضباط عسكريين أشداء تم انتقاؤهم
خصيصا وهم مدججون بالسلاح إلى أسنانهم.. فى الطريق.. إجتزنا صفوف من وسائل النقل
العسكرية الممتدة إلى الأفق, وهى متجهة عبر الشوارع المطفأة الأنوار لاحتلال
مواقعها حول القصر.. كان فى وسعى أن ألاحظ من أمارات الدهشة التى ارتسمت على وجه
تشريفاتى البلاط الذى استقبلنى عند مدخل القصر.. إن هذا الوصول المهيب قد سجل أثرا
مبدئيا مباشرا.. بينما كنا ننتظر فى الطابق العلوى.. كنت أسمع عجيج الدبابات
والسيارات المصفحة وهى تتخذ مواقعها حول القصر.. واستنادا إلى ياورانات القصر..
كانوا يزرعون المكان جيئة وذهابا, وهذا الأمر لم يسبب قلقا قليلا, وزاد من تصاعد
التوقعات بشأن الأحداث المقبلة".
مازلت فى "الوثيقة" لكننى أخرج عنها لأتخيل مشهد دبابات
ومصفحات بريطانية تحيط بقصر "عابدين" وصوتها يصل إلى آذان الملك وكل
سكان القصر..
هكذا شاء السفير أن يفاخر
بعرض مظهر القوة لوزير خارجية بلاده, ولكى يجسد حجم احتقار بلاده لذلك الحاكم –
الولد – واستخفافه بهذا الوطن العظيم وساسته وأهل الحكم فيه.. ولك أن تتخيل انعكاس
ذلك على شباب الأمة, وبينهم ضباط تخرجوا من الكلية الحربية أصبحنا نطلق عليهم فيما
بعد "الضباط الأحرار".
أعود إلى "الوثيقة" التى جاء فيها: "ترتب على ذلك
تأخير لمدة تقرب من خمس دقائق فى استدعائى إلى حجرة الملك.. كنت لدى دعوتى لدخولها
أهم بأبداء عدم استعدادى للبقاء منتظرا.. حاول كبير التشريفاتية اعتراض الجنرال
ستون المرافق لى.. لكننى نحيته جانبا, ودخلنا إلى الحضرة الملكية دون مشكلة"!!
تلك سطور تستحق أن نتوقف عندها.. حاول أن تغمض عينيك وتتخيل
المشهد.. فهذا سفير يستكثر انتظار أكثر من خمس دقائق للقاء ملك البلاد.. يزجر من
حاول منع مرافقه بزيه العسكرى.. فالمقصود هو تأكيد الإهانة وزرع الرعب فى قلب
الجميع وأولهم الملك – الولد – ويتأكد ذلك فى تفاصيل "الوثيقة".
يمضى السفير فى الوصف بالتفاصيل الدقيقة, فيقول: "واضح أن
الملك أخذ على غرة, فأشار ببقاء حسنين باشا – رئيس الديوان الملكى – فى الاجتماع,
وهو ما وافقت عليه.. ومضيت إلى العمل رأسا.. فقد كنت أنتظر ردا بنعم أو لا قبل
السادسة مساء على رسالتى فى الصباح.. عوضا عن ذلك جاء لى حسنين باشا فى السادسة
وخمسة عشرة دقيقة برسالة لا يسعنى إلا أن أعتبرها, لا, ولابد أن يقال لى هنا الآن,
ودون أى مواربة أخرى هل الرد هو لا؟!
حاول الملك فاروق التدخل..
لكننى قطعت عليه الطريق قائلا فى سخط متزايد: إن الأمور شديدة الخطورة, وإذا
اعتبرت الرد لا سأمضى على ذلك فى آداء عملى, وأتلو عليه بتأكيد تام وغضب متزايد
البيان الوارد فى برقيتى التالية مباشرة.. وفى النهاية سلمته نص خطاب التنازل عن
العرش قائلا أنه يتعين عليه التوقيع عليه حالا, وإلا سأجابهه بما هو أشد كرها".
أتوقف هنا خارج الوثيقة.. أتعجب من جرأة "خدم الملك
والاستعمار" علينا حين يحدثوننا عن مصر وقت أن كان يحكمها "ولد"
يتلاعب به.. يزجره.. يرعبه.. سفير دولة المستعمر.. فهذا ملك لم يكن مسموحا له بأن
يناقش أو يرد.. مجرد الرد على سفير.. ملك يقبل أن يقدم له السفير خطاب تنازل عن
العرش وهو محاصر بالدبابات والمصفحات والمدافع.. ملك يجلس مذعورا أمام سفير
"يشخط" فيه كما شرح ووصف, وساسة شاركوه الحكم بعد هذه الواقعة لمدة عشر
سنوات!! وكلهم كانوا يعتبرون رضا ساكن "قصر الدوبارة", وهو مقر الحاكم
الفعلى.. السفير البريطانى.. هو منتهى أملهم وحلمهم!!
أعود إلى الوثيقة ذاتها والتى جاء فيها: "تردد الملك فاروق
لحظة.. إعتقادى أنه كان مزمعا على توقيع الخطاب, لولا أن حسنين تدخل باللغة
العربية.. وبعد فترة توتر.. كان الرعب قد استولى استيلاء تاما على الملك فاروق..
تطلع إلى أعلى بما يكاد يورث الإشفاق دون شىء من عنجهيته السابقة, عما إذا كنت
سأمنحه فرصة أخرى؟!
فرددت أننى أريد أن أعرف على وجه القطع ماهو اقتراحه.. فرد على
سؤالى المكرر البات بأن اقتراحه يتمثل فى أنه سيستدعى النحاس على الفور.. فى حضورى
إن شئت ويطلب منه تشكيل حكومة.. وبعد التأكد صراحة من أنه يعنى حكومة يختارها
النحاس بنفسه.. تعمدت التردد لحظة.. وقلت فى النهاية إننى إذ تحدونى رغبة فى عدم
حدوث تعقيدات محتملة فى البلاد.. أميل إلى إعطائه فرصة أخرى.. لكن عليه أن يتصرف
فورا.. وقال الملك بكثير من الانفعال أنه حرصا على شرفه الخاص ومصلحة بلاده
سيستدعى النحاس فورا.. فقلت: أننى موافق.. بعد ذلك أجهد الملك نفسه لكى يجعل من
نفسه شخصا مقبولا.. بل لطيف المعشر حتى أنه شكرنى شخصيا لأننى حاولت مساعدته
دائما"!!
مازال فى رسالة السفير لوزير خارجية بلاده تفاصيل.. لكننى أجد
ضروريا وضع خطوط تحت عبارة "حرصا على شرفه الخاص ومصلحة بلاده" سينفذ
الأمر!!
وإذا كان هذا هو مفهوم الشرف عند الملك, فلا يجب أن نسأل عن معنى
الشرف لدى "خدم الملك والاستعمار"؟!! لأن الشرف عندهم تمثله الثروة
والنفوذ.. الشرف عندهم هو بيع الوطن والتجارة بتاريخه.. شرفهم هو رباط حذاء
المستعمر!! وهؤلاء تدهشنى جرأتهم على التاريخ والحقيقة المبصرة والناطقة.. لكنهم
يعتقدون أن صمت التاريخ موتا.. ويراهنون على أن الحقيقة خلف قضبان السجن!!
وصف السفير البريطانى لوزير خارجية بلاده لا يحتاج إلى جهد لكتابته
سينمائيا أو دراميا.. لأنه مضى يقول: "تركناه واجتزنا عبر ممرات احتشد فيها
الضباط البريطانيون وتشريفاتية البلاط.. وكان الأخيرون مجموعة من الدجاجات
المذعورة, ونفس الشىء كان فى مدخل القاعة السفلى حيث تراءى عند المدخل صنفان من
الجنود الانجليز المسلحين الصارمين بخوذاتهم الفولاذية وبنادقهم ومدافع تومىء أنها
جاهزة للانطلاق.. لم يخفف خروجنا من تأهبهم وتحفزهم.. وإذ كنا نخرج بالسيارة إلى
خارج الفناء, مررنا بالأشكال المعتمة للدبابات والعربات المصفحة المصطفة على
استعداد للعمل.. كان منظرها مثيرا إثارة عميقة.. ويهمنى هنا أن أسجل تقديرى لكفاءة
الترتيبات العسكرية التى ما كان لها أن تكون أفضل أو أكثر جدوى من الناحية العملية
من ذلك.. لقد تصرفوا دون أن يهتزوا.. وبالوصول عائدين إلى السفارة.. كانت تنتظرنا
راحة نفسية هزلية, تتمثل فى رسالة قلقة من حسنين عما إذا كان مستطاعا الآن سحب
القوات.. لأن منافذ دخول القصر مسدودة حتى أمام النحاس, فوعدت بأن أنظر فى الأمر..
بعد ذلك بنصف ساعة وصل النحاس إلى السفارة بعدما استقبله الملك فاروق الذى تصرف
بلا إبطاء حسب وعده.. والواقع أن الملك فاروق كلف النحاس بمقابلتى وكانت المقابلة
باعثة على الرضا".
لك أن تتخيل وصف السفير لموظفى القصر بأنهم كانوا "دجاجات
مذعورة" ولن أدعوك إلى التوقف أمام اتصال "حسنين" راجيا سحب
القوات لفتح الطريق أمام "النحاس" لكى يلتقى الملك.. لدرجة أن السفير
يصف سعادته بأنها "هزلية"!! فهو يريد القول أن هذا ليس ملكا ورئيس
ديوانه "حسنين" لا يستحق حتى درجة "باشا" التى تنتفخ بها
أوداجه على أمة بأكملها.. كذلك الأمر بالنسبة "للنحاس" الذى يذكره فى
رسالته – الوثيقة – دون درجة "باشا" خاصة وأنه غادر قصر الملك إلى
"قصر الدوبارة" مباشرة!! والمشهد ذاته كان يحدث ويتكرر فى زمن الملك
"فؤاد" والذين سبقوه.. لأنه هكذا كانت مصر فى العشرينات والثلاثينات
والأربعينات وما قبلها!!
ثم يحدثونك عن وطن ما قبل ثورة 23 يوليو.
لم تنته رسالة السفير – الوثيقة – لأنه مازال فيها ما هو أكثر
إيلاما وإهانة عندما يسترسل قائلا: "يكفى هذا بالنسبة لأحداث المساء.. أعترف
بأننى ما كان يمكننى أن أستمتع بأكثر منها, وقد كان هناك إغراء مؤلم بأن أصر على
تنازل الملك فاروق عن العرش وأعتقد أننى كنت قادرا على الفعل.. غير أن سبيل الحكمة
بدا فى كفة الميزان الداعية إلى السماح له باستدعاء النحاس.. فضلا عن أنه لو وافق
فى الساعة السادسة مساء, لكان يسعدنا قبول هذا الحل.. أما أن موافقته جاءت بعد
ثلاث.. فهذا يبرر عدم اتخاذ عقوبة الطرد, مهما كان إغراؤها.. مع مراعاة جميع
الاعتبارات, فقد كان المسلك الصائب هو قبول الإذعان المذل من جانب الملك فاروق
المتمثل فى موافقته دون شرط على طلبنا الأصلى.. والأهم فى هذا أننا قد حققنا
انتصارا تاما.. لقد كان القرار صعبا.. لكننى آمل أن تعتقدوا بأن ما حدث كان صائبا"
تخيلوا أن سفير دولة المستعمر يصف لوزير خارجية بلاده أنه استمتع
بمشهد الملك لحظة رعبه وخوفه لدرجة أنه كان مستعدا لتوقيع تنازله عن العرش..
فالملك كان جاهزا لتوقيع التنازل عن العرش, قبل ثورة 23 يوليو بعشر سنوات وأكثر!!
وذلك يفسر رضوخه للتوقيع على بيان التنازل عن العرش يوم 26 يوليو فى مشهد مختلف..
كان مشهدا كله احترام وتقدير له.. بقدر احترام الوطن الذى حكمه.. فالذى حصل على
توقيعه بالتنازل عن العرش كان رئيس وزراء مصر "على ماهر".. وودعه رجال
الثورة يتقدمهم "محمد نجيب" بتقدير سجله التاريخ.. ثم يحدثك "خدم
الملك والاستعمار" على أن ثورة 23 يوليو التى خلصتنا من الذل والمهانة لم
تفعل شيئا.. بل قضت على "الليبرالية" و"الديمقراطية"!!
وصف السفير فى برقيته – الوثيقة – شكل الملك بأنه: "الولد
كان مذعورا" لأؤكد أن قولى "الولد الذى حكم مصر" ليس من
عندى.. وتبقى تفاصيل أخرى كثيرة تستحق أن نعرفها عن زمن الثلاثينات والأربعينات..
لن أقلب خلالها أوراق أعداء الملكية.. سأعرض فقط أوراق الذين نصبوه وعاشوا حوله..
كلهم كتبوا ما يفرض الخجل على الذين يحدثوننا عن روعة "زمن الملكية"
وأيام "الليبرالية" و"الديمقراطية" التى كان يمارسها من نصبوا
أنفسهم أسيادا, وتعاملوا مع شعب بأثره على أنه عبيد.. وكل من يحلم بعودة زمن
الأسياد والعبيد ستجده مدافعا عن الملكية, وتفوق مصر فى الثلاثينات والأربعينات!!
تلك هى الحقيقة.. هكذا كانت مصر.. يتلاعب بها سفير دولة المستعمر,
ويقدم للواجهة من يرضى عنهم.. يمنحهم الثروة والنفوذ كعطايا, ويسحبها إذا غضب
عليهم.. كان أكبر رأس فى البلاد وكل من حوله, يتحولون إلى "دجاجات
مذعورة" إذا غضب السفير!! مجرد سفير.. يعيش على أرض وطن تعتبره بلاده جزءا من
أملاكها بما فيه وما عليه من بشر.. ثم يحدثوننا عن أن مصر كانت قوية اقتصاديا
لدرجة أنها بريطانيا تستدين منها.. كيف؟! هم يقولون ذلك لأن التاريخ صامت..
والحقيقة مسجونة!!..
يتبع
0 تعليقات