إيمان إمبابى
عندما كتب الوزير: "سيدى حضرة خديوى مصر إسماعيل ابن ابراهيم
ابن محمد على باشا..البعض وأنا منهم يرى أنه أحق من جده بلقب بانى مصر الحديثة..
نعيش على إنجازاته ونرى أثر عمارته حتى اليوم بعد أكثر من 120 سنة على وفاته..
احتراماتى وتقديرى سيدى".. بينما فى 30 يونيو 2016 كتب: "ولى النعم, من
بعد الله, على مصر.. لا اعلم سيدى لم هفت نفسى اليوم لرؤية صورتك على صفحتى"..
كان تعليق شقيقه: "يا هشام.. أنا مضطر كدة أغير عندى كمان
وأحط صورة جدو الخديوى توفيق"!!.. من هو هذا الوزير حقا؟.. ومن هى هذه
العائلة؟ وإذا كانت فعلا من نسل "خديويهم" توفيق.. فلا داعى أبدا
لاندهاشنا من كراهية العسكرية المصرية.. فهو لم يبدءا من ثورة 23 يوليو 1952.. ولا
حتى بالعداء الحاد من "خديويهم" توفيق للقائد الثائر "أحمد
عرابى"والذى انتهى بالاحتلال وحل الجيش المصرى.. بل بدأ فى عصر "مولاهم"
إسماعيل.. وبداية التوغل الأجنبى فى كل شئون مصر.. عبر فخ الديون.. وتجميد مجلس
شورى النواب لمدة عامين.. وعندما عاد مرة أخرى عام 1876.. وكان ذلك آخر مجلس فى
عهد "ولى النعم".. كان مختلفا نسبيا عن سابقيه.. فقد جرت فى نهره مياه
كثيرة بكل ما جرى فى البلاد من أحداث.. واعترته مسحة معارضة.. تجابه التدخل
الأوروبى الذى بلغ مداه.. وكانت لجنة التحقيق قد قدمت تقريرها الأول.. والذى فرض
تأليف وزارة تضم وزيرين يمثلان المصالح الأوروبية.. وافق "ولى النعم"
وكلف نوبار باشا بتشكيل الوزارة عام 1878.. فدخلها الانجليزى مستر "ويفرس ولسون"
وزيرا للمالية.. والفرنسى مسيو "دى بلنيبر" وزيرا للأشغال!! وفى الجلسة
الافتتاحية لدور الانعقاد الثالث والأخير.. حضر الوزيران الأوروبيان مع الخديوى
وولى عهده والوزارة.. حتى أن نوبار باشا رئيس الوزراء نفسه بميوله الأوروبية كان
يأتمر بأمر الوزيرين الأوروبيين.. إستمرت لجنة التحقيق فى عملها.. بسلطات جديدة لم
تكن لها من قبل.. وضعت مشروعات القوانين المالية للبلاد.. وهو ما شمله مرسوم
"ولى النعم" فى 6 يناير 1879.. وبهذا تحولت تلك اللجنة إلى لجنة دائمة
تختص بالتشريع فى البلاد!!.. ثم توغل نفوذ هذه الوزارة بسحب السلطات من
"مولانا" نفسه.. وغل يده عن إدارة شئون البلاد.. بإقصائه من رئاسة مجلس
الوزراء.. وتنحيته عن حضور جلساته.. وكانت انجلترا وفرنسا تصران على أن هذا أمر
وضرورة تنفيذه.. حتى لا تتعطل الخطوات الإصلاحية التى تبغيها الحكومة.. صمت
"الخديوى".. نفذ "ولى النعم".. وقبع فى سراى عابدين!
أما "نوبار باشا" نفسه فلم يكن محل ثقة الأمة لنزعته
الأوروبية الواضحة.. وليقين الشعب أن تلك وزارة تمثل إهانة لمصر لأنها تشكلت
تنفيذا لأوامر البريطانيين والفرنسيين, وتضم وزيرين أوروبيين.. ومن جانبها لم تخف
الوزارة أهدافها, فعملت بوضوح لرعاية وحماية مصالح الدائنين الأوروبيين.. أقصت
المصريين من الوظائف المهمة والقيادية.. وفصلت جزء منهم بحجة توفير النفقات..
وعينت الأجانب فى الوظائف المهمة برواتب ضخمة.. منهم مسيو "بلوم" الذى
عين وكيلا لوزارة المالية.. والسنيور "بارافللى" عضو صندوق الدين الذى
عين مراجعا عاما للحسابات.. ومستر "فتزجرالد" وعين مديرا عاما لحسابات
الحكومة.. والسير "أوكلان كولفين" مديرا لمصلحة المساحة.. وغيرهم.. وهنا
عاد المصريين لاعتراضهم المكتوم بتسميتها "الوزارة الأوروبية"!!
لم يمض وقت طويل حتى أثارت تلك الحكومة سخط الناس بفرضها مزيد من
الضرائب.. مستندة على نفوذ الوزراء والمسئولين الأوروبيين فيها.. فجاء فى يناير
1879 وفودا كبيرا من الأعيان والمواطنين فى الأقاليم إلى العاصمة.. حاملين شكاوى
الأهالى الذين ضجوا من فداحة الضرائب المفروضة عليهم.. ومن التعنت والقسوة
والإهانة فى جبايتها.. وهنا كان مؤشر آخر لم ينتبه له "خديويهم" أو
حكومته أو حتى الأوروبيين الذين سيطروا على مفاصل الحكومة ووظائفها المهمة.. دور
جديد ولد للأعيان فى الأقاليم.. بعيدا عن عاصمة واقعة كثمرة طيبة فى سلة
المستعمرين.. وكان له صوت بدأ خافتا قبل وزارة "نوبار" ثم صار يعلو
بسرعة معلنا السخط والاستياء.. وهو صوت أحرج الحكومة نوعا ما رغم محاولات تجاهله..
وبدأت تتشكل دوائر وطنية وتتجمع وتشن حملات صادقة على تلك الحكومة.. من طوائف عدة
من الموظفين والتجار والصناع.. حركت هذه الدوائر دوامات من السخط العام.. مالبثت
أن اشتدت وصارت تيارات متلاحقة.. موجهة بشكل رئيسى "لحكومة الأوروبيين",
وللخديوى أيضا.. لأنه صمت وسكن لما يتخذ من قرارات فى الخارج.. ولم يغضب لتجريده
من أملاكه ونفوذه.. وإقصائه عن إدراة شئون البلاد.. بعد حكم مطلق استمر 15 عاما..
طبعا ساءه أن الوزارة بالغت فى غل سلطاته.. لكنه فى النهاية رضخ لما أسماه
الأوروبيين "شرطا" لإتمام الإصلاحات التى بدأتها.. فصار هناك عدوين لتلك
الوزارة.. الشعب بفئاته المختلفة.. و"ولى النعم"!!
تبرم من تبقى من الموظفين المصريين فى تلك الحكومة بعد فصل عدد ضخم
منهم.. فناهيك عن تقليل مرتباتهم لصالح الموظفين الأجانب.. تم تهميشهم وعزلهم
وانتقاص صلاحيتهم فى عملهم.. فصارت الكلمة العليا للموظفين الأجانب.. الذين لم
يفوتوا تلك اللحظة فأهانوا الموظفين المصريين وعاملوهم بكبرياء.. ثم أكملت الحكومة
لائحة غضب الموظفين بتأخير مرتباتهم التى أصبحت هزيلة.. زاد تبرم الموظفين فاقترحت
اللجنة الأوروبية دفع راتب كل شهر ونصف راتب من الأشهر المتأخرة.. حتى تهدىء من
التذمر المتصاعد لهم.. ولكنها – الحكومة – لم تلتفت.. أو التفتت وتجاهلت, طبقة
أخرى تضررت من الفصل من الخدمة وتخفيض المرتبات.. فلم يشملها قرار اللجنة
الأوروبية بصرف مرتباتها.. هى طبقة ضباط الجيش المصرى.. الجيش الذى أسسه
"محمد على" وكان مازال فى قوته وعنفوانه.. "الوزارة
الأوروبية" كما أطلق عليها المصريين.. أهملت – عمدا – دوفع رواتب ضباط
الجيش.. لم تعاملهم كموظفى الحكومة.. فالوزارة و"كفيلها" من الأوروبيين
لم يحملا أى تعاطف مع الجيش وضباطه.. بل على العكس رأتا فى القوة الحربية عقبة
تحول دون التدخل الأجنبى فى شئون البلاد.. فعمدت إلى إنقاص عدد الجيش بحجة عجزها
عن توفير نفقاته!! .. فقامت بتسريح عدد ضخم من الجنود.. كما أحالت للاستيداع 2500
ضابط فى دفعة واحدة!.. وقبل هذا القرار لم يكن الضباط يتقاضون رواتبهم بانتظام..
إذ ظلوا عشرين شهرا بلا رواتب.. فلا هم نالوا مرتباتهم المتأخرة ولا بقوا فى
مناصبهم.. فكان السخط والثورة على القرار.. ناهيك عن الطريقة التى تم بها إحالة
هؤلاء الضباط إلى الاستيداع.. وبدلا من تنفيذ القرار فى مراكزهم الموزعين فيها..
فى مختلف مراكز القطر.. فيدع كل منهم سلاحه فى ثكتنه ويعود إلى بلدته.. فإن وزير
الحربية إستدعاهم جميعا إلى العاصمة.. وأمرهم بتسليم أسلحتهم فى ثكنات العباسية أو
القلعة.. فاحتشد الضباط المحالون إلى الاستيداع فى العاصمة وكلهم ناقمون على
"الوزارة الأوروبية"!..إستمر الغليان فى نفوسهم.. حتى كان يوم الثلاثاء
18 فبراير 1879.. إجتمع حوالى 600 ضابط برئاسة البكباشى "لطيف بك
سليم".. أحد كبار أساتذة المدرسة الحربية.. خطب فى الضباط خطبة حماسية..
وأوصاهم بالثبات حتى نيل مطالبهم.. فاتصلوا ببعض أعضاء مجلس شورى النواب, وطلبوا منهم
مرافقتهم.. وهى دعوة لاستصراخ لنواب الأمة.. غادر الضباط الثكنات وتوجهوا بجمع
حاشد يتبعه عدد كبير من طلبة المدرسة الحربية وحوالى ألفى جندى, مرافقا لهم 4 فقط
من النواب الذين لبوا مطلبهم متجهين إلى وزارة المالية..
فى طريقهم لوزارة المالية عبروا وزارة الخارجية التى كانت على
مقربة منها.. فرأوا "نوبار باشا" خارجا منها, راكبا سيارته.. فجأة
أحاطوا به من كل صوب وسدوا الطريق أمامه.. إمتعض "الباشا" وأمر سائقه
بألا يتوقف ويستمر فى السير.. فانهال السائق بالسياط على الجياد كى تنطلق.. داهسا
من فى طريقه.. فانهال عليه الضباط بالضرب.. وأنزلوه من مقعده.. وهجموا على
"الباشا" وطرحوه أرضا واعتدوا عليه بالضرب.. فى تلك اللحظة كان السير
"ريفرس ولسون" قادما من عند "ولى النعم" منزوع الصلاحيات
متجها لوزارة المالية.. فهاله ما رأى بعدما لمح "الباشا" بين أيدى
الضباط.. فأقبل عليهم رافعا عصاه فى وجوههم.. ثم انهال ضربا على من تطاله يداه..
فما كان منهم إلى أن هجموا عليه وأحاطوه هو الآخر جاذبين إياه من لحيته وأدخلوه مع
"الباشا" إلى سراى الوزارة بعد أن اقتحموا أبوابها.. واحتلوا غرفها
وقاعاتها.. حبسوا "الباشا" و"رياض باشا" والسير "ريفرس
ولسون" فى إحدى غرف الدور الأعلى.. وصار الموظفين الأجانب بالوزارة تحت رحمة
الضباط الغاضبين!
إنقلبت الدنيا رأسا على عقب.. طارت أنباء ما حدث فى كل مكان.. عرف
قناصل الدول الأوروبية.. فهرع اللورد "فيفيان" قنصل انجلترا العام إلى
سراى عابدين مطالبا الخديوى بالتدخل.. وتلك كانت فرصة لم يفوتها, ممنيا نفسه بأن
القناصل الأوروبيين يعلمون الآن أنه لا حل لإقرار الأمن وإعادة الأمور إلى نصابها
إلا بتدخله.. وفى هذه الحالة يمكنه أن يملى شروطه على الأوروبيين ويطالب بإعادة
حتى جزء من سلطانه المسلوب.. ضمانة لأرواح الأجانب.. إنطلق بعربته بصحبة القنصل
الانجليزى إلى وزارة المالية بؤرة الأحداث الملتهبة.. عندما وصل "ولى
النعم" كان جمع من المتظاهرين قد احتشدوا أمام وزارة المالية.. فهتفوا له
وأفسحوا له المجال حتى ليعبر ثم أحاطوه مرة أخرى.. فطيب خاطرهم وتعهد بآداء
رواتبهم.. إحتراما لمكانة "الخديوى" سكن معظم الضباط.. لكن ظل بعضهم على
ثورتهم وصياحهم.. واقترب منه أحدهم يريد أن يمسكه من ذراعه.. فبوغت "ولى
النعم" مذعورا وأمر الحرس بتفريق المجتمعين بالسلاح.. فشهر الحرس سلاحهم..
وفجأة دوت طلقة رصاص مجهولة لم يعرف مصدرها.. فبدأ الجنود إطلاق النار فى الهواء..
وجرح الضباط "تشريفاتى" الخديوى بالسيف.. تفرق المتظاهرون وأخلوا طريق
الوزارة حيث تم إطلاق سراح الوزراء المحبوسين.. وانتهت المظاهرة التى عرفت فى
التاريخ باسم "ثورة الضباط".. وذكرها بالتفصيل المؤرخ الكبير "عبد
الرحمن الرافعى فى كتابه "عصر إسماعيل".. كما نشرته تحت هذا العنوان
"الوقائع المصرية" فى عددها الصادر يوم 23 فبراير 1879.. وكان شاهدا على
هذا اليوم أيضا اللورد "كرومر" العضو الانجليزى فى صندوق الدين ورواه فى
كتابه "مصر الحديثة".
إنتهازا للفرصة المواتية, إجتمع "ولى النعم" بقناصل
الدول الأوروبية وأخبرهم أنه لن يكون هناك فرصة لاستتباب الأمن فى البلاد وحماية
الأوراح والمصالح الأوروبية إلى بعودة بعض صلاحياته وإقالة "نوبار"..
اجتمع القناصل والوزيرين الأوروبيين فى الوزارة واللورد "كرومر" ومعهم
"الباشا" لتداول الأمر.. وانتهوا إلى إجابة "الخديوى لطلبه.. توجه
الجمع مباشرة إلى سراى عابدين لإبلاغ "أفندينا" بقرارهم.. طلب منهم
إقصاء "رياض باشا" أيضا.. لكنهم تمسكوا به.. إستقالت – أو أقيلت – وزارة
"نوبار".. واقترضت الحكومة مبلغ 400 الف جنيه انجليزى من بيت مال
"روتشيلد" لدفع متأخرات الضباط.. ونظر المجلس العسكرى فى أمر الضباط المشاركين
وقضى ببراءتهم جميعا.. وبذلك طويت تلك الصفحة إلى حين!
التالية.. بزوغ نجم الجمعية الوطنية.. وإزاحة ولى النعم عن الحكم
0 تعليقات