محمود جابر
نواصل الحديث مع المؤرخ الراحل الدكتور رفعت السعيد وكتابه بناة
مصر الحديثة ...
يستكمل السعيد حديثه عن الرأسمالية المصرية ....
كانت الرأسمالية تنمو لكنها كانت فى اغلبها فى أيدي الأجانب وإذا
لاحظنا ان الأجانب لم يكونا مطالبين بدفع الضرائب بينما يلقى عبء تحصيل مطلوبات
الضرائب بأكمله على المصريين وحدهم اتضح حجم المشكلة ... !!
لكن التواجد الأجنبي الكثيف لم يستطيع إلغاء النشاط التجاري المصرى
بالكلية فثمة أنشطة محلية وتجارية شعبية تتعلق بالمزاج المصرى كالبن والبخور والأعشاب
والملابس البلدية واللبان والصابون والزيوت والحرير والطرابيش وغيرها ..
ومن أمثلة هؤلاء محمود محرم ويقول عنه على مبارك " انه
الخواجا المعظم والملاذ المفخم سيدى الحاج محمود محرم أصل والده من الفيوم واستوطن
مصر – يقصد القاهرة – وتعاطى التجارة وتربى له الحاج محمود المذكور تربى فى العز
والرفاهية ولما ترعرع وبلغ اشده خالط الناس وشارك واخذ وأعطى وظهرت نجابته وسعادته
كان اذا امسك التراب صار ذهبا فسلم له والده زمام الأمور فشاع خبره فى الديار
المصرية والحجازية والشامية والرومية ".
ثم هناك عائلات الطرزى والهجين وغيرهم .
لكنهم كانوا تجارا من الطراز القديم ، وكانت تراكمات أموالهم تتحول
سريعا كما اشرنا من قبل إلى شراء أراض زراعية ولعل هذا فى حد ذاته كان كفيلا بإكسابهم
طابع وعقلية وممارسات الأعيان والذوات وليس التجار ذوو الفكر والتقاليد والتطلعات
الحديثة القائمة على التطلع نحو استثمارات حديثة فى مجتمع حديث، هذا التوجه الاستثماري
المصرى الذى اتجه نحو الزراعة كان يعنى إفساح الطريق للاستثمارات الاجنية فى
المضاربات المالية والاستثمار المالى، ولعل المانع لدى كثير من التجار المصريين –
المسلمين – من الدخول فى هذا المجال هو الحرج الدينى مما يصفونه بـ "
الربا" وفقا لأفكار رجال الدين محافظين وهو عكس رأى مفتى الديار المصرية فى
هذا الوقت وهو الشيخ محمد عبده الذي دار بينه وبين هؤلاء المشايخ معركة كبيرة فى
هذا الخصوص، ولكن اقتلاع الأفكار القديمة وخاصة بما يتعلق بالدين كان أمرا بالغ
الصعوبة، ولعل بقايا هذه المعركة ما زالت مستمرة حتى الآن .
أما ما يتعلق بفئة المتعلمين المصريين الذين كانوا فى عهد محمد على
يصعدون سريعا فى السلم الوظيفى وينالون إنعامات وفيرة فقد تزايد عددهم مع تزايد
عدد المدارس.
فالمدارس الكبيرة كانت عددها فى 1862 م، 185 مدرسة فقط وفى عام
1875 م، أصبحت 4817 مدرسة وبها 6048 مدرسا، والحقيقة ان انتشار التعليم الحديث كان
يمثل طفرة جديدة فى حياة البلاد .
وبذلك انتفت هيمنة مثقفي الأزهر على المناخ الفكري والاجتماعي فى
مصر، وبرزت قوى فكرية جديدة تميزت بمزاج أكثر ليبرالية وأكثر حداثة وأقدر على
التطلع نحو المستقبل، وكانت الجامعة الأهلية ومدرسة القضاء الشرعى من ثمار هذا
التوجه .
وفى كلا الأمرين كان الأستاذ الإمام محمد عبده حاضرا بفاعلية مما أدى
الى تقوية هذا الاتجاه لكنه أدى أيضا إلى إخفاء بعض معالم التمايز بين الفئتين
المثقفين الليبراليين من ثمار المدارس، والمثقفين الأزهريين .
وبدأت ثمار المدارس الحديثة فى تشكيل طبقة مستنيرة من لمدرسين
والموظفين ورجال الفكر تتطلع بطبيعة الحال الى احتلال مكانة مرموقة فى المجتمع وأجهزة
الدولة .
لكن الأجانب الذين سدوا الطريق أمام التجار الوطنيين كانوا يسدون
الطريق أيضا أمام الخرجين المصريين ..
والحقيقة أننا بحاجة إلى رؤية متأنية تعود بنا الى تاريخ نشأة هذا
النموذج " المثقف" أو الافندى" الذى انتزع انتزاعا وبالقوة وبالربط
بالحبال من قريته ليفرض عليه التعليم وما ان يتعلم حتى يصبح أفنديا موظفا فى السلم
الإداري الجديد. ثم يصعد .. يصعد ليصبح مالكا عبر إنعامات الباشا . هذه المحاولة
زادت من ارتباك المكون الاجتماعي للهيكل الطبقى فى المجتمع المصرى .
ونبدأ كالعادة بمحمد على ، فالأتراك والشراكسة الذين التفوا حوله
كانوا لا يرغبون فى التعليم لا هم ولا أبنائهم ، بل اعتبروه مضيعة للوقت وأمر لا
طائل من وراءه، وكان لابد من تعليم أبناء الفلاحين ولو بالقوة حيث الفلاحون يخشون
على أبنائهم من مغادرة القرية، والتعليم عندهم هو المجاورة فى الأزهر .
وهكذا قام محمد على بإرسال رجاله بتجريدات على القرى لجمع كل من
يبدو عليه قدر من النجابة من الأطفال، أطفال الفقراء يخطفون من أبائهم غصبا
ويربطون بالحبال حتى لا يهربوا من مدارس الباشا، وكان رفاعة الطهطاوى يتجول فى
النيل بذهبية يتوقف عند القرى لينتقى أطفالا عليهم علامات النجابة فيضمهم الى
تلاميذ المدارس .
هؤلاء الأطفال هم بناة مصر الحديثة، وهم الذين أرسلهم محمد على الى
بعثات فى أوربا وقد ضمت البعثة الأولى التى سافرت الى باريس 37 طالبا تخصصوا فى الإدارة
العسكرية والطبيعة والكيمياء والإدارة البحرية والميكانيا والهندسة العسكرية وصنعة
الأسلحة ومسابك الحديد والطب والجراحة وعلوم المعادن .
حتى بلغ هؤلاء الطلاب تسعة آلاف خريج احتلو مكانهم فى السلم
الادارى للدولة الحديثة ...
وللحديث بقية
0 تعليقات