محمود جابر
يوضح الدكتور رفعت السعيد فى كتابه مصطلح جديد وقطاع جديد فى
المجتمع المصري سماه الإقطاع الوظيفي فقال :
ثمة نموذج غريب لعله يعبر عن قيام نوع جديد من الإقطاع وهو الإقطاع
الوظيفي، والذى مارسه قلينى فهمى باشا وهو احد أبناء الملتزمين الكبار وكان يدير
جملة مصالح فى آن واحد منها مصلحة الدخليات فى عموم القطر والملح والقطران ومصالح
المصايد السمكية بالنيل والبحر الأحمر والبحر الأبيض ومصلحة الملاحة ودهبيات النيل
والمراكب ودمغة المصوغات وكان أيضا عضوا فى لجنة تعيين المستخدمين بالحكومة ورئيسا
لمجلس التأديب .
أما الحرفيون فقد تلقوا ضربة شديدة بسبب عملية التصنيع الواسع التى
أقامها محمد على ، وعندما توافد التجار الأجانب والحرفيون الأجانب ( ترزية –
ساعاتية – صناع أحذية ...) ومع تزايد أعداد الفئات الوسطى والموظفين وسكان المدن
صار الاعتماد يتزايد أكثر فأكثر على الحرفيين الأجانب وعلى السلع المستوردة، والتى
تدفقت على مصر بلا حدود لتخلق لنفسها سوقا رائجة تزاحم التجار والحرفين على حد
سواء .
ومن تزايد الولع المصرى بالنموذج الغربى فى استخدام لملابس والطعام
ومختلف المعدات والاحتياجات اليومية ذات المنشأ الاوربى تمايز فى القاهرة سوقان ،
كان الحد الفاصل بينهما هو مبنى صيدناوى وعمارة تيرنج فى العتبة فالامتداد الى قلب
العاصمة الحديثة ( حيث شارع عدلى وثروت و26 يوليو وقصر النيل وميدان طلعت حرب
بمسمياته الحديثة ) كان تقريبا قطعة من اوربا سواء بالمحلات التجارية ( شيكوريل-
هانو – عدس – ريفولى – شملا – جروبى تسيباس ... الخ ) وأيضا بالسكان الذين كانوا
فى مجملهم أجانب الى درجة ان الكاتب محمد التابعى كتب فى آخر ساعة عام
هذا الامتداد كان سوقا أوربية سواء بأسماء المحال أو الملاك أو
الباعة أو البضاعة ، وبالمقابل وفى الاتجاه الاخر من العتبة حيث الموسكى
وامتداداته من عقادين ومناخلية وصياغ وطرابيسية وصناع قباقيب وبلغ وغيرها كان كل
ما تبقى للحرفيين والتجار المصريين والحرفى من هذا النوع وفى هذا المناخ يظل
محاصرا بحرفه بدائية فصناع القباقيب أو الطرابيش أو البلغ يظل ينتجها ويتناقص رزقه
مع تناقص زبائنه وفقرهم أليس تجار الفقراء فقراء هم أيضا ويستمر كذلك حتى ينقرض .
والآن ... وبعد هذه المقدمة المطولة يمكننا ان نستخلص طبيعة
المسارات المختلفة عن النموذج المعتمد للتطور الرأسمالى .
فأبدا لم يكن فى مصر النموذج الاقطاعى الاوروبى ، بل كان بها ما
اسمى أحيانا بالمجتمع النهرى أو اسمى – علميا – بنمط الإنتاج الاسيوى ، فالنهر مركز
الحياة والمياه والزراعة والاتصال بين المكونات الجغرافية خلق ضرورة حتمية لحكومة
مركزية موحدة ودولة وموحدة وحكم مركزى يمكنه ان يدير عملية الاعتماد الدائم والكلى
على النهر ، وترت على ذلك ليس فقط قيام حكومة مركزية وإنما أيضا نمط مجتمعى متكامل
يختلف اختلافا جذريا مع المجتمع الاقطاعى ، سواء فى نظام الحكم أو العلاقات
الاجتماعية والطبقية وأساليب الإنتاج وممكنات تطورها .
وكبار الملاك العقاريين لم يكونوا إقطاعيين بالمعنى المتعارف عليه
غربيا او فى النظريات الغربية وعلاقة العمل فى أرضهم كانت مختلفة عن علاقات عمل الفن
فى الاقطاعيات الاوروبية ، كما ان هؤلاء الملاك كانوا فى اغلبهم من الموظفين او
ورثتهم وهم أيضا موظفون ومثقفون ومن أعيان المدن أى انهم فى اغلب الأحيان ملاك
غائبون .
والمالك المصرى الكبير كان يترك ثروته العقارية فى القرية ويضع
نفسه ومختلف أنشطته الحياتية فى المدنية ويشكل هذا النمط من الحياة العقلية
والاجتماعية والاقتصادية المختلفة .
وكنموذج مبسط فإن المالك الكبير كان ينتج القطن فى مزارعه بعلاقات إنتاج
يمكن وصفها تجاوزا بانها شبه إقطاعية ( لكنها بالقطع ليست إقطاعية وفق التعريف
الغربى ) بينما يبيع قطنه فى البورصة التى هى ارقي إشكال التداول السلعى الرأسمالى
. إنهم جنس خليط لا هو اقطاعى خالص ولا هو راسمالى خالص وانما بين بين . ولابد ان
ينعمس ذلك على المنطلقات الاجتماعية والسياسية النضالية لهذه الفئة التى ظلت
تربكنا حتى الآن . فكيف نقوم – مثلا- بتحليل طبقى لحزب الوفد عند نشأته انه مزيج
من هم كبار ملاك ومتجهين نحو الجنين الرأسمالى ومتعلمين، بحيث يمكن القول إننا إزاء
جنين راسمالى ياتى من رحم كبار الملاك العقاريين . وهو جنين هجين ويمكن القول انه
مشوه .
يزيد الأمر ارتباكا ان التجار قد انتهزوا فرصة بيع أملاك الدائرة
السنية ونجاح شبكات الصرف والرى فى زيادة ريع الأرض الزراعية وهروبا من شكوك
ووساوس دينية لمظهر حول مدى شرعية التعمل مع المصارف وشركات التأمين ( التى لا نمو
رأسمالى بدونها) كل ذلك تحول بتركمات أموال التجار ليس نحو النمو الراسمالى وإنما
نحو امتلاك الأرض الزراعية فوقفوا هم ايضا فى مكان مختلط قدم فى المدينة بعقلية
التاجر وقدم فى الريف وتعامل بنمط انتاج اخر .
وللحديث بقية
0 تعليقات