آخر الأخبار

ثورة "الحديد والصلب"

 


 

 

بقلم: د. عبد الحليم قنديل

 

 

ربما لا يعلو صوت على صوت معركة "مصنع الحديد والصلب" الجارية فى مصر هذه الأيام ، فهى ليست مجرد خلاف على مصير شركة عامة قرروا تصفيتها ، وبدعاوى سخيفة عن نزيف خسائرمصنوع ، بل كان قرار التصفية الكارثى استدعاء لحروب سياسة كاملة الأوصاف ، فارتباط المصنع باسم القائد العظيم جمال عبد الناصر ، جعلها حرب مصير وطنى ، وتأسيس المصنع عام 1954 بالاكتتاب العام ، أعطاها عمقا شعبيا ، والامتياز الفريد للمصنع التاريخى المقام على 2500 فدان فى منطقة "التبين" بحلوان ، وكونه منشأة عملاقة ، تضم إلى جوار المصنع مدينة سكنية للعمال ، وبنية أساسية كبرى ، ممتدة بشبكة سكك حديدية خاصة إلى مناجم حديد أسوان فى الجنوب ، وإلى خامات "الواحات" غربا ، والتواصل المباشر شمالا مع ميناء "الدخيلة" غرب الاسكندرية ، وكما لو كانت الصورة خريطة مختصرة لجغرافيا مصر كلها ، وفى قلبها المصنع الذى كان قفزة هائلة فى زمانه ، يومئ إلى الحلم بمصر جديدة إنتاجية مقتحمة لصناعات العصر الثقيلة ، وفى توقيت توازى مع ملاحم تأميم قناة السويس وبناء السد العالى والكهربة الشاملة للريف المصرى ، تعززت بعدها بدور القلعة الصناعية الجوهرى فى دعم التنمية المستقلة وحرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ وصولا إلى حرب أكتوبر 1973 .

 

 

وكما جرى فى عموم مصر ، وتاريخها الأقرب المثخن بالجراح ، كان المصنع المشع بمعانيه الانتاجية والوطنية الكثيفة ، أشبه بشوكة غائرة فى حلق الذين أرادوا هدم قلاع التقدم المصرى ، وجعلوه هدفا مفضلا للتحطيم ، فالمصنع الذى بدأ بفرنين ، زادت فيما بعد إلى أربعة ، حوصر عن عمد وإصرار ، وأوقفت عمليات الإحلال والتجديد فيه ، منذ أربعين سنة مضت ، وتوالت عليه أكثر الإدارات جهلا وفسادا وتخسيرا ، وزادوا أثقاله فى السنوات الأخيرة بالزيادات الفلكية المتوالية فى أسعار الغاز والكهرباء ، وفرض ديون إضافية عليه بأثر رجعى ، ومنع توريد فحم الكوك ، وإيقاف عمل أفرانه الأربعة ، إلا من فرن وحيد ، ظل يعمل بانقطاع ، وإلى أن تراكمت خسائر المصنع على الورق ، وضاعفوها إلى ما يزيد على ثمانية مليارات جنيه ، أى نحو خمسمائة مليون دولار ، وتضييق الخناق على المصنع بهدف تصفيته ، والادعاء بعدم جدوى ما تبقى من تشغيله ، مع أن مصنع الحديد والصلب ، هو الوحيد فى مصر الذى يعتمد على خامات محلية لا مستوردة ، والوحيد الذى ينتج ألواح الصلب المخمد المعد للسحب العميق ، الذى تحتاجه صناعة أوعية الضغط ، ويتمتع بقابلية ممتازة للحام ، وهو الوحيد الذى ينتج الزوايا الصلب والقطاعات المختلفة وقضبان وفلنكات المترو والسكك الحديدية وسلاسل المراكب وكمرات الكبارى والستائر الحديدية وأنابيب ومستودعات البترول ، وهو الوحيد المؤهل مع تطويره لصناعة الصلب المخصوص ، الذى يستخدم فى صناعة المدرعات والدبابات والسفن ، وقد بنى المصنع فى الأصل بالتعاون مع "ديماج" الألمانية عام 1954 ، وتكونت فيه أجيال من أكفأ المهندسين والعمال ، يريدون الآن رمى سبعة آلاف منهم إلى الشارع ، وحرمان مصر من التراكم الفنى الإنتاجى ، وجعل المشهد حكرا لمصانع حديد الحيتان ، التى لا تتشارك مع مصنع حلوان ، إلا فى صناعة حديد التسليح ، مع فوارق ظاهرة ، بينها أن مصنع الدرفلة فى حلوان أنشئ مبكرا جدا ، وافتتحه جمال عبد الناصر عام 1969 ، وجرى التوسع فى نشاطه ، مع إضافة "مصنع الدخيلة" فيما بعد ، الذى أنشئ كجزء من القطاع العام ، ثم جرت عليه نوائب الخصخصة و"المصمصة" ، واشتراه أحمد عز بتراب الفلوس ، والمذكور كما هو معروف ، كان صنوا لجمال مبارك فى عملية توريث الرئاسة ، التى جرى قطع الطريق عليها بثورة 25 يناير 2011 ، التى حملت جماهيرها صورة جمال عبد الناصر فوق الرءوس ، كما فى موجة الثورة الثانية 30 يونيو 2013 ، وبما زاد من وتيرة حروب الأحقاد والثأر الاجتماعى ، وبالذات مع توالى حكومات الثورة المضادة ، التى لم تنس ثأرها مع الشعب المصرى ، وقلاعه الصناعية العظمى ، التى جرى تدميرها تباعا فى غارات الخصخصة ، ثم تحولوا أخيرا إلى التصفية ، إفساحا فى المجال لشبكات نزح و"شفط" السلطة والثروة ، وإزاحة المعنى الصناعى الإنتاجى الوطنى ، وفتح السوق لاستيراد "البليت" الجاهز ، وتقزيم صناعة الحديد فى مصر ، وتحويلها إلى مجرد ورش درفلة ، تكتفى بإنتاج أسياخ حديد التسليح ، والتحكم فى أسعارها ، ثم نهب البنية والموارد الأساسية لمصنع الحديد والصلب بحلوان ، والاستيلاء على مناجمه ومحاجره بوضع اليد ، وبإنشاء شركة استثمار و"استحمار" تسرقها عمليا ، بعد جز الرأس والقلب الصناعى ، وتخريد ماكيناته ، وتحويل أراضيه الواسعة إلى مزادات لإقامة عمارات سكنية ، لا يملك حق الوصول إليها سوى الأثرياء ، وهو عين ما جرى ويجرى مع قلاع صناعية سبقت تصفيتها ، ليس آخرها ما يجرى لمصانع طلخا وكفر الدوار ، وما جرى لمصانع طنطا للكتان والزيوت ، وما جرى قبل عقود لمصنع "المراجل البخارية" على نيل الجيزة ، وقد كان مصنعا عملاقا للغلايات ودروع الدبابات ، إدعوا أن "خصخصته" تهدف إلى تطويره تكنولوجيا ، ثم اقتطع المستثمرون أرضه ، وحولوها إلى أبراج سكنية شاهقة ، مع تخريد ماكينات المصنع بمعرفة المستثمر الأخير الملياردير نجيب ساويرس ، فائق الحماس اليوم لتصفية قلعة الحديد والصلب ، وهو ما يكشف طبيعة المعركة الدائرة ، وأهداف عملية التصفية ، فساويرس المعروف بأنه أغنى ملياردير مصرى ، لم يقم مصنعا فى حياته ، بل ظهر سليلا لزواج المال والسلطة ، وطفلا مدللا لهجين المعونة الأمريكية ، ويباهى دائما بثروته ، التى لا يعرف لها أصل مشروع اجتماعيا، وهو مجرد مضارب فى سوق الذهب ، تماما كالشخص الذى عينوه وزيرا لقطاع الأعمال العام ، ولا يدير عملا سوى تصفية ما تبقى من مصانع القطاع العام ، وعلى طريقة عمل "الطابور الخامس" فى الحروب ، وهو محض مضارب فى البورصة ، لا علاقة له بالصناعة ولا بالمصانع من أصله ، وهكذا كان الذين سبقوه فى السنوات الثلاثين الأخيرة كلها .

 

 

وحتى لا نتوه فى زحام التفاصيل ، فلن يقبل وطنى مصرى ، أن تمر تصفية مصنع الحديد والصلب الأكبر بغير حساب ، وبغير ردع لخطايا "الخصخصة" و"المصمصة" و"التصفية" ، فالتصنيع الشامل هو حجر الزاوية فى أى تحديث أو تقدم ، ولسنا من الذين يعصبون أعينهم بالهوى ، فلا يرون جهدا جبارا يجرى فى مصر من سنوات ، وورشة عمل غير مسبوقة فى حجمها ، تضم الملايين من المهندسين والفنيين والعمال ، وتكلفت نحو خمسة تريليونات جنيه مصرى ، أى نحو 320 مليار دولار بأسعار الصرف الجارية ، وأضافت عمرانا ومدنا جديدة وشبكة طرق حديثة وبنية أساسية ومحطات طاقة كبرى ، وكل هذا معلوم ومقدرعندنا ، لكن إضافاته الصناعية بدت أقل ، وكان رأينا ولا يزال ، أن يجرى تخصيص نصف هذا الإنفاق التريليونى لإنشاء المصانع الجديدة ، ولإنقاذ الصناعات الثقيلة ، كمصنع الحديد والصلب ومجمع الألمونيوم ، فقد تكون العمارات مهمة ، وكذا استصلاح واستزراع الأراضى الجديدة ، لكن المصانع أهم بمراحل ، فالصناعة تنمية بلا حدود وبلا سقف ، وتولد فرص عمل دائمة منتجة ، تضيف طاقات جديدة ، تحل محل الواردات المتضخمة ، وتفتح سبلا أوسع للتصدير ، ثم أنها ترد الاعتبار لقيم العلم والعمل ، وتخلق مجتمعا جديدا من قلب المجتمع الراكد ، يضيف مددا لحيوية السياسة ، التى ماتت بتراكم القهر ، وهو ما قد يفسر ثورة غضب الرأى العام من واقعة تصفية "الحديد والصلب" ، واتساع مدى الغضب هذه المرة ، إلى أصوات سكنت وسكتت طويلا ، وبما جاوز الغضب المفهوم فى صفوف الناصريين وأحزاب اليسار ، وأدى لتململ قطاعات قريبة من السلطة القائمة نفسها ، وإلى ظهور معارضين جدد فى مجلس النواب مطموس الملامح ، وبما يوحى بأن تطورا سياسيا بات وشيكا ، يتشقق فيه الصمت العام ، ويطلق صرخات حبيسة ، صمتت عن وجوه عوار تكاثرت ، وليس بوسعها أن تصمت عن تصفية "الحديد والصلب" ، فنحن بصدد جريمة قتل بحق صرح مملوك للشعب ، لا يحق لأحد التصرف فيه ، وهو رأسمال وطنى جامع ، قبل ومع كونه رأسمالا ماليا وإنتاجيا ، يجسد صلات العروة الوثقى بين الاقتصاد والسياسة ، ويفسرالغضب ما ذهبنا إليه مرارا ، من أن مصر اليوم ، تحتاج إلى تلمس طريقها لنهوض جديد ، يجمع بغير ترتيب ميكانيكى ، بين خمس مهام عاجلة متداخلة ، أولها : مواصلة الجهد لكسب استقلال القرارالوطنى كاملا ، وثانيها : أولوية التصنيع الشامل ، وثالثها : رد الاعتبار للعدالة الاجتماعية ، ورابعها : حرب شاملة لكنس امبراطورية الفساد المتحكم المتوحش ، وخامسها : إطلاق الحريات العامة وتفكيك الاحتقان السياسى والاجتماعى .

--------------------------

 

إرسال تعليق

0 تعليقات