نصر القفاص
حكاية "الولد" كما وصف السفير البريطاني لملك مصر
"فاروق" ليست جملة عابرة.. لها أصل وتفاصيل محفورة في ذاكرة التاريخ..
فالسفير "مايلز لامبسون"نشر مذكراته في بلاده.. تم ترجمتها ونشرها
بالعربية في مصر.. قدمها وحققها الدكتور "سامى أبو النور" الكاتب الصحفى
بالأهرام.. وفيما يذكر السفير: "في هذا البلد يبالغون دائما في كافة المسائل
المتعلقة بالقصر.. لسوء الحظ لم أجد علاجا لذلك.. وفيما عدا الأمير محمد على – ولى
العهد قبل مولد ابن الملك – فلا يوجد من يمكنه الوقوف في وجه الصبى – فاروق – الذى
بدا بالفعل مدللا وفاسدا"!!
كتب السفير هذا الكلام, ووصف الملك بأنه "الصبى"
و"المدلل" و"الفاسد" تعليقا على مشهد حضره يوم 29 ديسمبر عام
1938!! والمخزى أن السفير سجل يوم 2 يناير عام 1939 قائلا: "أبلغنى محمد
محمود – رئيس وزراء أسبق – أنه فاتح الملك في أمر فيروتشى وتولد لدى محمد محمود أن
الفتى – الملك فاروق – لن يكون من الميسور التعامل معه" ثم أضاف السفير في
مذكراته: "أبلغ محمد محمود الملك أيضا, بأن هناك العديد من التقارير تشير إلى
أن ماضى فيروتشى ليس فوق مستوى الشبهات, ومن ذلك أنه عمل من قبل قوادا.. فعلق
فاروق قائلا: قواد لمن؟! الأمر الذى أحرج محمد محمود.. فقال ضاحكا: لى أنا.. لم
يكن بوسعه أن يقول للفتى – فاروق – صراحة أن فيروتشى كان يعمل قوادا لأبيه الملك
فؤاد"!!
كان "فيروتشى" هذا أيطالى الجنسية.. عمل كبيرا لمهندسى
القصور الملكية, وكان له دورا سياسيا يلعبه لصالح بلاده.. وبالتبعية لدول المحور..
تسبب ذلك في قلق للدوائر البريطانية.. تضاعف ذلك بوضوح الصورة وتفجر الحرب
العالمية الثانية.
تلك ليست حكاية روجتها ثورة 23 يوليو ورجالها.. لكنها أوراق رسمية
سجل فيها أعداء الثورة ورجالهم الأحداث.. والتاريخ يحمل مئات الحكايات.. بل أن
معظمها كانت تنشره الصحف المصرية, وتلوكها ألسنة العامة ليل نهار.. بينها حكايات
"أم الملك" وفضائحها التي سنتوقف عندها في حينه.. لكن ملكا يتمسك بمن
كان يعمل قوادا لوالده.. فهى مسألة ذات دلالة, وكفيلة بأن تخرس أولئك الذين
يحدثونك عن عظمة وروعة "الملكية"!!
لكنهم اطمأنوا إلى نجاح صمت التاريخ, وعملية اعتقال الحقيقة ووضعها
فى السجن!
يكتب السفير "لامبسون" في مذكراته عن يوم 17 يناير عام
1940 فيقول: "ذهبت لحضور حفل كبير أقامه الأمير محمد على بقصر الزعفران –
بحامعة عين شمس حاليا – وضم إلى جانب المصريين خليط من البريطانيين والفرنسيين
والأتراك.. كان الهدف من الحفل إظهار التأييد للحلفاء.. حضر الحفل الملك فاروق..
رحنا نتحدث عن المعرض المقام لبيع الكتب, إذ أن جلالته إبتاع لنفسه الكثير منها..
وقال لى مازحا: إنه يحتمل أن تكون رأيت صديقك القديم – يقصد فيروتشى – فقلت نعم..
قابلته بالفعل, إلا أنه من المبالغة أن أعتبره صديقا.. ولست واثقا على وجه اليقين
ما إذا كنت قد وصفت الرجل بأنه – كلب قذر – وقد أكون قلت كلاما مشابها على سبيل
المزاح".
أتوقف أمام تلك الواقعة لأنه كان لها ما بعدها.. وهو مدهش وعجيب..
فالسفير يستكمل قائلا: "عندما عدت إلى السفارة إتصل بى ذو الفقار باشا – رئيس
الديوان الملكى آنذاك – وأبلغنى برغبته في مقابلتى.. سألنى عن الموعد المناسب..
فطلبت منه الحضور على الفور.. عندما قابلته بدا عليه الحرج واضحا.. بادرته بالسؤال
عن سبب حضوره.. أجابنى أن الملك استدعاه فور عودته من قصر الزعفران, وأبلغه أن
لامبسون وصف أحد موظفي القصر – فروتشى – بأنه كلب قذر, وأن ذلك تعبير غير مناسب
لأحد موظفي جلالته.. فقلت لذو الفقار أننى نسيت الأمر, ولا أتذكر على وجه اليقين
أننى استخدمت هذا الوصف.. وأننى أعلم أن جلالته على علم تام بالمصطلحات الإنجليزية
وعبارات الوصف التي نستخدمها.. وإن لم يكن الملك فاروق على استعداد لقبول وصفى
تجاه فيروتشى بأنه كلب قذر.. فإننى مستعد لأن أقول أنه كلب لطيف أو أي وصف ملائم
للكلب يفضله جلالته"!!
تكشف مذكرات "لامبسون" وقائع كلها تؤكد أن الملك والذين
حوله من ساسة, كانوا يدورون في فلكه.. وأنه كان صاحب الأمر والنهى في كافة شئون
الحكم.. كما تكشف كم كان الملك فاروق ساذجا.. سطحيا.. لا يهتم بغير هوامش الأمور..
وحتى لا نصدر أحكاما نختلف حولها أو عليها.. أعود لمذكرات السفير التي سجلها عن
يوم 17 يونيو 1940, وفيها قال: "قابلت الملك فاروق في الثالثة والنصف بعد ظهر
اليوم بقصر المنتزة.. كان جلالته في حالة طيبة.. بدأت حديثى بما أسميه أشياء
صغيرة.. رويت له الكثير لكى أسرى عنه!! فمثلا اعتقلت قواتنا في الصحراء الغربية
جنرالا ومعه أربع سيدات في سيارة رائعة.. إهتز جلالته ضاحكا وقال أنه يأمل أن أروى
له ما كان من أمر السيدات الأربع!! قلت له: قبيل مغادرتى القاهرة وصلنى تقرير –
غير مؤكد – بأن قواتنا تمكنت من أسر 12 دبابة و6 مدافع و7 ناقلات جنود لقوات
المحور.. عقب على ذلك بأنها أنباء طيبة.. ثم تحولت إلى موضوع أكثر دقة يتصل
بالتقرير الذى تسلمته من الأدميرال إليوت – قائد القوات البحرية البريطانية
بالإسكندرية – قبل حضورى لمقابلة جلالته.. يتضمن التقرير أنه تم رصد أضواء على
الساحل لعدة ليالى.. وأنها إما أن تكون إشارات للغواصات المعادية أو لتسهيل قيام
الإيطاليين بعمليات بث الألغام.. وقد أعطانى الأدميرال إليوت صورا فوتوغرافية
للمنزل الذى تنبعث منه الأضواء.. سلمت جلالته صورة من تقرير إليوت, وكذا نسخة من
الصور الفوتوغرافية.. بيد أن المفاجأة تمثلت في أن المنزل الذى أظهرته الصور, لم
يكن سوى القصر الملكى الذى كنا نجلس داخله في تلك اللحظة!! فقال أنه سيتولى الأمر
بنفسه.. وأثناء تناولنا الطعام قلت له أننى سأعود إلى السبب الرئيسى الذى حضرت من
أجله إلى الإسكندرية.. وقرأت عليه نص فقرتين من برقية الخارجية البريطانية رقم 468
وسلمته نصها كتابة بناء على طلبه.. أوضحت له ضرورة الثقة بيننا وتوافرها فى تلك
الأوقات الحرجة.. وذلك يتحقق بأن يذهب على ماهر.. وسريعا.. وأننا لن نوافق على
عودته للقصر – كان على ماهر رئيسا للوزراء ومرفوض عودته رئيسا للديوان الملكى –
لأن وجوده في القصر سيجعل من المستحيل على أى حكومة أن تمارس مهامها.. هنا طلب
مهلة للتفكير, ثم سألنى عمن أرشحه لكى يشكل حكومة بديلة لحكومة على ماهر.. فأجبت
بأننى لا يمكننى أن أقترح شخصا بعينه.. إلا أن منطق الأمور ورغبتنا تتطلب أن يكون
من يتولى الأمر قادر على التعامل معنا بروح الود والتفاهم ويسعى إلى تطبيق روح
معاهدة 1936, فضلا عن أنه يجب أن يحظى بتأييد البلاد.. واقترحت عليه محمد محمود
كزعيم للمعارضة ومصطفى النحاس كزعيم للأغلبية"!!
تختلف القراءة للفهم عن القراءة للتسلية.. ذلك يدفعنى إلى التوقف
عند مغزى ما تركه سير "لامبسون" في مذكراته كشهادة للتاريخ.. فهو فيما
يروى يقدم أنه بدأ حواره مع الملك في هذا اليوم بالتسرية عليه, فحدثه عن جنرال معه
أربع سيدات.. وهى الحكاية التي فجرت ضحكات جلالته وطلب تفاصيلا.. ثم عبر على مسألة
حربية ومعركة انتهت إلى أسر دبابات ومدافع وناقلات جند.. بعدها كانت المسألة
المفزعة المتمثلة في استخدام قصر الملك لتنفيذ عمليات حربية سرية دون درايته!!
والمدهش أنه تعامل مع الموضوع ببساطة ووعد بأن يتولى الأمر.. كل هذا حتى وصل
السفير إلى رغبة – هى فى الحقيقة أمر – بأن تتم إقالة وزارة "على ماهر",
وشرط عدم عودته لرئاسة الديوان الملكى.. والمفزع أن الملك دعى السفير أن يشير عليه
بمن يشكل الحكومة الجديدة, فقدم له "محمد محمود" و"مصطفى
النحاس".. وما حدث بعد ذلك أنه اختار "محمد محمود" وكلفه بتشكيل
الوزارة.
الوقائع مترابطة.. تسلسلها شديد الأهمية.. فقد جرب
"لامبسون" التدخل بإقالة وزارة وتعيين أخرى بأمر لطيف!! وترتب على ذلك
تكرار المسألة بأمر قذر!! على طريقته في وصف "فيروتشى" بأنه كلب قذر..
وعندما رفض الملك ذلك تجاه موظف ملكى.. قال فليكن كلب لطيف!! وبناء على ذلك كان
تحريك الدبابات والمصفحات يوم 4 فبراير عام 1942 لتنصيب النحاس رئيسا للوزراء!!
ولأن كل تلك الوقائع والحقائق جرى طمسها وتغييبها.. أصبح سهلا أن
يطل علينا من يفاخرون بالملك وزمنه, ويتجاهلون أن مصر كانت محتلة ويلعب بأقدارها..
مجرد سفير بريطانى فى القاهرة!!
سمحنا على مدى سنوات أن يتم تزييف التاريخ وتشويهه.. فرضنا على
الوعى أن يكون مفقودا.. تركنا الحقيقة وناقشنا الأكاذيب.. ثم صدقنا الأكاذيب
وتركنا من يروجونها لا يتوقفون عن ترديدها.. قدمنا من لا يعرف ولا يعلم, لكى
يتكلم.. منعنا من يملكون الحقيقة والوثائق من الكلام, لدرجة أن دراسة علم التاريخ
تحولت إلى هامش.. بل قل أصبحت مادة تسلية مستباحة.. حتى وصلنا إلى درجة الجرأة على
القول بأن مصر في الثلاثينات والأربعينات كانت أفضل من بعدها.. وهو قول باطل يراد
به باطل..
يتبع
0 تعليقات