نصر القفاص
يوم 14 يونيو 1950 علم الملك "فاروق" بأن "مصطفى
النحاس" سيحتفل بعيد ميلاده يوم "15 يونيو".. كانت العلاقة بينهما
قد انقلبت من الكراهية إلى الحب.. من العداء إلى الصداقة.. فكر فى التعبير عن ذلك
بإرسال هدية له.. سأل من حوله عن الهدية المناسبة.. سمع اقتراحا بإهدائه صورته
وعليها توقيعه.. رفضه باعتبار أنه "بدرى" إهداؤه صورة جلالة الملك!! سمع
اقتراحا آخر بتقديم ساعة ملكية تحمل التاج والحرف الأول من إسم جلالته.. رفض ذلك
الاقتراح – أيضا – رغم أن هذه الهدية أو تلك لا يتجاوز ثمنها مائة جنيها!! هداه
تفكيره إلى استدعاء "سليمان قاسم" رئيس الخدم فى القصر.. قال له:
"إعمل ترتيبك مع مفتش مزارع أنشاص لكى ترسلوا غدا إلى النحاس باشا صندوقا من
فواكه أنشاص, وعلى من يحمله إليه أن يفهمه أنها هدية شخصية من جلالة الملك بمناسبة
عيد ميلاده"!!
تسلم "النحاس باشا" الهدية, ونشرت الصحف فى اليوم التالى
حكايتها تحت عنوان "عطف الملك على كبير وزرائه فى عيد ميلاده"!! أى أن
الواقعة كانت شديدة العلنية, وتعكس مدى القرب من الطرفين.. ويؤكد ذلك فى مذكراته
"عصام حسونة" وزير العدل الأسبق.. ولنا أن نعرف عنه أنه كان وكيل النائب
العام الذى حقق قضية "السيارة الجيب" الشهيرة لجماعة الإخوان.. وكان
وزير العدل الذى تابع وأشرف على التحقيقات فى قضية انتحار المشير "عبد الحكيم
عامر" وفى شبابه تم انتخابه عضو مجلس إدارة نادى القضاة قبل الثورة.. وبعدها
تولى مناصب رئاسة المحكمة العليا فى غزة وصاغ أول دستور لها مع مأمون الهضيبى!! ثم
محافظا.. وآخر مناصبه كان وزيرا للعدل.. وحين كتب مذكراته المنشورة عام 1990 عن
"الأهرام" ذكر فيها: "كانت فضائح الملك ومباذله, قد أصبحت المادة
المسلية لصحافة أوروبا وقرائها.. وكانت الصحافة المصرية المعارضة تحتال بالإشارة
بطريق الإيحاء والرمز.. ولم تكن القيادة السياسية, ومعها القصر الملكى تزيد عن
عرائس المسرح.. يحركها بطرف إصبعه مستشار, وأحيانا السكرتير الأول فى قصر
الدوبارة.. ورأيت أحشاء النظام أمامى يوم افتتاح الملك لنادى القضاة".
ما يهمنا هو شهادة الرؤية بالعين.
كيف كانت أحشاء النظام التى تحدث عنها "عصام حسونة"؟!
يحكى فيقول: "كنت أحضر اجتماعا لمجلس إدارة نادى القضاة..
أخبرونا أن جلالة الملك فاروق قبل الدعوة لافتتاح الدار الجديدة للنادى – مقر نادى
القضاة الحالى – وأن المجلس وكبير أمناء الملك قد وقع اختيارهم على شخصى لأكون – رائد
الملك – أى مرافق جلالته.. شرح لى كبير الأمناء ما يجب أن أرد به على الملك خلال
جولته.. فإذا سألنى عن البار.. أقول له هذا مقصف النادى يا مولاى.. لم أفكر فى سبب
اختيار هذه الكلمة بالذات"!!
تمضى رواية المستشار "عصام حسونة" فيضيف: "لم يكن
عندى بدلة ردنجوت أرتديها فى هذه المناسبة كما يقضى البروتوكول.. تفضل المستشار
حسن الهضيبى بإعارتى بدلته – مرشد الإخوان بعد حسن البنا – تهيبت الموقف.. هذه هى
المرة الأولى فى حياتى التى أرى فيها الملك وجها لوجه.. كانت الفجوة بين الملك
والشعب قد ازدادت اتساعا وعمقا.. كانت الحكومة التى تتولى السلطة هى حكومة الوفد
برئاسة رفعة مصطفى النحاس باشا.. عادت إلى السلطة بعد انتخابات عامة.. جاء الملك
فى موكبه المهيب.. تصدر السرادق الذى أعده مجلس إدارة النادى.. على يمينه جلس رفعة
رئيس الوزراء, ومعالى وزير العدل عبد الفتاح الطويل باشا.. على يساره سعادة محمود
فهمى يوسف باشا أول رئيس للنادى وصاحب فكرة تأسيسه, وسعادة أحمد حسن باشا رئيس
محكمة النقض".
ينقلنا بعد ذلك إلى ما يستحق التركيز, فيقول: "ألقى وزير
العدل كلمة رحب فيها بجلالة الملك المفدى.. ثم قام محمود فهمى يوسف باشا فشرح بين
يديه كيف نشأت فكرة تأسيس النادى.. ثم حمد الله أن أمد فى عمره حتى يرى مولانا
الملك المفدى.. راعى العدلة ونصير القضاة يفتتح بيديه الكريمتين الدار الجديدة..
كان الملك يجلس فى وقار مركزا بصره على المتحدثين.. كأنه مشغول بكلماتهم!! فلما
بدأ الملك تفقد أرجاء الدار.. كنت بجانبه.. لفت نظره فى صدر المكتبة صورة محمود
فهمى يوسف باشا.. سألنى: صورة مين دى؟!
أجبته.. فإذا به يسألنى:
ومن هو فهمى يوسف باشا؟.. أدركت أن الملك لم يلتفت إلى الكلمات خلال الترحيب به,
رغم أن مظهره كان ينبىء بعكس ذلك.. وصلنا إلى البار.. وكان منظمو الاحتفال قد
ملأوا الأرفف بزجاجات الشربات والمياه الغازية.. سألنى الملك: إيه دة؟! أجبت فى
سرعة: هذا مقصف يا مولاى!!.. فقال الملك وهو ينفجر فى ضحكة عالية: أمال فين زجاجات
الويسكى؟! ثم دخل الملك وأنا جانبه إحدى القاعات.. شاهد تمثالا يمثل عنزتين
تتناطحان. فالتفت إلى كبار رجال الدولة والوزراء والقضاة المحيطين به, وقال: أنا
مش عايز القضاة يعملوا زى المعيز دول!!
قهقه بصوت عال.. استقبل
الحضور النطق السامى بما يليق من تقدير وتعظيم.. وقالوا فى جدية: سيعمل رجال
القضاء بعون الله على الالتزام بهذه النصيحة الملكية الغالية.. وفى اليوم التالى
صدرت الصحف بعنوان يحمل النطق السامى للقضاة – أتمنى أن الحب شعاركم - !! وانتهى
الملك من جولته, واتخذ مكانه فى صدر القاعة الكبرى.. على يمينه النحاس باشا وكنت
واقفا على مقربة من الملك.. فإذا به يسألنى بصوت جهير – عال – نتيجة انتخابات
النادى إيه؟!.. إندهشت لأن الانتخابات ستتم فى المساء.. قلت لجلالته.. لسة يا
مولاى.. الانتخابات فى المساء.. قهقه عاليا موجها كلامه لرئيس الوزراء, على مسمع
من الحاضرين.. إشمعنى إنتم يا مصطفى باشا, بتعرفوا نتيجة انتخابات البرلمان قبل ما
تبدأ!! كان هذا هو النظام الذى أعمل وغيرى فى حراسته".
يكفى هذا المشهد من شهادة المستشار "عصام حسونة" عن
النظام السياسى فى مصر خلال الثلاثينات والأربعينات.. فهذا ملك يخاطب القضاة بما
لا يليق.. ويسخر من ديمقراطية "الزمن الليبرالى" موجها حديثه لزعيم حزب
الأغلبية ورئيس الوزراء!! وتلك الشهادة تتسق مع هدية الملك لرئيس الوزراء.. قفص
فاكهة!! وتتحدث عنه الصحف على أنه رعاية من جلالته لكبير وزرائه.
هنا يذكر "كريم ثابت" فى مذكراته أن هدية الملك التى
أرسلها للنحاس لأن "صندوق الفاكهة أرخص من ساعة ذهب أو صورة فى إطار من
الفضة"!! وذلك يجعلنا نطرح سؤالا مهما.. كيف يسخر الملك من الديمقراطية التى
يتشدق بها المدافعون عنه لغمز ولمز ثورة يوليو؟!
الإجابة تحفظها ذاكرة التاريخ.. فالتاريخ قد يصمت.. لكنه لا يموت!!
يوم 8 يونيو عام 1950. دعا جلالة الملك إلى مأدبة غذاء رسمية فى
قصر رأس التين بمناسبة انتقال جلالته إلى الإسكندرية فى الصيف!! دعا رئيس الوزراء
– مصطفى النحاس – والوزراء وكبار رجال القصر ورئيس مجلس النواب.. وأمر كبير
الأمناء بعدم دعوة "محمد حسين هيكل" باشا رئيس مجلس الشيوخ, لأنه سمح
بمناقشة استجواب النائب "مصطفى مرعى" حول الأسلحة الفاسدة!!
هنا تأكد "النحاس" من غضب الملك على رئيس مجلس الشيوخ..
وكان رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين فى الوقت نفسه.. إنتهز رئيس الوفد الفرصة,
وعرض على الملك رؤيته لعدم دستورية مرسوم أصدره "أحمد ماهر" بإبطال
مرسوم سبق أن أصدرته وزارة الوفد عام 1942, بتعيين أعضاء مجلس الشيوخ.. والذى جعل
الوفد لا يتمتع بأغلبية فى مجلس الشيوخ.. إلتمس "النحاس باشا" مقابلة
الملك قبل الغذاء.. قابله الملك فى مكتبه.. عرض "النحاس" رؤيته التى
تقضى بتعيين ثلاثين شيخا بدلا من أعضاء الدستوريين والسعديين, فى حالة العودة
لمرسوم الوفد عام 1942.. ووافق الملك!!
هنا يحكى "كريم ثابت" فى مذكراته: "قالى لى الملك
أين القائمة التى قال لى النحاس أنه سيرسلها بشأن الشيوخ؟!
قلت له: سأسأله عنها غدا..
أجابنى: مافيش حاجة اسمها بكرة.. إذهب إليه وقل له إن انتظارى طال.. وأننى أريد
القائمة الليلة.. وكفى تسويفا.. قلت له: أن الساعة العاشرة مساء والنحاس ينام
مبكرا.. فقال لى: نحن فى رمضان والوقت صيف, فلا يعقل أن ينام الآن.. اطلبه
بالتليفون واطلب منه أن ينتظرك.. فعلت ذلك وكنت عند الحادية عشرة مساء أطرق الجناح
الخاص به فى فندق سان استيفانو.. سألته عن القائمة التى ينتظرها الملك.. فأجابنى
أنه تم إعدادها ولا ينقص سوى تبييضها, وهى عند فؤاد سراج الدين.. طلب النحاس
تليفونيا فؤاد سراج الدين فى بيته, وانتهت المكالمة أن أذهب إليه فى بيته.. اندهش
فؤاد سراج الدين وهو يقول: عايز تفهمنى إن الملك سيراجعها فى منتصف الليل!!..
رجعت إلى قصر رأس التين فى
الواحدة صباحا.. عرضت القائمة على جلالته لمراجعتها.. تناول قلمه الأحمر ورسم على
القائمة علامة صح, وسألنى عما قاله النحاس وسراج الدين.. أبلغته.. هز رأسه وقال:
هؤلاء الناس يظنونا مثلهم, ولا يعلمون أننى لا أعرف نهارا أو ليلا عندما يكون
أمامى عمل أحب أن أنجزه!!
اطلب فؤاد سراج الدين وقل
له إننى وافقت على القائمة, حتى يصدق أنى نظرتها فى وسط الليل.. وتمت دعوة هيئة
الوزارة بعدها بيومين إلى مأدبة إفطار فى قصر رأس التين.. وخلال الإفطار قال الملك
مخاطبا سراج الدين: بقى معالى الوزير إستغرب أن ننظر قائمة الشيوخ الجدد فى وسط
الليل, وأننا نهتم بالعمل ليلا.. إبتسم سراج الدين.. فعاجله الملك: إنشا الله
تتعدوا مننا"!!
هكذا كانت "الديمقراطية" فى "الزمن
الليبرالى"!!
يغضب جلالة الملك على رئيس مجلس الشيوخ, فلا يدعوه لمناسبة عامة..
بل يتفق مع زعيم الأغلبية على الإطاحة به مع أنصاره.. يحل مكانهم آخرون خلال ساعات
الليل.. السبب استجواب "الأسلحة الفاسدة" وكان هذا ثمنه!! ثم يقولون أن
"الأسلحة الفاسدة" كانت افتراء على جلالته ونظامه بجرأة تصل إلى حد
"الوقاحة"!! ويتلقى الوزراء وكبيرهم تبكيتا على أنهم لا يعملون فى الليل
كما يعمل جلالته.. وكلهم كانوا يعلمون ماذا يفعل الملك فى الليل!! والشعب كان
يعلم.. وصحف أوروبا وكافة السفراء الأجانب فى مصر كانوا يعلمون!!
يبتسم التاريخ ساخرا من أولئك, الذين تجرأوا وحاولوا غسل سمعة نظام
سقط فعلا قبل ثورة 23 يوليو بسنوات.. ويوم قامت الثورة كانت ساعة تنفيذ إجراء
استحق وقتا لإعلانه.. والمدهش أن جلالته نفسه كان يتوقعه.. بل كان ينتظره..
والبرهان فى ذاكرة التاريخ, ويستحق أن نعرفه..
يتبع
0 تعليقات