آخر الأخبار

لماذا أصبحنا هكذا !! ترييف المدن المصرية ....الفيل الذى لا يريد احد أن يراه (2)

 





 

أحمد برهام

 

ما هى المهنة الأكثر انتشارا فى الريف ؟

 

الزراعة طبعا

 

طبيعة الزراعة، إنها ((لا تعتمد على مهارات خاصة)) ، بالتالى فالمحصول، لا يعتمد على براعة الفلاح أو مهارته أو مجهوداته المتميزة، لانه يضع الحبة ، لكنه لا ينبتها، انه يقاوم الآفات، لكنه لا يستطيع منعها من الظهور، انه لا يعلم هل سيدمر الطقس السيء محصوله أم سيساعده على تحسينه، هناك عشرات العوامل الغيبية التى لا قبل للإنسان بمواجهتها وهو يقوم بالزراعة ، لهذا يتضاعف لديه الشعور بتلك القوى الغيبية، فلا تستعجب ان تكون الحضارات الزراعية هي أول ما احتاجت الى الدين بشكله المتكامل ، انها تحتاج السماء فى حياتها الاقتصادية بشكل مكثف لا يمكن الغنى عنه ، أنها تلجأ للقوى الإلهية طوال الوقت، لان المحاصيل ونموها خارج السيطرة البشرية حتى وقت قريب .

 

إذن من السهل ان تتفهم الآن أن التدين (باى دين) و التحفظ الاخلاقى، والفضول الزائد تجاه اى اختلاف، هم سمات اى ريف على وجه الأرض ، فى مصر أو فى وسط أمريكا أو قلب أوروبا !

 

التدين بسبب المهنة التى تعتمد على القوى الغيبية كليا لنجاحها ، و التحفظ الاخلاقى بسبب انه مكشوف أمام الجميع ، فلا يملك إلا ان يتحفظ اخلاقيا ويزايد على الجميع لتأكيد ولاءه لميثاق الجماعة الاخلاقى ، والفضول بسبب التماثل والنمطية والتكرار ، مما يظهر اى شذوذ ولو طفيف عن القالب المتكرر .

 

تذكر هنا ان المزايدة الاخلاقية والدينية هى سبيلك الاساسى لإثبات مكانتك واحترامك فى الريف ، فلو ان فلانا قال انه من العيب كذا ، فلابد ان تقول لا انه ليس عيبا فقط ، انه عيب وحرام أيضا ، وإذا زاد عليكما ثالث بأنه فاعل هذا يستحق العقوبه ، فلا شك ان رابعا سيقول بل يستحق القتل ، و يتدخل خامس ليضيف إشكالا أكثر شناعة للقتل فى المزاد الذى لا يغلق !!

 

لا احد سيعترض أبدا على اى خطوه فى المزاد ، الكل سيشارك ، والا سيتم ضمه لهؤلاء الذين يستحقون تلك العقوبات الشنيعة بلا تردد ، وسنمسح كل ماضيك فى المزايدات باستيكه !

 

من السهل ان تفهم نتيجة ترييف المدن ، ونقل النسخة الريفية من الدين الى المدينة .

 

ونسخة العقد الاجتماعي الريفية الى المدينة ,التى تبيح للجميع ان يتدخل فى حياتك الشخصية وان يخبرك ما تفعل و ما لا تفعل ،بل و يجبرك عليه بالقوة اذا لزم الأمر !!

 

ومن السهل ان تفهم لم وجد الإخوان مثلا ، وبعض التيارات المتشددة ، طريقا سهلا وميسرا و معبدا ، فى الريف المصرى !!

 

الريفى يبحث دائما عن الدعم الالهى لكل عمل يقوم به ، منذ فجر التاريخ بسبب الزراعة وهذا هو سر مقولة إننا شعب متدين بطبعه ، ورغم دخول الإسلام الذى لا يميل كثيرا للرسم والتصوير ، الا ان المصرى الريفى مدفوعا بعادات مصريه قديمه فى لاوعيه (ودونا عن غيره من المسلمين فى أرجاء المعمورة) يحرص على رسم و تدوين وتسجيل بعض يقوم به من عبادات على حوائط بيته ، كذهابه الى الحج مثلا ( أو ما يعتبره أحيانا جانبه من الصفقة مع الله ، وهو تعبير لم اخترعه وإنما انتشر مع التدين السطحى الذى يحسب لك كم حسنه ستنالها اليوم اذا قرأت كذا او اذا فعلت كذا او قلت كذا ويكلمك عن تبرعاتك باعتبارها صفقه تجاريه رابحه بلا شك !! وكأنما يضمن القبول الالهى، ويعتبر هذا مؤكدا بلا ريب ، لانه لا يستطيع الحياة مع احتماليه ان ما يفعله قد يذهب كغثاء السيل حيث ستفرض عليه منظومه ضمير اخلاقيه رقابية أعلى بكثير من المنظومة الحسابية السهلة الذى يقدمها له التدين القشرى السطحى الحسابى ) ، انه يبحث عن اليقين فى عالم اللايقين ! فكان الإيمان بأى دين هدفا له منذ آلاف السنين ، من اجل البحث عن هذا اليقين المريح !

 

حتى انتشار الأفكار الصوفية فى الريف كان جزءا منها لإرضاء تلك الرغبة الدينية الجينية لدى المصري ، والتى ورثها عن أجداده ، حيث الاهتمام بالموت والموتى ، والاحتفال بذكرى الاموات ، والاحتفاء بالأحداث الدينية كمقدم رمضان أو وربط الدين بالطقوس ، والأخيرة قامت النسخ السطحية من التدين باستبدالها ، حيث وضعت إشكالا أخرى من الطقوس ، وفاضلتها على ما قدمته الصوفيه ، بان لها سندا اقوي وبالتالى متنا اصح ، وأصبحت الصوفية بشكل عام شركا لا يجوز ، فى التطور الذى حدث لإحلال النسخة الجديدة مكان النسخة القديمة ، وتم اسلمة اغلب الممارسات الريفيه القديمه والتى كانت تتم بعقد اجتماعى ، وتحولت الى عقد دينى ، فالتدخل فى شئون الغير أصبح له اسم أفضل وبدعم دينى ، أصبح اسمه أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، و الاعتداء على المخالفين او المختلفين اصبح تغييرا للمنكر بالقوة وردعا له ، ولم يعد احد ينكر هذا التصرف باعتباره خطأ وافتئاتا على السلطة و صلاحيتها وخطرا على المجتمع ، لان الأصل لم يكن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بضوابطه الشرعيه المعروفه ، وانما الأصل كان ( ترييف المدينة و تحويلها الى نسخه من القرية بمنظومتها الاخلاقية التى لا تعترف بالاختلاف ولا تتسامح معه ) فقط تم اتخاذ الشعار الدينى غطاء لممارسه التقاليد الريفية العادية فى الموطن الجديد (المدينة) حتى لا يشعر الريفى المهاجر بالاغتراب !!!

 

((نقطه اعتراضيه ....وحتى بين المسيحيين ، نجد أن هناك الاحتفاء والاحتفال بالموالد أمرا منتشرا ، وغير قاصر على المسلمين كما يتصور البعض ، بل انه ربما سابق عليهم ، وهو امتداد لنفس الاهتمام الجينى الموروث بالموت والاموات المبجلين و هناك فى مصر عشرات من هذه الاحتفالات لا تزال تجرى بنفس الحماس والاهتمام ، باختصار هو طقس مصرى تم صبغه بالديانات الوافدة !! كما ان الريفى المسيحى أكثر تحفظا فى الملابس بالنسبة للمرأة بكثير من المسيحى الحضرى (من أهل المدينة) وفى بعض الأحيان كان من الصعب ان تميز المرأه الريفية ألمسلمه من المسيحية فى الصعيد من حيث الملبس والمظهر و العادات وأحيانا الأسماء حتى فتره قريبه !! لكن دع هذا لحديث آخر)).

 

ثم وجدت أسراب من غير المتدينين أساسا ، دعما من بعض المتدينين فى بعض الممارسات (كالتحرش بغير الملتزمات بالزى الموحد المتحفظ الذى يقبله الريفى ولا يقبل غيره ) لأنها تخدم الهدف النهائى وهو ان يصبح الجميع نسخا مقولبه من المواطن الريفى المتدين المتحفظ وبدون تطوير حقيقى على فهمه و ممارسته للدين فى اعماله و حياته ، يكفى انه يحافظ على العقد الاجتماعى الريفى الذى تم كتابته مؤخرا بمداد دينى لا يقبل التعديل او التغيير مع الزمن .

 

لهذا ايضا ظهرت الفجوه بين الممارسات فى الواقع وبين ما يدعو اليه الدين فى جوهره، فالريفى ومن تأثر به من أهل المدينة ، قام فعليا بجانبه من الصفقة التى ذكرناها وهو يقوم بها فى الاساس انتقائيا لانها تتوافق مع ممارساته فى قريته ، انه يقوم بالطقوس كاملة ، بالتالى فهو يتوقع حصوله على الجانب الآخر من الصفقة ضمنا ، وهو الغفران والبركة ، ومحو اى ذنوب ثانوية فى رأيه ( التزويغ و الرشوة و الفساد الحكومي الروتينى، التنمر بالآخرين ...الخ ) لأنه لا وجود لها فى العقد الاجتماعى الريفى ، لأنه لم تكن هناك وظائف حكوميه فى الريف عندما وضع هذا العقد وكانت السلطة بسيطة للغاية ، بالتالى فان ممارسته لهذه الذنوب التى يعتبرها بسيطة لا تخل به وبالتزام الشخص وصورته أمام الجميع ، وصرنا نجد شخصا يتقاضى (عمره أو حج كرشوه !!) والسبب بسيط ، انه يحتاج للحج أو العمرة لإكمال جانبه من الصفقة مع الله كما صوروا له ، بينما لا تؤثر سرقة المال العام على التزامه بباقى جوانب الصفقة ، لان الريف لا يحوى على مال عام يمكن سرقته ، هو يفهم الملكية الخاصة نسبيا ، ويفهم ان هذا مال فلان أو علان ، الملكية المعترف بها عنده هى ملكية الأفراد، إنما مال عام يعنى عنده انه مال مشاع يستحقه من يكتسبه بجهده (وشطارته)، وهذا المفهوم لم ينله نفس التطور عندما انتقل الريفى الى المدينة ولم تتمكن المدينة من صبغه بهذه المفاهيم ، عندما تكاثرت أفواج الأفراد القادمين من أصول ريفيه فى وقت قصير ، ولم تستطع المدينه امتصاص هذه الهجره و صباغتها ، واضطرت لقبولها كما هى ، فأصبح لهم فى المدن أحياء كاملة يمارسون فيها ( العقد الاجتماعي الريفى ) بكل جوانبه ، ونقلوا معهم الريف كاملا ( حتى بالدجاج و الأبقار و الضأن ) الى ما عرف حديثا باسم العشوائيات !!

 

ولم يقتصر الأمر على مكان السكن ، بل وصل للاقتصاد والإدارة ، وصل للمصالح الحكومية ، هناك قرى بأكملها تحتل مصالح حكوميه برمتها !!

 

يعنى أهل البلد بيعينوا بعض فى نفس المصلحة ، مثل بعض البنوك ، ثم تطور الأمر مع التطور فى الاتجاه الاقتصادي للدولة فوصل للقطاع الخاص ، وأصبح من السهل ان تجد شركة ما ، تحوى على اغلبيه ساحقه من العاملين من أصول تنتمى لقرية بعينها !!

 

 شاهدت بنفسى فرع لشركة أوراق ماليه كبرى، 90% ممن يعملوا بها ، ينتمون لقرية صغيره من قرى مركز كبير بالشرقية !!

 

وطبعا لا حديث هنا عن الكفاءة فى التعيين إلا لو كنت ساذجا !

 

والحقيقة ان كونك من أبناء إحدى القرى قد يضع لك ميزة نسبيه فى التعيينات أكثر مما يتخيل أهل المدينة !

 

 ولا اشك لحظه ان انخفاض الكفاءة الإنتاجية فى مصر كان من أسبابها عملية الترييف للأعمال أيضا !!

 


لماذا أصبحنا هكذا !! ترييف المدن المصرية ....الفيل الذي لا يريد احد أن يراه الحلقة الأولى .....

إرسال تعليق

0 تعليقات