محمود جابر
قبل البداية :
حمى الإبراهيمية التى تجتاح العالم العربي، بعد إفلاس
عمليات التطبيع المباشرة لجأ مخططو التطبيع إلى ابتكار أحجية جديدة وهى الإبراهيمية
والعودة إلى الأصول، وإعادة الاعتبار لمسقط رأس إبراهيم باعتباره أبو الأنبياء –
مع ملاحظة ان هذا ليس مفهوم المسيحية واليهودية ، المخطط بدأ من حصار العراق وإسقاط
الدولة، والإفساد السياسي والاخلاقى وحالة التبدد التى يعيشها المجتمع العراقى،
هذه المناخ هو مناخ مناسب لقبول دعوات كتلك يروج لها مطبعين فى شكل قامات دينية، ومطبعيين
فى شكل أساتذة جامعات، ومطبعين فى شكل باحثين عن سلام – زائف-، وما كان لكل تلك
الحالة ان تسرى سريان النار فى الهشيم الا عبر مجاملة الإخباريين والمسلمين للعبرانيين
اليهود وتوراتهم فى رؤاهم فيما يتعلق بمسقط رأس أبراهيم وميلاده وكافة المعارف
التوراتية التى لا تثبت حول إبراهيم، ونحن هنا فى هذه السلسلة نحاول مناهضة دعوى
التطبيع الابراهيمية وفق مناقشة الأطروحات التوراتية والآثارية على وجه سواء ....
وما احاول تناوله هنا هو ردا على ما يروج له مركز فجر العراقى والذى يديره السيد سامى البدرى الذى يروج لهذه الدعوة التطبيعية وهو يلبس لباس التحقيق التاريخى سواء كان يدرى او لا يدرى ...
بدأت التوراة أول ذكر إبراهيم حين قالت :
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطًا بن هاران ابن ابنه،
وساراي كنَّته، امرأة إبرام ابنه، فخرجوا معًا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض
كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران. تكوين.
ويفهم من الرواية :
إن قائد هذه القبيلة المرتحلة هو تارح أبو إبراهيم
وان زوجة النبي إبراهيم كانت تدعى ساراى وكان له أخ يدعى هاران لم يكن مع
المرتحلين غنما كان ولده لوط هو رفيق عمه فى الترحال .
المرتحلون خرجوا من ( اور الكلدانيين) دون سبب واضح
سواء سياسي أو عقائدي.. فقط كل ما ذكرته التوراة هو هدف الرحلة وهو الوصول الى أرض
كنعان.
والتى وصفت فى التوراة بأنها أرض ( اللبن والعسل
)..
اى إن الرحلة كان هدفها البحث عن سبل عيش أكثر رخاء
وفى الوقت الذى تذكر التوراة أن آبا إبراهيم اسمه ( تارح) فقد سماه القرآن ( آزر)
.
ولم يكن الفرق بين النصين متوقف على اسم الأب، بل
أن القرآن عكس التوراة أشار إن الابن – إبراهيم – كان مخالف لأباه ( تارح/ آزر).
فى حين أن التوراة لم تشر إلى اى خلاف بينهما .
فالتوراة تقول إن الابن على سنة أبيه وأن الأب كان
هو القائد والموجه .
غير أن بعض الإخباريين المسلمين ذهبوا مذهب التوراة
فى أن تارح هو آزر ... أبو جعفر محمد بن حبيب كتاب المحبر ص 4 .
وقد وقف ابن كثير عن قضية ( تارح / آزر) فيقول قال
ابن جرير – الطبرى – الصواب ان اسمه آزر ذهب البيضاوى الى أنه اسم وصفى بمعنى
القوى أو العضد أو المعين أما الاسم العلمي فهو تارح ( البداية والنهاية ).
وعليه فالرواية الإسلامية لم تعالج هذا الموضوع إلا
بهذا القدر .... مما يشير الى رغبة عجيبة فى التوافق لدى الإخباريين بين التوراة
والقرآن .
وكل الروايتين التوراتية والإخبارية الإسلامية أقرتا
إن إبراهيم خرج من بلاد اور الكلدانيين على الشاطىء الغربى لنهر الفرات فى أقصى
جنوب العراق .
وهذه المدينة من أقدم مدن العراق القديمة وأشهر
حواضر هذا البلد والكلدانيين هو أصحاب حضارة بابل وكانت مدينة مستقلة ومركزا دينيا
وإداريا عظيم الشأن إبان حكم الاكاديين وأبان العصر السومرى الثاني وأبان حكم دولة
بابل الأولى واستمرت مزدهرة حتى قيام الدولة الكلدانية وبذلك فان تاريخ هذه
المدينة امتد الى ثلاثة الآلاف سنة متتالية دون انحسار أو انكسار .
ولكن التوراة تشير إلى أن إبراهيم وأبيه تارح لم يخرجا
من أور الكلدانيين الى كنعان مباشرة ولكنهما توجها إلى الشمال فى ارض حاران ومن ثم
مات أبوه هناك و جاء أمر الرب بان يخرج من ارض عشيرته وأبيه إلى الأرض التى
يباركها الرب فى كنعان .
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران،
وقال الرب لإبرام: اذهب من «أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك» إلى الأرض التي أريك،
فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. فأخذ إبرام ساراي امرأته،
ولوطًا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران،
وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان. تكوين ١١: ٣١؛ ١٢: ١–٥
لاحظ هنا أن التوراة تشير إلى «حاران» بأنها: «أرضك
وعشيرتك وبيت أبيك»، ثم هناك إشارات أخرى متعددة تشير إلى مواطنَ أخرى للنبي
إبراهيم، فبعد أن يترك «حاران» ويستوطن «كنعان» غريبًا، وينجب ولده
الثاني «إسحاق»، تقول التوراة:
وشاخ إبراهيم وتقدَّم في الأيام، وبارك الرب
إبراهيم في كل شيء. وقال إبراهيم لعبده كبير بيته: … ضع يدك تحتَ فخذي فأستحلفك
بالرب إله السماء وإله الأرض، ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا
ساكن بينهم، بل إلى «أرضي وعشيرتي» تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق. تكوين ٢٤: ١–٤
أما أين أرض العشيرة الإبراهيمية، التي اتجه إليها
العبد ليأتي بزوجةٍ لإسحاق؟ فهو ما يوضِّحُه استطراد التوراة:
إن العبد ذهبَ إلى أرام النهرين: إلى مدينة ناحور.
تكوين ٢٤: ١٠
وناحور هو جدُّ إبراهيمَ، هو أبو تارح أبو إبراهيم،
أي إن أرام النهرين هي موطن الأجداد والعشيرة!
ثم نجد إشاراتٍ لمواطن أخرى، فهذا إسحاق يسير على
سنة أبيه، مصرًّا على نقاء الدم العبري، وعدم تدنيسه بدم آخر، لذلك فإن إسحاق:
دعا يعقوب «ابنه» وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ
زوجة من بنات الكنعانيين، قم واذهب إلى «فدان أرام» … وخذ لنفسِك زوجة من هناك …
فخرج يعقوب … وذهب إلى «حاران»! تكوين ٢٧: ١، ٢، ٧، ١٠
والملحوظة الجديرة بالبيان هنا، هي أن «أرام
النهرين،
وفدان أرام،
وحاران»
كلها مناطق تقع شمالَي بلاد الشام، وشمال غربي
العراق،
فما للتوراة إذن و«أور الكلدانيين» في أقصى الجنوب؟
ويبدو أن هذه الإشكالية قد واجهت مؤرخينا الأوائل،
وتركَتْهم بين الشك واليقين، أو بين «أور» و«حاران» كموطن للقبيلة الإبراهيمية
ومهد أول..
فقال الثعلبي محاولًا الحل: «وقال بعضهم: كان مولده
بحران، لكن أبوه نقله إلى بابل».
أما ابن كثير فأكَّد أنه من مواليد «أور» الكلدانية
الرافدية، بدليل أن أباه مات في «حاران» بعد الرحيل إليها.
ويعقِّب بالقول: «وهذا يدلُّ على أنه لم يولد
بحران، إنما كان مولده بأرض الكلدانيين!»
أما المستر «ماير»:
فقد بَلْبَلَتْه إشارةُ التوراة، إلى أن عبد
إبراهيم لما ذهَب يأتي بزوجة لإسحاق، توجَّه إلى «أرام النهرين مدينة ناحور»، فهذا
الجد البعيد «ناحور» لا يقيم في «أور الكلدانيين»، إنما في «أرام النهرين»، قرب
«حاران» في أقصى الشمال، وخلاصًا من البلبلة حل «ماير» الإشكال بجرة قلم، وقال:
يظهر أن ناحور كان قد سبق … إلى حاران، إذ إننا نجد
ذريته لاتزالُ موجودة فيها فيما بعد.
ويحيلنا إلى دلائل هذا التواجد بالتوراة في سفر
التكوين (١١: ٢٩؛ ٢٢: ٢٠–٢٣؛ ٢٤: ١٠–٢٧، ٤٣).
أما الباحثون المحدثون في علوم التوراة، فيبدو أنهم
قد أهملوا مسألة «حاران»، وتوقَّفُوا عند «أور» يبحثون ويفحصون، ومن ثم أعلن
الأستاذ «دي فو DE-VAUX»
أن إبراهيم قد هاجر من «أور» ما بين عامي
(١٩٠٠–١٨٥٠ق.م) مؤسِّسًا إعلانه على زعم أنَّ سبب الهجرة هو النزاع الذي قام في
جنوبي الرافدين حينذاك، بين دولتي «إيسن» و«لارسا» مما أدى إلى هِجراتٍ متتابعة من
المنطقة؛ هربًا من أوار الحربِ، وقد دعم «دي فو» مذهبَه بنقوشٍ تمَّ العثور عليها
في المنطقة، منقوشة على ألواحٍ بابلية، جاء بها الكلمتان:
«أبام رام» و«آباراما» واحتسبهما صيغتين لاسم النبي
«إبراهيم»، أو «إبرام».
والغريب في أمر الأستاذ «دي فو» أنه يعلم يقينا
الموعد المقبول لزمن النبي إبراهيم، وحدده هو نفسه بين عامي ١٩٠٠–١٨٥٠ق.م أو بالتقريب
حوالي ١٧٠٠ق.م عند غالب الباحثين، ولا شك أنه يعلم يقينًا أن دولتي إيسن ولارسا
غير دولة الكلدانيين، وأنهما قد سبقَتَا دولة الكلدان بحوالي ألف عام، وهو زمن —
في عرف التاريخ — غير هيِّن أو قليل فكيف اتَّفق له ذلك؟ كيف جاز أن يعثر على
«أبام راما» على نقشٍ بابلي، فيعلن فورًا: هنا ولد إبراهيم! كما لو كان «إبرام» هو
الوحيد بين الساميين الذي انفرد باسم «إبرام»، في منطقة تموج بضجيج الشعوب السامية
وتفور!
أما الباحث في التوراة الأستاذ «فيلبي»، فقد وقف
بدوره عند «أور» لا يتجاوزها أُنملةً، لا يرفع عينيه عنها، وانتهى من بحثِه إلى
قراءة نقوشٍ بابلية، تحكي عن ملك حُكمٍ في جنوب الرافدين، قامتْ ضدَّه حركة
انقلابية أقصَتْه عن البلاد، وكان اسمه «يثع إيل YATHI-IL» وقد
استنتج «فيلبي» أنَّ هذا الملك هو النبي إبراهيم، استنادًا لترجمة العلامة DOUGHTY لاسم
«يثع إيل» بمعنى «خليل الله» والصفة «خليل الله» هي صفة إبراهيم في التوراة.
ومرة أخرى نجد في حديث الأستاذ «فيلبي» غرابة حديث
الأستاذ «دي فو»، فلا شكَّ أنه يَعلم أن الاسم «يثع إيل» كان اسمًا متواترًا بين
الساميين عمومًا وبين عربِ الجنوب خصوصًا.
وقد بحثنا فعثرنا على أسماء لعددٍ من الملوك في
قوائم العربية الجنوبية بهذا الاسم، فهناك ثلاثة ملوك حكموا بهذا الاسم في الجيلِ
الأول من مكاربة سبأ،
واثنان آخرانِ في باقي الأجيال الخمسة من مُلوك
سبأ، وغيرهم كثير، فهل كانوا جميعًا خلانًا للإلهِ وأنبياء له؟
وإذا كانوا جميعًا كذلك فمَنْ منهم كان هو النبي
إبراهيم على وجهِ القصد والتحديد؟
حقيقةً إن سندَ الأستاذ «فيلبي» هنا سند غير تامِّ
الإقناع بدوره.
وكان الاسم «يثع» منتشرًا في بلاد العرَب الجنوبية،
وكان أحدُ أسماء الإله القمر، كما كان يُنطق أيضًا: «يشع»، «يشوع»، وفي هذا الحال
كان يعني المخلص.
وقد تخلَّف في اسم «يشوع بن نون» وبتبادل حرف «ش»
مع حرف «س» ينطق أيضًا «يسوع»، الذي تخلَّف في اسم المسيح، وبالقلب تنطق «يسوع»
نطقًا صحيحًا تمامًا «عيسى».
إن إشكالية موطن إبراهيم كانت وما تزال معلقة بين «أور
الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام النهرين» أم «فدان أرام»؟
وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى
الشمال داخل الحدود الأرمينية؟
تأتينا الرواية القرآنية بمزيدٌ من الأَخبارِ عن النبي إبراهيم
عليه السلام، لم تعرفها التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان
موحِّدًا، بينما كان أبوه عابدًا للأوثان صانعًا لها.
هذا إضافة إلى قصةِ تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما
ترتَّبَ على ذلك من حدثِ إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه.
وما دار بينه وبين «نمروذ» من جدَلٍ حول صحيح العقيدة .
وأول ما يلفت النظر في روايات الإخباريين، هو اسم الطاغية الذي
ادعى الإلوهية، وهو«نمروذ بن كنعان»، ولم يرد في قوائم ملوك العراق القديم!!
أما الأهم فهو كونه «ابن كنعان».
يتبع
0 تعليقات