نصر القفاص
كان الشيخ "على عبد الرازق" صاحب كتاب "الإسلام
وأصول الحكم" الذى فجر أزمات فى الأزهر والحكومة والعالم الإسلامى, وقت حكم
الملك "فؤاد" قد دفع ثمنا فادحا لاجتهاده وعلمه فى العشرينات.. ولما
جاءت الأربعينات.. كان "محمود فهمى النقراشى" قد رد إليه اعتباره
واختاره وزيرا للأوقاف.. فى أحد الأيام تلقى اتصالا من "نجيب سالم" ناظر
الخاصة الملكية.. تحدث خلاله "حضرة الناظر" مع "الوزير"
ليبلغه نطقا ساميا صدر من جلالة الملك "فاروق".. ومعنى نطقا ساميا هو
القرار الشفهى.. كان النطق السامى يقضى بضم وقف الخديوى "إسماعيل" إلى
الخاصة الملكية.. لكن الشيخ "على عبد الرازق" صاحب الفكر والموقف,
والجاهز لدفع ثمن مواقفه لم يقبل الكلام.. رفض الاعتراف بالنطق السامى.. قال:
"أريد كتابا رسميا بالنطق الملكى للرد عليه"!!
لم يطلب الشيخ "على عبد الرازق" كتابا رسميا من جلالة
الملك لتنفيذ الأمر.. بل للرد عليه.. وحين أبدى "حضرة الناظر" دهشته.. اضطر
"الوزير" للرد بحسم.. هذا لا يجوز طالما كنت وزيرا.. وكان الشيخ
"على عبد الرازق" يعلم أن من سبقوه نفذوا أكثر من نطقا ملكيا, اغتصب بهم
جلالته "وقف شاوه" بمساحة عشرة آلاف فدان.. ووضع يده على "وقف
قولة" وتبلغ مساحته 23 ألف فدان.. واستولى على أوقاف "الوادى
والمنتزة" بالأسلوب نفسه.. أما وقف "حفيظة الألفية" الذى وقفته
صاحبته على معاهد العلم وخصصته للإنفاق على الجمعية الجغرافية ومعهد الصحراء فتم
ضمه مباشرة للخاصة الملكية بنطق سام.
غضب جلالة الملك غضبا شديدا حين سمع رفض الشيخ "على عبد
الرازق" لنطقه السامى.. أمر باستدعاء "النقراشى" ليقول له:
"وزير الأوقاف بتاعكم مش عارف يتعاون مع ناظر الخاصة الملكية"!!
فهم "النقراشى"
الكلام وفهم المعنى.. وجد نفسه فى موقف شديد الحرج.. فقد كان يعلم الثمن الذى دفعه
الشيخ "على عبد الرازق" لمجرد أنه اجتهد فى علمه كواحد من علماء
الأزهر.. وكان يعلم ماذا فعل الأزهر بالشيخ الجليل – الوزير – لإرضاء الملك
"فؤاد".. وجاء الدور لإرضاء الملك "فاروق" على حساب موقف
الشيخ الجليل والوزير المحترم.
استدعى "النقراشى" وزير الأوقاف الشيخ "على عبد
الرازق" سمع منه ما حدث.. ثم أبلغه بما حدث بينه وبين الملك بسبب موقفه.. فهم
الشيخ "على عبد الرازق" الموقف فكتب استقالته وخرج من الوزارة, ليتم
تنفيذ النطق السامى!!
تلك وقائع تسكن صحف هذا الزمان.. تحفظها ذاكرة التاريخ.. سجلتها
مذكرات عدة منشورة.. قرأها, أو لم يقرأها "خدم الاستعمار والملكية"!!
فى هذا الزمان ستجد مجلة "التايم" الأمريكية تنشر صفحات
كاملة وصورا لحياة جلالة الملك "فاروق" على شاطىء "الريفييرا"
وتروى كيف يبدأ يومه بعد أن يستيقظ فى الرابعة ظهرا.. وتذكر المجلة أن جلالته يظهر
فى العاشرة ليلا فى صالة القمار بالكازينو ويجلس إلى المائدة وقد فتح قميصه, وظهر
الشعر الغزير فى صدره ورقبته.. يكفى أن يشير بإصبعه ليضع تابعه أمامه "هرما
من الأموال" فإذا كسب صاح "كسبتم" وهو يضحك فى زئير مخيف!!
وإذا خسر ضحك أيضا.. وخارج الكازينو يتحدث الناس عن
"سوزيت" و"جانيت" وغيرهما من اللواتى يحصلن على هدايا ملكية
ثمينة!
"خدم الاستعمار والملكية" يعلمون.. أو لا يعلمون, لأنهم
لا يقرأون!!
نشرت مجلة "باراد" تقريرا جاء فيه: "الملك فاروق
يقضى فى أوروبا أعظم شهر عسل عرفه القرن العشرين.. كل ليلة تنام زوجته الصغيرة –
الملكة ناريمان – فى فندق كارلتون بينما الملك منهمك فى لعب البكاراة والروليت
ويدفع إلى المائدة آلاف الدولارات وهو يقول ضاحكا: الناس يقولون أخسر ثروات كبيرة
فى اللعب.. وقد خسر خلال عدة ليالى 300 ألف دولار.. وقد أصبح مألوفا فى أوروبا
منظر هذا الملك الذى لا يعنيه سوى قضاء أوقات بهيجة يدفع ثمنها ملايين التعساء فى
مصر"!
كل هذا وأكثر.. تستطيع أن تقرأه فى صحف الزمن التعيس.. ستجده فى
مذكرات من عاشوا هذا الزمان وكانوا شهودا عليه.. بينهم "سيد مرعى"
و"كريم ثابت" وكليهما ليس من قادة الجيش ولا الضباط الأحرار.. ويمكنك أن
تقرأه على صفحات الصحف المصرية وقت أن كان جلالته جالسا على العرش!! ولعل
"سيد مرعى" رسم صورة شديدة الاختصار.. شديدة الوضوح عن الأيام التى سبقت
تحرك الجيش, الذى انفجر الشعب ليؤيده بشكل ساحق.. فيقول فى "أوراق
سياسية" ما يجب أن نتوقف عنده: "كان الشعب ساخطا.. مترقبا لحظة الانفجار..
كان الجيش غاضبا.. متحفزا للضربة القاضية, خصوصا وأن معركة نادى الضباط قد وضعت
الجيش فى مواجهة القصر.. أعلن الجيش التحدى العلنى ضد الملك وأعوانه.. كان السخط
قد بدأ خلال حرب 1948, وجاءت قضية الأسلحة الفاسدة لكى تفضح القصر والحاشية فى هذه
الصفقات المريبة.. ثم ظهرت منشورات الضباط الأحرار.. أمعنوا فى التحدى حين وقفوا
دقيقتين حدادا على الشهيد "عبد القادر طه" الذى اغتاله القصر.. وهدد
الملك بأنه سيدوس هؤلاء الضباط"!!
يعتقد البعض أن معركة نادى الضباط بدأت قبل أيام من قيام الثورة..
الحقيقة أنها بدأت يوم 31 ديسمبر عام 1951.. واستمرت لشهور, حتى صدر قرار حل
النادى قبل أيام من قيام الثورة.. كانت تفاصيل هذه المعركة بين ضباط الملك والضباط
الأحرار كثيرة, وتمثل ملحمة وطنية ومقدمة لانتصار إرادتهم طوال الشهور الأخيرة
لنظام الحكم الملكى.. وذلك أوضحه "سيد مرعى" حين قال: "لم تكن
المسألة مجرد أزمة فى نادى الضباط.. لكنها كانت جوهر الحقيقة التى تعانيها مصر
وتضغط على أنفاسها.. فالأمر تحول من طغيان الملك إلى الانهيار السياسى بصراع زعماء
الأحزاب" ويؤكد المعنى: "الكثيرون كانوا يتوقعون حدوث شىء ما.. لكنهم لم
يكونوا على بينة من أمره, أو على يقين بماهيته".
يحكى "كريم ثابت" واقعة مهمة يقول فى تفاصيلها: "فى
ليلة من ليالى أواخر شهر أكتوبر عام 1945.. كان الملك فاروق يمضى السهرة فى ضيافة
الأميرة شويكار.. دعوا له بعض الأصدقاء ليتسلى معهم ببرتيتة بوكر صغيرة.. رن جرس
التليفون.. اقترب أحد الخدم من إلهامي حسين زوج الأميرة وهمس فى أذنه.. نهض الرجل
إلى الملك وأبلغه أن حسنين باشا يود مخاطبته تليفونيا من القصر.. قال الملك: لابد
وأن هناك أمرا مهما وإلا ما طلبنى هنا.. عاد بعد قليل متهللا والفرحة بادية على
وجهه.. ثم قال إن هذا أسعد أيامه منذ أصبح ملكا..
وأضاف: أبلغونى أنه تقرر سحب لامبسون من مصر.. ثم التفت إلى
الأميرة شويكار قائلا: أظن يا صاحبة السمو أن هذه هى فرصة الشمبانيا فدعينا
نحتفل.. شرب الجميع ابتهاجا برحيل السفير البريطانى.. بعدها بيومين.. كان وزير
تركيا المفوض ينظم حفلا بمناسبة العيد الوطنى لبلاده.. خلال الحفل إلتقى لامبسون
بالفريق عمر فتحى كبير الياوران, فتبادلا السلام والتحية.. وإذا بالسفير يقول
لكبير الياوران.. قل لسيدك أننى لم أنقل بعد, وأن شرب الشمبانيا كان سابقا
لأوانه!! ثم تحرك وتكلم مع آخرين.. فهم عمر فتحى أن هذا الكلام ولهجة السفير لا
تحتمل تأجيل العرض لليوم التالى.. غادر دار المفوضية إلى القصر.. استأذن فى مقابلة
الملك لأمر مهم وعاجل.. حكى للملك ما حدث.. انزعج فاروق.. قرر التحرك فى التاسعة
والنصف بسيارته الخاصة ومعه الفريق عمر فتحى, وانطلق تجاه قصر الأميرة شويكار –
مقر مجلس الوزراء الحالى – وجد أن الأميرة مع زوجها فى دار الأوبرا.. أمر عمر فتحى
أن يذهب إليهما لاستدعائهما.. جلس متوترا.. حين وصلا أمر عمر فتحى أن يحكى ما
حدث.. ذهلت الأميرة وزوجها, وفهما أن أحد الحضور نقل للسفير البريطانى ما حدث!! ثم
قال الملك: المهم.. كيف نخرج من هذا المأزق؟! فأبلغته الأميرة شويكار أنها ستعالج
الموضوع مع زوجة السفير لأنها صديقتها.. واطمأن الملك قليلا.. وبعد ثلاثة أشهر تم
إعلان خبر رحيل لامبسون فى فبراير عام 1946.. ليقول فاروق: ياما حرمنى هذا الرجل
من النوم"!!
بعد رحيل "لامبسون" بأربع سنوات.. كان "فاروق"
ينتظر ترضيته من "لندن" على ما فعله به السفير البريطانى الذى رحل..
كانت الترضية أن جلالة ملك انجلترا وقع براءة منح ملك مصر رتبة "جنرال"
فى الجيش البريطانى.. حمل الدرجة إليه دوق جلوستر مع قرينته.. سلماه إياها فى قصر
القبة.. بعدها بأيام قرر الملك دعوة كبار الضباط البريطانيين الموجودين فى "فايد"
بالإسماعيلية, إلى حفل شاى فى حدائق "أنشاص"وكان يحلم بأن يؤدى له هؤلاء
القادة التحية العسكرية.. فهو لم ينس أنهم حاصروه فى قصره قبل سنوات.. يوم الحفل
علق على بدلته العسكرية شارة "جنرال" فى الجيش الانجليزي.. والمدهش أن
الملك "فاروق" قاطع النادى السورى فى الإسكندرية, لمجرد أن لامبسون كان
يسهر فيه.. وكان يردد أن مجرد الجلوس فى هذا المكان يذكرنى به – يقصد لامبسون - ؟!
تلك وقائع يرويها صديق الملك ومستشاره والوزير فى آخر حكومات
زمنه.. تحملها مذكراته المنشورة فى مصر, والنائمة بالمكتبات أملا أن يوقظها
"خدم الاستعمار والملكية" ليقرأوا ما تعرضت له مصر من إهانة ومهانة فى
ظل حكم هذا "الولد"!!
لم تنته الوقائع والشهادات.. مازال هناك الكثير منها.. على الذين
تجرأوا بالقول أن زمن "الليبرالية" و"الديمقراطية" كان أفضل
مما بعد ثورة يوليو, أن يعلموا أنه لا حياء فى العلم.. والتاريخ علم.. وتزوير
التاريخ ليس مجرد جريمة.. لكنه طعنة فى ظهر أمة لا يمكن أن تنسى من يسىء إليها أو
يتلاعب بمقدراتها..
يتبع
0 تعليقات