آخر الأخبار

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية

 




 

ترجمة فؤاد ريان

تأليف: جون ف. هنري

 

تعتمد القوة النظرية والإيديولوجية لليبرالية الكلاسيكية على العلاقة بين الملكية الخاصة، و"السوق" والفرد. وقد كتب أحد المؤرخين البارزين لليبرالية أنّ "الملكية الخاصة هي تجسيد للحرية الفردية في شكلها الأكثر بدائية، وحريات السوق هي مكونات لا تقبل التجزئة للحريات الأساسية للشخص". (Gray 1986, 50).

 

وتقول المحاجّة: مع تطور الملكية الخاصة المنتجة، فإنّ الأفراد يتحررون من الحكم الاعتباطي للسلطة الاستبدادية؛ فتحكم الأفراد بمواردهم الخاصة، يحررهم في عملية اتخاذ القرارات بناء على مصالحهم الخاصة، وفي تعزيز هذه المصالح بفضل جهودهم الخاصة، بالذكاء والدهاء. ويجب إخضاع تلك المصالح للفحص الدقيق من قبل الآخرين، حيث يحاول الجميع تعزيز أهدافهم الخاصة بشيء من المسابقة مع جميع الآخرين. هذه المسابقة يتم لعبها في إطار ما يصطلح عليه بـ"السوق"، والفائزون هم أولئك الذين يتمتعون بذكاء أكبر، وبجهد عمل أفضل، وبفاعلية أكبر.

 

 طبعا، سيكون هناك خاسرون، ولكن الجميع لديهم نفس الحرية في البحث عن المكاسب، والكلّ يخوض هذه المسابقة بنفس قواعد اللعب. ولا مكان، في هذه المسابقة، للحكومة أكثر من إرساء قواعد اللعب والفصل في الخلافات بين اللاعبين.

 

من ناحية تاريخية، لقد كانت هذه هي الرؤية الحاكمة لقرابة مائتي سنة. ويبدو أنّ هذا يفسر الكثير؛ لماذا نجح البعض (العاملون بجد والمقتصدون) وفشل البعض الآخر (الكسالى وعديمو الحكمة)؟ ولماذا أظهر الاقتصاد القائم على السوق نموا اقتصاديا (دافعية الربح حفزت الإنتاج)؟ وهكذا.

 

لا أريد هنا أن أخضع النظرية للنقد، ولكن أريد فقط أن أثير النقطة الرئيسة حول تعثر الليبرالية في نهاية القرن التاسع عشر. فلكي تحافظ الليبرالية على ذاتها، على الاقتصاد الرأسمالي أن يظهر المنافسة. وعلى جميع اللاعبين التمكن من الوصول إلى الملكية (بغض النظر فيما إذا تمكنوا من الوصول أم لا)، ولا يجب السماح لأحد أن يكون لديه ميزة وضعية احتكارية. فالإطار التنافسي هو شرط ضروري من أجل السماح بعملية الضبط الداخلية التي تنتج المخرجات المثلى المفترضة. وهي ضرورية أيضا من أجل السماح لمحددات الفضائل الأخلاقية للمجتمع الرأسمالي، حيث النتائج الفردية تعتمد على أفعال الفرد نفسه.

 

ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ الإطار التنافسي الذي ازدهرت فيه الليبرالية يتبدد. وبشكل متزايد، أصبح الاقتصاد الرأسمالي يُظهر تشكّلات لا تنافسية احتكارية كشكل سائد للتنظيم. فعلماء الاقتصاد من كل المشارب (تقريبا) أخذوا في الحسبان هذا التحول منذ تطوره. فماركس (Marx) وفيبلين (Veblen)، وحتى علماء الاقتصاد النيوكلاسيكيين (neoclassical) انضموا إلى صفوفهم، مع أنّ نظرة التحليلات النيوكلاسيكية كانت أقل تبصرا من تلك التحليلات الماركسية أو تحليلات فيبلن، مشددين على ما يشار إليه الآن بـ"فشل السوق" (market failure). وفي عام 1924، أعلن كينز (Keynes) "نهاية سياسة عدم التدخل الحكومي" (the end of laissez faire) (لمعرفة شبه كاملة عن التطورات ضمن المدارس المختلفة للنظرية الاقتصادية، انظر:هوارد وكينج 2008). أمّا الذي كان يشكل الخطورة الأكبر على النظام الاجتماعي الرأسمالي فهو حركات الطبقة العاملة التي كانت في صعود، فهي نفسها نتيجة لهذا التحول مع ما صاحبه من نمو وتمركز لهذه الطبقة.

 

وفي المراحل المبكرة لهذا التحول، حصلت بعض الدعاوى الاحتجاجيّة ضد “النزعة الجماعيّة" (collectivism) المفرطة. أمّا ذوو القناعات الليبرالية الأكثر عمقا، فقد حاولوا إنقاذ الليبرالية في حين كانوا يدركون وجود أشكال غير تنافسية (احتكارية). وربما كانت المحاولة الأكثر تقدما بهذا الخصوص هي مقالة جون ستيوارت مل (John Stuart Mill) غير المكتملة، "فصول عن الاشتراكية" (وقد كانت هذه بمثابة نموذج لمقالة مارشال (Marshall) (1907) "الإمكانيات الاجتماعية للفروسية الاقتصادية"). وقد اقترح مل (Mill) في تحليله، بينما أبدى تعاطفا مع مأزق العمال، تعديلات على حقوق الملكية في حينه لاستيعاب التغييرات في بنية الصناعة من أجل الاحتفاظ بالملكية الخاصة، والمنافسة، و"السوق"، بحيث يحوّل مسار التحدي الاشتراكي إلى مسار أكثر أمنا، ويقول باختصار:

 

تتطلب الحالة المريعة، التي يستطيع الاشتراكيون خلقها ضد النظام الاقتصادي الحالي للمجتمع، دراسة كاملة لكل الوسائل التي يمكن للمؤسسة (للملكية الخاصة) أن يكون لها من خلالها فرصة العمل بطريقة أكثر فائدة للقسم الأكبر من المجتمع، الذي يحظى في الوقت الحالي بأقل حصة من منافعها المباشرة (Mill [1869] 1879, Ch. 4, 11).

 

لقد كانت معظم الجهود لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية خلال فترة مطلع القرن العشرين، ببساطة، عبارة عن ردود أفعال، مكرِّرة للمبادئ الأساسية للموقف اللوكي (Lockean)، ومكرِّرة لمحاجّات منظرين من أمثال هيربرت سبنسر (Herbert Spencer)، وتحديدا تلك المعروضة في مؤلفه "الرجل ضد الدولة" (1884)، أو تلك المروّجة لتنبؤات هيلير بيلوك (Hilaire Belloc) الكئيبة في مؤلفه لسنة 1912 "دولة العبودية"، حيث يقول فيه إنّ السّير نحو "النزعة الجماعية" سيقود إلى دولة عبيد جديدة. وقد بذلت بعض المؤسسات، مثل "رابطة الدفاع عن الحرية والملكية"، التي تأسست عام 1882، والمؤسسة الدستورية البريطانية (1907)، والاتحاد المناهض للاشتراكية (1908)، جهودا ضد النظريات والممارسات المناهضة للفردانية. حيث ظهرت الليبرالية كبرنامج فاقد للصلاحية ومسفّه.

 

وفي عام 1922 نشر لودفغ فون ميزس (Ludwig von Mises) مؤلّفَه "الاشتراكية: تحليل اقتصادي وسوسيولوجي". وبعيدا عن التدقيق النقدي لمحاجّة فون ميزس، يلاحَظ أنّ عمله كان أول من قدّم تفسيرا مقنعا عن استحالة وجود آلية تسعير منطقية في ظل الاشتراكية، مدافعا عن "السوق" بأنّه العملية الوحيدة الممكنة التي يمكن من خلالها أن تخصّص الموارد بشكل عقلاني وفعّال. ويجدر بنا هنا أن نقتبس من مقدمة الكتاب لنوضح مخاوف الليبراليين في حينه:

 

إنّ مؤيّدي الاشتراكية...ليسوا محصورين في البلاشفة... أو في أعضاء الأحزاب الاشتراكية العديدة، فكل من يعتبر النظام الاشتراكي للمجتمع متفوقاً اقتصاديا وأخلاقيا على ذلك النظام القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو اشتراكي...وإذا عرّفنا الاشتراكية بشكل عام هكذا، فإنّ الغالبية العظمى من الناس اليوم هم مع الاشتراكية. أمّا أولئك الذين يعترفون بمبادئ الليبرالية، والذين يرون أنّ النظام الوحيد الممكن لاقتصاد المجتمع هو ذلك القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج فهم فئة قليلة. (von Mises [1922] 1932, 26-27).

 

لقد لفت دفاع فون ميزس عن "السوق" انتباه الليبراليين الأعمق فكريا في تلك الفترة، مثل ليونيل روبنز (Lionel Robbins) وفريدريش فون هايك (Friedrich von Hayek) على وجه الخصوص. وكلاهما كان عضوا في حلقة النقاش الخاصة بفون ميزس، جنبا إلى جنب مع فريتز ماكلوب (Fritz Machlup)، وفرانك نايت (Frank Knight)، والذين سيكونوا لاحقا من الشخصيات المهمة في تشكيل جمعية مونت بيليرين (Mont Pelerin Society) في عام 1947. ويظهر الآن أنّ الذخائر الفكرية في مساندة الدفاع عن الليبرالية الكلاسيكية لقوى السوق وضد مدّ "النزعة الجماعية"، الذي كان على ما يبدو لا يمكن إيقافه، قد أخذت في التطور منذ ذلك الوقت.

 

إنّ نقطة التحول، في كل من أفول الفكر الليبرالي وفي الفهم القائل أنّ على الليبرالية إعادة تشكيل نفسها إن أرادت أن تسترد جاذبيتها السابقة، قد وجدت في المناقشات التي حدثت في المجلس الاستشاري الاقتصادي (Economic Advisory Council)، الذي تم تأسيسه من قبل الحكومة البريطانية في عام 1929 لعقد اجتماع لعلماء اقتصاد بارزين لتقديم نصائح سياساتية حول كيفية التخلص من آثار "الكساد الكبير" (The Great Depression) تحت رئاسة كينز (Keynes)، وقد اشتمل المجلس على علماء اقتصاد بارزين مثل هيوبرت هندرسون (Hubert Henderson)، ودينيس روبرتسون (Dennis Robertson)، وآرثر سيسيل بيجو (A. C. Pigou)، وروبنز (Robbins)، ومن ثم أعضاء هيئة التدريس في كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics) (LSE).

 

وقد دفع كينز، في النقاشات التي دارت في المجلس، نحو برنامج يدعو فيه إلى الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة. بالإضافة إلى توصيته للإخلال بالتجارة الحرة من خلال زيادة التعرفة الجمركية بنسبة 10% على الواردات و10% إعفاء على الصادرات، وقد أربك هذا روبنز وآخرين بشكل كبير (Howson 2009, 262-63). ومن التهم التي كيلت إلى كينز أنّه لم يتطرق إلى الأسباب الجذرية للركود، وأنّه كان يضع النفعية السياسية فوق المبادئ الاقتصادية، وأنّ التبعات على المدى الطويل لمثل هكذا برنامج تحديدا، وهو التضخم، ستجعل من العلاج أسوأ من المرض. وبالنسبة لروبنز، فإنّ العوامل الأساسية التي سببت الركود تكمن في تلك العناصر الاقتصادية التي وقفت ضد مبادئ الليبرالية الكلاسيكية، وهي: النقابات المهنية التي أنتجت جمود الأجور، وتدخل الحكومة المتزايد، وتحديدا تأمينات البطالة، التي تتداخل مع قواعد عمل السوق "الطبيعية". إذا تم "تحرير الأسواق"؛ فإنّ الاقتصاد سيتكيّف بسرعة وسيخرج العالم من المستنقع الحالي من خلال معجزة "اليد الخفيّة" (the invisible hand). من أجل مناقشة كاملة انظر إلى كتاب "الكساد الكبير" لسنة 1934).

 

ونلاحظ، عند هذه المرحلة، التلاقي بين التغيير المؤسسي والقلق الأيديولوجي. فقد تآكلت الأسس الاقتصادية لليبرالية الكلاسيكية بسبب التطورات التي ولدت من رحم الديناميات الداخلية للرأسمالية نفسها. فالليبرالية عبارة عن بناء يتطلب هيكلية اقتصادية "تنافسية" صغيرة الحجم في أساسها. لكن التراكم الرأسمالي أنتج هيكليات احتكارية غير تنافسية، وتطورات في النقابات العمالية، وانخراطاً متزايداً للحكومة لمعالجة العديد من القضايا-مثل البطالة المزمنة وما شابه ذلك، والتي كانت نتائج لعملية التراكم هذه. لقد فقدت الليبرالية أساسها المؤسسي. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن لليبراليين اللجوء إليه هو تكرار المبادئ الاقتصادية المرتبطة بالمبادئ القديمة، وهو الآن شكل من أشكال التنظيم الرأسمالي. وبالنسبة لليبراليين كانت هذه حالة مريعة. وبعد كل هذا، فإنّ جوهر "الحرية" (كما هي معرّفة من قبل الليبراليين) كان على المحك، ونظرا لعدم وجود حجة مضادة مقنعة، يبدو أنّ "الاشتراكية" ستفوز كتحصيل حاصل.

 

وقد جاء رد روبنز؛ فبالإضافة إلى الإطار النظري الخاص به، وتحديدا كتابه لعام 1937 "التخطيط الاقتصادي والنظام العالمي"، فقد جلب هو وإدوين كانن (Edwin Cannan)، الذي صار لاحقا رئيس دائرة الاقتصاد، هايك (Hayek) إلى كلية لندن للاقتصاد، كبروفيسور للاقتصاد في عام 1931، دامجا النظرية الاقتصادية النمساوية مع الليبرالية البريطانية. وقد صارت كلية لندن للاقتصاد رائدة في الحفاظ على الفكر الليبرالي وتقدمه (Cockett 1994, 25). وبعد روبنز وهيك، برزت بعض الأسماء المرموقة من كلية لندن للاقتصاد خلال السنوات الخمس عشرة اللاحقة، مثل: آرثر سلدون (Arthur Seldon)، وبايزل يامي (Basil Yamey)، ووليام إتش. هوت (William H. Hutt)، وفرانك بايش (Frank Paish)، ورونالد كوز (Ronald Coase)، وبيتر باور (Peter Bauer). ولم يساهم كل هؤلاء فقط في تطوير النيوليبرالية، ولكن ارتبطت أسماؤهم بأول مركز أبحاث منظم خصيصا لتعزيز الإصلاح، والبرنامج الليبرالي المجدد-ممثلا بمعهد الشؤون الاقتصادية (Institute of Economic Affairs)، الذي تأسس عام 1955.

 

أما في جنيف، فقد رعى المعهد العالي للدراسات الدولية (Institut Universitaire des Hautes Etudes Internationales)، الذي أنشئ عام 1927، مؤتمرين في عامي 1935 و1937 يركزان على تبعات الكينزية (Keynesianism). وبتمويل من مؤسسة روكفيلر (Rockefeller Foundation) (والتي ساهمت أيضا في الثروة المالية لكلية لندن للاقتصاد LSE) ضمّ المعهد في هيئة التدريس كل من فون ميزس (Von Mises)، وفيلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وجاكوب فاينر (Jacob Viner). وقد جاءت فكرة تجميع المدافعين عن الليبرالية معا في مؤتمر عام 1935 من أجل تطوير نقد متماسك للتخطيط والنظرية الاقتصادية الكينزية. وقد أدى هذا إلى ندوة والتر لبمان (Le Colluque Walter Lippmann) لسنة 1938.

 

وفي عام 1937، نشر لبمان، وهو متمسك بالأيديولوجية الليبرالية، كتابه "المجتمع الصالح". وفي تفسيره، بعد أن اعترف أولا بأسبقية موقف "النزعة الجماعية"، كتب لبمان:

 

بعد مئة عام على نشر آدم سميث لكتابه "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations) فإنّ الفلسفة الليبرالية في تدهور...وقد أصبحت عبارة عن مجموعة من الشعارات دائمة التذمر يتّكل عليها أصحاب الأملاك عند التعدّي على مصالحهم الخاصة...

 

يبدو (أنّها) تشير إلى أنّه في مرحلة ما من مراحل تطورها، فإنّ الفلسفة لليبرالية أصبحت غير قابلة للدفاع عنها علميا، وأنّه بعد ذلك توقفت عن إحراز الاحترام الفكري أو أن تلبي الضمير الأخلاقي لقادة الفكر. 1937, 183-84)).

 

ثم وضع بعدها برنامج عمل ينادي فيه كل ذوي القناعة الليبرالية بالهجوم المضاد، من خلال تنقيح الفكر الليبرالي وتجديده، واستعادة الليبرالية باعتبارها المنظور النظري الوحيد الذي يتفق مع المصلحة البشرية العميقة الملزمة بأن تكون "حرة". ويجب الإشارة إلى أنّ لبمان ردّ على الفارق المتنامي الذي لوحظ في القسم الأول من القرن مع الدعوة لضرورة السيطرة على "الناس" (العمال). وفي كتابه "الانحراف والبراعة" لعام 1914، وضع تصوره للخطر الذي يلوح في الأفق على النظام الرأسمالي، وأعلن لأول مرة نداءه لـ"العِلم" ليهندس اجتماعيا وسائل تخرج النظام مما اعتبره فوضى (انظر Ewen 1996, 60-64, passim).

 

وفي عام 1938، عقد لوي روجيه (Louis Rougier)، فيلسوف ومؤرخ مؤتمرات جنيف، اجتماعا لتبني أطروحات لبمان. وكان من بين الحضور الستة والعشرين كل من: لبمان، وريمون آرون (Raymond Aaron)، وجاك روف (Jacques Rueff)، ومايكل بولاني (Michael Polanyi)، وهايك، وفون ميزس، وويلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وذلك من أجل أن يقوموا بدور بارز في إحياء الليبرالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحسب كوكيت (Cockett) (1994, 12)، فإنّ تركيز نقاشاتهم كان موجها نحو شخص واحد كانوا يعتقدون أنه المسؤول عن الحالة المؤسفة لليبرالية-ألا وهو كينز. وحسب كوكيت أيضا، لقد كان في هذا المؤتمر تحديدا أن فكّر هيك (Hayek) في كتابة "الطريق إلى العبودية" (The Road to Serfdom) (56)، وكانت هنا أيضا البذرة الأولى لما سيصبح لاحقا "جمعية مونت بيليرين". بالإضافة إلى ذلك، كان في هذا المؤتمر أيضا أن اختيرت "النيوليبرالية" كمصطلح أنسب للبرنامج الذي سيتم إنشاؤه (Plehwe 2009, 13).

 

من الواضح أنّ الحرب العالمية الثانية قد عطّلت أي انتقال سلس لمستوى أعلى من التنظيم، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ الحجج الأساسية لمناهضة الكينزية كانت موجودة في أواخر الثلاثينات. وما كانت بحاجة له هو هيكل تنظيمي، سيكون بمثابة نقطة مركزية، بحيث يمكن للبرنامج النظري أن يُنسّق، والآليات التي يمكن من خلالها نشر البرنامج على نطاق واسع، والعلاقات التي تشكلت مع "المصالح الثابتة" للذين لديهم الوسائل لنشر هذا البرنامج. كانت تلك هي جمعية مونت بيليرين، التي تأسست عام 1947.

 

لا يسعني في هذه الورقة أن أتفحص تاريخ النيوليبرالية فيما بعد عام 1947 (انظر:Cockett 1994; Hartwell 1995; Hoover 2003; Mirowski and Plehwe 2009). على كل حال، يجب الإشارة إلى بعض النقاط المهمة من منظور مؤسسي:

 

أولا، كان التشديد بين أولئك الذين شاركوا في تلك الاجتماعات المبكرة على تطوير ليبرالية "جديدة" ("new" liberalism). وقد تم الاعتراف (تقريبا) من قبل الجميع أنّ الليبرالية الكلاسيكية في شكلها الأصلي لم تعد تمتلك القوة النظرية والأيديولوجية. ومع ذك، فإنّ العناصر الجوهرية في الليبرالية الكلاسيكية- السوق، والملكية الخاصة، والفردانية- يجب الاحتفاظ بها.

 

ثانيا، بينما كان هناك توافق على مبادئ محددة، فقد كانت محددات برنامج النيوليبرالية مفتوحة للنقاش. وبشكل خاص، فقد كان دور "الدولة" محل نزاع شديد. وعلى العكس من الفهم السائد حول النيوليبرالية، لم يتم، ببساطة، التصويت على الدولة كشيء مكروه جدا (بعبع) في مقابل "السوق". في الواقع، فإنّ النسخة الألمانية من النيوليبرالية، "الأوردوليبرالية" (Ordoliberalism) [أو الليبرالية الانتظامية]، تطالب بدولة قوية "لتأمين نظام اجتماعي راسخ، ويعمل بشكل جيد" لتسيير عمل "اقتصاد سوق اجتماعي" (Ptak 2009, 101). حتى التخطيط لم يكن مستبعدا، و"التخطيط الارشادي" الفرنسي يدين كثيرا للنيوليبراليين الذين شاركوا في فبركة الاقتصاد الفرنسي لما بعد الحرب العالمية الثانية (انظر Denord 2009). وبالتالي، بينما كانت الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وسياسة عدم التدخل الحكومي بارزة في كثير من الأجندات النيوليبرالية، لكن لم يكن هذا هو الحال عند الجميع.

 

ثالثا، لقد أسّس الأكاديميون النيوليبراليون مؤسسات مع رجال أعمال، وصحفيين وسياسيين. في حين أننا عموما نرى الصعود النيوليبرالي مرتبطا بانتخاب مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) ورونالد ريغان (Ronald Reagan) كل في منصبه، لكن التنفيذ الجزئي لبرنامج النيوليبرالية بدأ مباشرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في فرنسا وألمانيا. وكمثال على ذلك، فقد عين لودفيغ إيرهارد (Ludwig Erhard)، وهو من الأعضاء المبكرين في جمعية مونت بيليرين، وزيرا للاقتصاد في مجلس الوزراء الأول الذي شكلته حكومة أديناور (Adenauer) (1949). وكان إيرهارد مسؤولا إلى حد كبير عن إدخال "السوق الاجتماعي" في ألمانيا الغربية. وهذه المؤسسات لم تقدم فقط تمويلا ماديا للأكاديميين النيوليبراليين (مؤسسة روكفيلر)، وصندوق وليام فولكر (William Volker Fund)، ومؤسسة أولين (Olin Foundation)، بل عملت أيضا كقنوات يتم من خلالها الترويج للأيديولوجيا النيوليبرالية. ومن الأمثلة البارزة على الطريقة التي تم من خلالها نشر هذه الأيديولوجية كان الترتيب الذي قامت به ريدرز دايجست (Readers Digest) بنشر واسع النطاق لكتاب "الطريق إلى العبودية" بنسخة موجزة. وقد تم هذا الترتيب من قبل هنري هازلت (Henry Hazlitt)، وهو صحفي أعمال مؤثر في صحيفة نيوزويك (Newsweek) وعضو في جمعية مونت بيليرين منذ تأسيسها.

 

وأخيرا، فقد أنشأ النيوليبراليون أو استطاعوا السيطرة على مختلف "مراكز البحوث". وكانت أول مؤسسة من هذا القبيل هي معهد الشؤون الاقتصادية (the Institute of Economic Affairs) الذي تأسس عام 1955. وقد تبعه بعد ذلك: مركز دراسة السياسات (Centre for Policy Studies)، ومعهد آدم سميث (Adam Smith Institute)، ومؤسسة هيريتيج (Heritage Foundation)، وغيرها. (انظر Cockett 1994). وأصبح العديد من مراكز الدراسات هذه مرتبطا في شبكة الحرية (Freedom Network) ومؤسسة أطلس للدراسات (Atlas Research Foundation). وكلاهما مؤسسات مظلة من تصميم (السير) آنتوني فيشر ((Sir) Anthony Fisher) والذي كان القوة المحركة خلف إنشاء معهد الشؤون الاقتصادية (Mudge 2008, 10-12). وتوفر هذه المؤسسات مظهرا خادعا لكن مرموقا للعقلانية الفكرية، وتشتمل على منشورات داخلية يمكن من خلالها نشر البرنامج السياسي النيوليبرالي.

 

خلاصة

لقد وضعت أسس البرنامج النيوليبرالي في القرن التاسع عشر مع نمو النزعات "الجماعية" في النشاطات الاقتصادية، مثل: صعود الشركات الكبرى، وتنامي التدخل الحكومي في الاقتصاد، والأهم، تطور الحركة العمالية، و"التهديد" المصاحب للاشتراكية. وبينما ولد الرد النيوليبرالي قبل عمل جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes)، لقد كان الإطار النظري لعمل كينز، بهدف خلاص الرأسمالية من خلال تدخل حكومي نشط، هو الذي عجّل في برنامج النيوليبرالية المنظم، وكان الهدف هو الحفاظ على نظام اجتماعي رأسمالي لمصالح الملاك الكبار (عموما). وقد حقق هذا البرنامج نجاحا ضخما بهذا الخصوص، بالرغم أنّ العديد من التوصيات المحددة- مثل الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، الخ- أثبتت كارثيتها. ومع ذلك، وفي حال انتعاش الاقتصاد، على الأقل بمقياس كبير، فستبقى النيوليبرالية على الأجندة السياسية. وبالنظر إلى القوة التنظيمية للنيوليبراليين، وصلتهم بمصادر التمويل الأساسية، ومع الوسط الأكاديمي، ومع الجهات الحكومية، والتزامهم ببرنامجهم، إلا أنني أشك بشدة أنّ النيوليبرالية ستصمد في وجه العاصفة الحالية.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات