نصر القفاص
إقترح "كاتب المذكرات" وفق روايته أن يكون قريبا من مقر
قيادة الجيش, لحظة التحرك.. وقال لكل من "عبد الناصر" و"عامر"
أنه سيكون داخل سيارته الأوبل عند محطة البنزين!! "فقالا لى: لا.. أنت مراقب,
ولو قبضوا عليك فى الطريق ضاع كل شىء.. الأفضل أن تبقى فى بيتك بجوار التليفون,
حتى نبلغك بالاستيلاء على مبنى القيادة".. وفى اليوم التالى – الأحد 20 يوليو
– قدم "حسين سرى" استقالة وزارته وتقرر عودة "نجيب الهلالى"
لرئاسة الوزارة.
ماذا فعل "محمد نجيب" يوم الثلاثاء 22 يوليو؟!
يقول فى مذكراته: "فى صباح ذلك اليوم ذهبت فى سيارتى العسكرية
إلى بيت جمال عبد الناصر.. كان شقة فى الدور الأول بشارع والى فوق دكان مكوجى..
خلف محطة بنزين كوبرى القبة.. من سرعة دخولى البيت, أمسكت حديدة فى السلم ببنطلونى
فمزقته.. طرقت الباب فلم أجده.. أسرعت إلى كلية الأركان فوجدته هو وعبد الحكيم
عامر.. كنت أريد أن أتأكد أن كل شىء يسير حسب اتفاقنا.. وقال لى عبد الناصر: كله
تمام.. أنا أرسلت أستدعى أنور السادات من العريش, ليستولى بصفته ضابط إشارة على
الإذاعة والتليفونات"!!
تلك هى كل التفاصيل التى يعرفها "محمد نجيب" عن
"الانقلاب" الذى قام بقيادته.. وتلك هى كل المعلومات التى فى جعبة قائد
الثورة.. بيت "عبد الناصر" فوق دكان مكوجى.. بنطلونه تمزق.. تم استدعاء
"أنور السادات" من العريش.. كله تمام.
إطمأن "أول رئيس لمصر" على خططه كما ذكر.. نقلتها
بالتفصيل.. وعاد إلى المنزل مرتاح البال والضمير.. بعد الظهر جاء إلى بيته ضيف
عزيز!
يقول "محمد نجيب" فى مذكراته: "ظهر يوم 22 يوليو
زارنى محمد احمد محجوب رئيس وزراء السودان فيما بعد – وقت الزيارة كان مواطن – طلب
منى أن أذهب معه إلى نادى التجديف.. قبلت دعوته على الفور, فقد كنت أريد أن أفك من
حصار المراقبة الذى حولى.. كنت أريد أن أعرف ما يحدث فى البلد.. كنت قلقا وأريد أن
يمر الوقت.. فى نادى التجديف قابلت محمد حسنين هيكل وأبلغنى بخبر الاستغناء عنى..
حاولت أن أجس نبضه وأعرف منه إلى أى مدى يعرف أخبار تحركاتنا, خاصة وأنا أعرف صلته
بالأمريكان والسراى.. لكنه لم يكن يعرف أكثر مما قاله".
لا يفوت "أول رئيس لمصر" أن يستحضر "محمد حسنين
هيكل" ليقول لقراء مذكراته, أنه له صلة بالأمريكان والسراى!! لم يقل ذلك عن
"مصطفى أمين" رغم أنه جاء على ذكره خلال تقديمه لشهادته, وكتابة مذكراته
التى أضاف فيها: "بعد نادى التجديف.. عدت إلى منزلى فى المساء.. كان على أن
أبقى فى منزلى حتى ينتهى الجزء الأول من الخطة, وهو الاستيلاء على مقر القيادة ثم
أنضم للآخرين.. كانت ساعة الصفر هى الواحدة من صبيحة الأربعاء 23 يوليو.. مرت
الدقائق على أنها أعوام.. قطعت الوقت بقراءة آيات القرآن.. تذكرت فى ذلك الوقت ما
قاله لى صديقى السودانى أحمد المدثر وهو رجل تقى.. أعرفه من أيام المدرسة فى
جوردن.. كان قد قال لى: صليت العصر بمسجد سيدنا الحسين.. تمددت ونمت.. حلمت أننى
أقف أمام ضريح الحسين, فرأيت شعاعا ينبعث من الضريح.. وإذا بهذا الشعاع يتحول إلى
يد تمسك ورقة.. وإذا بصوت يقول لى: إعط هذه الورقة لمحمد نجيب ليقرأها وينفذ ما
بها.. فتحت الورقة وجدت آية مطلوب منى قراءتها 450 مرة.. تذكرت الكلام.. صليت
العشاء.. رحت أتلو الآية عشرات المرات, وعينى على التليفون.. فهذا هو الجهاز الذى
يربطنى بالعالم الآن.. عند منتصف الليل, إتصلت زوجة شقيقى على لتسأل عنه.. قالت:
أنا مشغولة عليه.. ليس من عادته أن يتأخر دون أن يقول لى.. قلت لها: إطمئنى سأبحث
عنه.. فقد كان قائد حامية القاهرة والمسئول عن أمنها وحمايتها.. بعد دقائق طلبنى
على.. ربما ليتأكد من وجودى فى البيت, ثم أخبرنى أن بعض قوات الجيش تتجه نحو قصر
عابدين.. طمأنته وطلبت منه أن يتجه بنفسه إلى قصر عابدين, ليرى ما يجرى هناك لعلمى
أن قصر عابدين كان خارج خطة التحركات"!!
قائد تنظيم "الضباط الأحرار" – أو الأشرار كما وصفهم –
عرف بأمر الثورة يوم 19 يوليو.. وليلتها كان فى نادى التجديف مع صديق من الظهر إلى
المساء.. وخلال تحرك الضباط والجنود كان يجلس فى بيته ويتذكر رؤية صديقه
"أحمد المدثر" فى الحسين!! ثم نسمع أنه "قائد الثورة" التى
يراها هو بقلمه أنها انقلابا.. إن كنت أراه "جملة عابرة" فى تاريخ مصر,
فهذا استنادا إلى مذكراته – شهادته – التى لم يأخذها دارس أو مؤرخ بجدية.. لكن
ماكينة الإعلام تروجها على أنها للرجل المظلوم.. داعية الحرية.. المقاتل لأجل
الديمقراطية!! حتى أصبح اسمه يسبق اسم "عبد الناصر" فى تخليده بإطلاقه
على أكبر قاعدة عسكرية فى مصر, وإطلاقه على أهم الشوارع والمحاور فى المدن
الجديدة!!
لم يتبرأ "محمد نجيب" من الثورة بعد فترة إقامته
الجبرية..
الحقيقة أنه تبرأ منها لحظة قيامها بالثلاثة.. كيف؟!
يقول "كاتب المذكرات" بالنص: "إتصل بى من
الإسكندرية مرتضى المراغى وزير الداخلية.. عاد للوزارة فى حكومة الساعات الأخيرة..
وقال لى: يا نجيب بك.. أتوسل إليك كضابط وطنى أن توقف هذا العمل.. قلت له: ماذا
تقصد بالضبط.. قال لى: أنت تعرف ما أعنى.. أولادك بدأوا شيئا فى كوبرى القبة, وإن
لم تمنعهم سيتدخل الانجليز.. قلت له: أنا لا أعرف ما تتحدث عنه.. قال لى: يا نجيب
أنت تعرف جيدا ما أقوله.. تحرك قبل فوات الأوان.. قلت له: هل تشك فى أننى أدبر
انقلابا.. هل تريد أن تلصق بى هذه التهمة الخطيرة.. ألا يكفى أننى مراقب فى
بيتى؟.. قال لى: أقصد أن لك سيطرة على ضباطك وجنودك.. إذهب إلى كوبرى القبة
واصرفهم.. قلت: كيف أعرف أن المتحدث هو مرتضى المراغى؟.. قال: يا نجيب.. رئيس الوزراء
سيستدعيك قريبا.. وأقفل الخط".
تلك كانت أول مرة يغلق الخط فى وجه "محمد نجيب" لحظة
تنفيذ الثورة.
حرص "محمد نجيب" أن يصف ما يحدث بانه "انقلاب"
رغم أن وزير الداخلية كان يسميه "شيئا"!!
يضيف فى مذكراته: "بعد أقل من ربع ساعة.. إتصل بى فريد زعلوك
وزير التجارة والصناعة.. وقال: ولادك يا نجيب عاملين دوشة فى كوبرى القبة.. قوم
شوف الحكاية.. قلت له: أنا ما عنديش أولاد.. قال: إذا لم توقف الانقلاب, سيعود
الانجليز لاحتلال مصر.. قلت له: هذا اتهام أرفضه.. فأغلق الخط".
وكانت تلك المرة الثانية التى يتبرأ فيها "محمد نجيب" من
الثورة خلال دقائق.
إعتبر "فريد زعلوك" ما يحدث مجرد "دوشة" ثم
وصفه بأنه "انقلاب" واعتبره "أول رئيس لمصر" إتهام يرفضه..
وهو يعترف أن الوزير أغلق الخط فى وجهه.. وكانت تلك المرة الثانية خلال دقائق!!
مازال "كاتب المذكرات" يحكى: "تلقيت مكالمة من رئيس
الوزراء نجيب الهلالى شخصيا.. قال لى: يا نجيب.. أنا أستاذك فى كلية الحقوق.. ما
يحدث الآن مسألة عواقبها وخيمة, وتفتح الباب لتدخل الانجليز.. عدت للمرة الثالثة
لأنفى معرفتى بما يحدث.. إنتهت المكالمة".
راح يستكمل فيقول: "تضاعف ارتباكى وقلقى.. وصلت حيرتى للقمة..
ظللت فى هذه الحالة إلى أن جاء الفرج.. رن التليفون.. رفعت السماعة.. جاء صوت
الصاغ جمال حماد يهنئنى بنجاح المرحلة الأولى.. قال: مبروك يا فندم.. كله تمام..
استولى أولادى على القيادة العامة.. مركز الاتصالات الحيوية.. تحركت المدرعات
ودخلت القاهرة.. تجمع الجنود بعرباتهم فى شارع الخليفة المأمون.. أى أن الخطة تم
تنفيذها كما رسمناها"!!
طالما أن الجنود تجمعوا فى شارع الخليفة المأمون.. فقد تم تنفيذ
الخطة!!
هل يمكن أن تقرأ "هزلا" بهذا القدر عن أهم أحداث القرن
العشرين؟!
أترك لك الإجابة.. أعود إلى النص الذى قال فيه: "قال لى جمال
حماد.. هناك قولا من ثلاث عربات مدرعة يقوده اليوزباشى سعد توفيق فى طريقه إلى
الزيتون لإحضارك.. أخبرته أننى سأركب فورا سيارتى الأوبل الصغيرة التى يقودها
سائقى الخاص توفيرا للوقت.. وتحركت سيارتى إلى كوبرى القبة.. قبل أن أصل إلى مقر
القيادة, وجدت جميع الضباط والجنود فى انتظارى.. تركت سيارتى المدنية.. ركبت سيارة
جيب ودخلت بها مبنى رئاسة الأركان.. صعدت إلى غرفة رئيس الأركان.. وجدت البكباشى
يوسف صديق يتحدث إلى بعض الضباط منهم القائمقام أحمد شوقى, والبكباشى جمال عبد
الناصر, والبكباشى زكريا محيى الدين, والبكباشى عبد المنعم امين, وقائد أسراب حسن
ابراهيم, وقائد أسراب عبد اللطيف البغدادى, وقائد جناح على صبرى, وكان البكباشى
محمد أنور السادات متمددا فى غفوة"!!
بعد كل ما تقدم من "هزل" كتبه "محمد نجيب" فى
مذكراته.. أضاف: "للتاريخ أذكر أن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لم
يقتربا من مقر القيادة إلا بعد الاستيلاء عليها.. كانا يقفان فى مكان جانبى أمام
سيارة عبد الناصر الأوستن السوداء بملابس مدنية.. ووضعا ملابسهما العسكرية
وطبنجتين داخل السيارة.. بمجرد نجاح الاقتحام إرتديا ملابسهما العسكرية, ودخلا
القيادة.. أما أنور السادات فكان أكثر منهما ذكاء إذ دخل ليلتها السينما.. تشاجر
مشاجرة مفتعلة.. حرر محضرا بالواقعة, حتى إذا فشلت الحركة, خرج منها كالشعرة من
العجين"!!
الذى يكتب هو "محمد نجيب" الذى تبرأ فى مكالمتين مع
وزيرين, وأخرى مع رئيس الوزراء من صلته مما يحدث.. هو لا يرى فى قضائه ليلة الثورة
بنادى التجديف ذكاء على طريقة "أنور السادات" ويرى أن نومه فى بيته
منتظرا استدعاءه بمكالمة من "جمال حماد".. قمة البطولة والقيادة!!
أساء "محمد نجيب" للثورة.. وأساء للضباط الأحرار.. طعن
الذين حملوا أرواحهم على كفوفهم ليلة 23 يوليو.. دون أن يذكره أى منهم بسؤ.. كلهم
اعتبروا موافقته على أن يكون واجهة للثورة, فعلا يستحق التقدير.. لذلك حين أقول
أنه كان "جملة عابرة" فى تاريخ مصر.. فذلك له أسباب فيما سيأتى من
"هزل" هو يرويه على أنه "جد"!!..
يتبع
0 تعليقات