بقلم / أسامة الدباغ
قلنا في نهاية البحث السابق وسألنا: هل بإمكان إبراهيم النبي أن
(يُحيي) كما يفعل ربه الرحمن ؟؟؟ أم أن الإمام لا يُحيي !!!! (إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴿12﴾يس، وإبراهيم إمام فهو من مجموعة نحنُ
المباركة التي تُحيي الموتى، فإذاً لماذا يسأل ربه (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ) وعلى هذه الآية المباركة سيكون مدار
بحثنا أن شاء الله.
ووعدناكم بأننا بتوفيق الله سنبين وجه من ذلك من خلال آيات سورة
البقرة المباركة، وبعد أن حاج النمرود في رب إبراهيم فالآية رقم (258) تطالعنا
الآية التي بعدها بقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ
فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَىٰ
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿259﴾، نجد في هذه الآية نفس الكلمة
التي تحدث بها إبراهيم الخليل (يُحْيِي) والجواب يأتي بطريقة الإحياء للقادر
سبحانه وتعالى وفيها إشارات للرجعة بعد الموت (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ
ثُمَّ بَعَثَهُ)، وانعدام الزمن أو الشعور به (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ
يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)، وبعد هذه الآية
المباركة يعود الخطاب إلى إبراهيم الخليل حين سأل ربه وخليله الرحمن: (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ
جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ﴿260﴾، ويجب أن نلاحظ أن هناك ربط لهذه الآيات الثلاثة (258-259-260) من
سورة البقرة المباركة في عدة مستويات:
المستوى الأول: نلاحظ كلمة (يُحْيِي) التي تكررت في كل الآيات الثلاث ولكن في كل
آية لها دلالة وهي تعطي بحثنا إحاطة تامة بعملية الإحياء بكل مراتبها: إحياء
الأنفس التي اماتتها عبادة الأصنام والإلهة وأحياء الأرض وأحياء الطير ولكل واحدة
لها معنى وإشارة مهمة سنتكلم عنها أن شاء الله.
المستوى الثاني: ما الذي يربط بين قصة إبراهيم عليه السلام وقصة السائل عن القرية
الخاوية؟ وهل هي بنفس البلدة التي يسكنها إبراهيم ؟؟ وهل كانت تلك القرية عامرة
بأهلها وأصبحت خاوية ؟؟ هل جف ماءها بعد الطوفان ؟؟؟ وهل أصبحت أرض خاوية بلا زرع
؟؟ ولا تصلح للسكن لذلك هجرها أهلها ؟؟؟ وهل لإبراهيم القدرة على أحياءها ؟؟ ولذلك
سأل ربه كيف (تُحيي) ؟؟؟ وهل سيحييها بيده وفأسه ؟؟؟ أم بعلمه ونور قلبه ؟؟؟ أم
بهما جميعاً ؟؟؟
المستوى الثالث: بعد أن أنهزم النمرود هل سيسكت عن إبراهيم ؟؟؟ أم سيجبره على
مغادرة المدينة هو ومن معه ... تهجير قسري ....
المستوى الرابع: كثيراً ما يسأل الناس عن المتكلم الذي قال (أَنَّىٰ يُحْيِي
هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، ونجد في التفسير أسمين (العُزير) و (أورميا)،
ويقال أنه (الخضر) على بعض الروايات وكلاهما في زمن متأخر عن إبراهيم الخليل، ولا
حاجة بنا إلى معرفة اسم السائل، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل
ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله - على إحيائه خلقه بعد مماتهم،
وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت، والبعض يشير الى تلك القرية
بأنها القدس أو المدينة المقدسة، وهذا كله غير مقنع لما قلناه وليس له ترابط زمني
مع النبي إبراهيم ولا مقارب للحقبة التي عاشها، ولكن نقول نعم هي قرية مقدسة بل هي
أم القرى !!!.
المستوى الخامس: الآية الأولى مع النمرود فيها مسألة (يُحيي ويميت) مطلقة بلا قيد
وهي دلالة إيمان إبراهيم بقدرة الرب العظيم، أما الآية الثانية فهي سؤال عن الزمن
الذي ستحيى به هذه الأرض ((أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، أو
تكون بمعنى كيف سيحي الله هذه القرية بعد ان أصبحت خاوية ؟؟؟، أما الآية الثالثة
فهي محددة بكيف تحيي الموتى (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ).
المستوى السادس: نمرود لم يطلب البينة من إبراهيم كيف ربه يُحيي ويميت ولكنه أدعى
بأنه هو أيضاً يُحيي ويُميت فأطلق مسجون حَكم عليه بالموت وقتل الآخر فتصور أنه
احيا وأمات، أما السائل في الآية الثانية فهو لم يرى بأن القرية عادت إلى ما كانت
عليه بل أستدل بعد مائة عام بحاله هو، وحال طعامه وحماره، وأما في الآية الثالثة
فأن رب إبراهيم أرشده إلى أربع من الطير ليقطعها ويوزعها على الجبال ثم يدعوها
إليه فتأتيه سعياً.
مما تقدم نجد أوجه الربط بين الآيات الثلاثة ومن خلال البحث أن شاء
الله سنجيب على كل تساءل طرحناه، وعلينا أن نعود إلى رحاب إبراهيم الخليل ونرى
ماذا يطلب من ربه الرحمن (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَىٰ)، وأول سؤال يجب أن نسأله بأن إبراهيم أحتج على النمرود (قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، فكيف يأتي بعد ذلك ويسأل
(أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ)؟؟، ومما لا شك فيه بأن إبراهيم كان على يقين
بما قاله للنمرود (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، وهو صادق بجوابه مع ربه
(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، على
ماذا يريد أن يطمأن وهل قلب إبراهيم لم يطمأن بعد !!!؟؟؟، (وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿112﴾النحل، هل هذه القرية هي نفس
القرية التي سأل عنها السائل (أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)،
وهل جاء الأمر لإبراهيم من ربه بأن يحيي تلك القرية الخاوية على عروشها؟؟؟ وهذا
سبب بأن يكون قلبه غير مطمئن ؟؟ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴿28﴾ الرعد، هل
توجد آية أخرى أم نحتاج إلى تأمل بالسؤال ((قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ
وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، تأمل في كلمة (تُؤْمِنْ)، لا يمكن ان تفسر هذه
الكلمة على أن إبراهيم يسأله ربه عن إيمانه!! لأن إيمان إبراهيم أكبر بكثير من ذلك
كما قال تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿120﴾النحل، ويقول أيضاً (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) 4 الممتحنة، وبعد هذه الآيات والتأمل فيها
فأننا ممكن أن نقول بأن السؤال (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، كان حول (الأمن والأمان) بكيفية أعادة الحياة للقرية التي
سيرحل لها إبراهيم، ونجده حين يرحل يطلب أن يكون ذلك البلد (آمناً)، (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴿35﴾، لأن الأمن يحتاج إلى أسباب يجب توفرها وهذا ما نلاحظه
في تكملة دعاء إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
﴿36﴾رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴿37﴾ وهذه الآيات الثلاثة المباركات من سورة إبراهيم،
تربط لنا البحث وما قلناه في المقدمة بأن النمرود أجبر إبراهيم وقومه على ترك تلك
المدينة، وتوجه إلى الأرض المقدسة (بكة) وهي الأرض التي كانت خاوية على عروشها
فدعى إبراهيم ربه أن تكون هذه الأرض صالحة للزراعة وطلب أن يرزقه من الثمرات وبهذا
يعم الأمن والأمان وتهوي لهم قلوب الناس وهذه هي الأسباب التي قلنا يجب توفرها في
البلد الآمن المستقر من الناحية الاقتصادية والأهم من ذلك هو التوحيد الخالص ونبذ
عبادة الأصنام ولذلك تشير الآية المباركة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً
كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿112﴾النحل، سبب الجوع والخوف هو الكفر بأنعم الله، وأن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
ما تقدم هو وجه من الأوجه التي نطرحها في ساحة الإمكان للتفكر فيها
والتأمل وللحديث تتمة ................. والحمد لله رب العالمين
0 تعليقات