نصر القفاص
إستدعى "أنور السادات" فى نهاية عام 1971 "محمد
نجيب" وقال له: "أنت حر طليق".. هكذا كتب "أول رئيس
لمصر" فى مذكراته..
كان هو نفسه "أنور السادات" الذى كتب فى مذكراته,
وعنوانها "يا ولدى هذا عملك جمال" بالنص: "لم نكن نواجه العقبات
بعد الثورة من الرجعيين وأنصار الحكم الفاسد.. إنما واجهناها أيضا من داخل الثورة
نفسها, حين خرج على مبادئها الرجل الذى اخترناه أول الأمر لقيادتها.. ففضل أن
يتعامل مع أعداء الثورة.. وكادت المسألة تنتهى بكارثة, لولا يقظة عمك جمال عبد
الناصر".
القائل "إذهب أنت حر طليق" بعد أن أصبح رئيسا.
هو نفسه القائل عن "محمد نجيب" أنه: "فضل أن يتعامل
مع أعداء الثورة"!
ماذا تغير فى الرجل حتى يتغير رأيه فيه وموقفه منه هكذا؟!
المتغير الوحيد هو أن "جمال عبد الناصر" رحل عن الدنيا.
استدعاه "ثالث رئيس لمصر" ليشاركه المهمة التى انطلقت
بعد وفاة "عبد الناصر" واستمرت لنحو نصف قرن - وستستمر - وهدفها شطب هذه
المرحلة من الذاكرة الوطنية.. لن يتحقق ذلك دون تشويه قائد وزعيم تلك الثورة.
يوضح لنا "أنور السادات" الصورة أكثر فأكثر حين كتب فى
مذكراته - يا ولدى هذا عمك جمال - ليقول: "عارضت تنازل جمال عن قيادة الثورة,
ووضع محمد نجيب فى الواجهة.. إجتمعت مع عمك جمال فى شقته بكوبرى القبة.. ناقشته
وأبديت تخوفى من تسلم رجل غريب لقيادة الثورة, وكان محور خوفى أن الرجل بحكم سنه
وعقليته وجيله الذى نشأ فيه لن يستطيع أن يفهم العمل الثورى.. كما أنه لا يرجى منه
بعد هذه السن أن يعيش بعقلية غير عقليته, مما يشكل خطرا جسيما على الثورة".
لم يقل "أنور السادات" رأيه فى "محمد نجيب"
وسكت!
لكنه راح يروى: "بعد أن سمعنى عمك جمال, قال لى: يجب أن تحسب
حساب النفس البشرية.. لم أفهم فى أول الأمر.. لكنه استطرد قائلا: نحن جميعا فى
الهيئة التأسيسية زملاء فى سن واحدة.. رتبنا تكاد تكون واحدة, والذى جمعنا فى هذا
العمل هو الصداقة أولا, ثم الأخوة والمحبة اللتان ولدتا الثقة.. بدليل أننا نتآمر
ليل نهار ولا يحس بنا أحد.. وأخشى ما أخشاه, أننا إذا جعلنا قيادة الثورة فينا..
أن يفتح هذا الأمر ثغرة فى نفس واحد منا.. نحن بشر والنفس البشرية مليئة
بالانفعالات.. وأنا لا أريد أن يكون مستقبل الوطن معلقا على الانفعالات, بل لا
أريد أن أفرض احتمالا واحد فى الألف فيه شك من انفعال فى نفس واحد فينا.. لأن
المسئولية فيها مستقبل شعبى, وبالثقة والمحبة نستطيع أن نحقق المستحيل.. هكذا وضع
عمك جمال شعار المثل العليا موضع التنفيذ قبل الثورة".
لأن التاريخ قد يسكت ولا يموت.. أردت أن يكون هذا القطع فى قراءة
مذكرات "محمد نجيب" لأنه سيمضى فى "الهزل" حتى يروى قصة وداع
الملك فيقول: "وجهت حديثى إليه فوق ظهر الباخرة المحروسة, وقلت له: أفندم..
أنت تعرف أننى كنت الضابط الوحيد الذى قدم استقالته عام 1942.. قال: نعم أتذكر.. قلت:
لقد كنت خجولا للمعاملة التى لقاها الملك فى ذلك الوقت.. قال: أعلم.. قلت: كنا
مخلصين للعرش عام 1942.. لكن أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك الوقت.. قال: نعم أعلم أن
أشياء كثيرة تغيرت.. قلت: أنت تعرف يا فندم أنك السبب فيما فعلناه.. وجاءت إجابة
فاروق محيرة جدا, وشغلتنى طيلة حياتى.. إذ قال: أنتم سبقتونى بما فعلتوه, وفيما
كنت أريد أن أفعله"!!
كتب "محمد نجيب" هذا الكلام, وزعم أن الحوار دار أمام
"أحمد شوقى" و"حسين الشافعى" و"جمال سالم"
و"إسماعيل فريد" وإن شئت تصديق أو تكذيب الرواية إبحث عنها فيما كتبه
الأربعة أو أحدهم!! ثم عاد "صاحب المذكرات" ليقول: "إنتهى الوداع
فى احترام ووقار.. ثم وقف الملك مع على ماهر وجيفرسون كافرى, وقال: الآن يجب أن
أمشى.. مشى فاروق وشعرت أن صفحة جديدة فتحت فى تاريخى وتاريخ مصر.. عدت إلى ثكنات
مصطفى كامل أفكر فى أن الجماهير التى ترفع الحاكم إلى سابع سماء, هى التى تنزل به
إلى سابع أرض.. لكن أحدا لا يتعلم الدرس"!!
فى مذكراته كتب "سليمان حافظ" وكيل مجلس الدولة تفاصيل
قصة توقيع الملك "فاروق" على وثيقة تنازله عن العرش.. وضمن مذكرته التى
تحمل كافة التفاصيل, والتى سلمها إلى رئيس الوزراء "على ماهر" يوم 11
أغسطس عام 1952, لتصبح وثيقة لا تكذب.. وفيها يقول: "حضرة الرئيس على ماهر..
رئيس مجلس الوزراء.. طلبتم منى تقريرا مفصلا عن المهمة التى كلفتونى بها فى خصوص
تنازل الملك السابق عن العرش.. وإلى سيادتكم هذا التقرير, مراعى فيه الدقة بقدر
المستطاع".
لاحظ أن كاتب الوثيقة, يخاطب رئيس الوزراء الذى كلفه.
نعود إلى نص المذكرة: "فى ضحى السبت 26 يوليو سنة 1952, وفى
مصيف الوزراء ببوكلى عهدتم إلى بصياغة وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش.. آثرت
ألا أنفرد بهذا الأمر واشتركت مع حضرة الدكتور السنهورى رئيس مجلس الدولة فى
إعدادها.. كنا بين أن تصاغ فى صورة كتاب من الملك إلى رئيس الوزراء أو فى صورة
كتاب ملكى.. فآثرت الأخرى.. إستلهمنا أسباب الأمر من مقدمة الدستور, ثم عرضنا
المشروع عليكم بحضور اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة والبكباشى جمال
سالم من سلاح الطيران الملكى.. وبعد مناقشة وتعديل قليل بناء على طلبهما.. تمسك
جمال سالم بإضافة جملة نزولا على إرادة الشعب.. أقررتم المشروع وأمرتم بنسخه على
الورق المعد للمراسيم.. طلبتم منى التوجه إلى قصر رأس التين لتوقيع الأمر من
الملك, وقد وعد القائد العام بالاتصال بالقوة التى تحاصر القصر للسماح بدخولى..
طلب البكباشى جمال سالم أن يكون فى صحبتى ضابط من القيادة العامة يحضر التوقيع,
فصرفناه على ذلك واستقللت سيارة من حرس الوزارة منفردا إلى قصر رأس التين.. فى
طريقى شاهدت بطاريات من مدفع الميدان الثقيلة أمام ثكنة خفر السواحل بالأنفوشى,
مصوبة مدافعها إلى القصر.. على استعداد تام للعمل.. عند وصولى إلى ساحة القصر
الخارجية, رأيت نطاقا من مدافع الميدان والدبابات المسلحة والمدافع الرشاشة مضروبا
على الساحة.. طلب منى الملازم المنوط به الموقع أن أستحضر من القيادة العامة إذنا
مكتوبا بالمرور, فأبلغته أنى فى مهمة يعلمها القائد العام للقوات المسلحة.. وقلت
له بأنه وعد بإصدار الإذن إليه مباشرة.. كلفته بالاتصال به تليفونيا فى هذا
الشأن.. قصد الضابط إلى قائد القوات المحاصرة, وظللت حوالى ثلث ساعة حتى جاء
البكباشى أنور السادات فى عربة جيب وأمر بإفساح الطريق لى.. واعتذر عن عدم وصول
أوامر القيادة إلى القوة المحاصرة لعطل مفاجىء فى اللاسلكى, وتبعنى إلى الباب
الخارجى للقصر, وكان مقفلا ثم انصرف".
مازالت فى الوثيقة الرسمية تفاصيل.. لكن فى نصها ستجد أنه هناك فرق
بين القائد العام للقوات المسلحة والقيادة العامة.. فالقائد العام - محمد نجيب -
وعد بالاتصال بالقوة التى تحاصر القصر للسماح بدخوله.. لكن القائمين على حصار
القصر طلبوا أمرا من القيادة العامة, ولم يسمح بدخول "سليمان حافظ" إلا
بوصول "أنور السادات"!!
تمضى المذكرة - الوثيقة - فى عرض الوقائع, فتقول: "طرق سائق
السيارة التى كنت أركبها الباب.. إنفتح الباب جزئيا, وأطل منه حارس طلب منى أن
أترك السيارة فى الخارج.. إصطحبنى إلى ضابط فى مبنى للحراسة إلى جانب الباب..
كلفته أن يبلغ الأميرالاى أحمد كامل بحضورى.. بعد قليل قادنى أحد الحراس إلى فيلا
أنيقة فى الجهة الغربية من الديوان الملكى.. علمت من سيادتكم فيما بعد أنها مخبأ
للوقاية من الغارات الجوية, كان قد أعد فى قصر رأس التين أثناء الحرب العالمية
الثانية.. لاحظت أن القصر يبدو مهجورا, فيما بضعة حراس مسلحين بالبنادق سريعة
الطلقات.. على باب الفيلا إستقبلنى سيد يرتدى ملابس مدنية, قال أنه الأميرالاى
أحمد كامل وأدخلنى إلى صالة فسيحة مستديرة.. فى وسطها منضدة كبيرة من الرخام
الأسود المموه باللون الأبيض.. فى محيط الصالة مقاعد كبيرة تتخللها أخرى صغيرة..
إلى يمين الداخل طرقة عريضة, فأجلسنى على أحد المقاعد الكبيرة.. غاب داخل الطرقة
برهة.. عاد بعد قليل وأخبرنى أن الملك قادم لمقابلتى.. غادر ثم عاد ليقول ما
محصلته أن الملك له أمنية يريح خاطره أن تتحقق.. فقد اعتقل رجال الجيش بوللى
والأميرالاى محمد حلمى حسين عند خروجهما من القصر صباح اليوم.. وبوللى عزيز على
الملك إذ يلازمه منذ الطفولة.. وهو سيسر فى هذا الظرف العصيب إذا أمكن بتوسطى أن
يسمح لهما بالرحيل معه لو كان هذا مستطاعا.. وتحدث فى هذا الشأن طويلا, وكنت أعده
أن أتوسط فى ذلك.. مر حوالى ربع ساعة, وأنا جالس فى مكانى.. إلى جانب الطرقة إجتمع
بعض الضباط, وبينهم قليل ممن ظننتهم مدنيين.. علمت فيما بعد أنهم من ضباط الحرس
الخاص.. خرج الملك من الطرقة, وكان يرتدى اللباس الصيفى لأدميرال فى البحرية.. قصد
المنضدة التى فى وسط الصالة.. نهضت عند رؤيته, وقصدتها حتى التقينا فى جانب منها..
صافحنى.. أخرجت وثيقة التنازل من غلافها.. قدمتها له.. تناولها سائلا عما إذا كانت
محكمة الوضع من الناحية القانونية.. قلت له: نعم.. ألقى عليها نظرة عاجلة.. سألنى
عن أسباب النزول عن العرش.. قلت: إستلهمناها من الدستور.. كان الملك هادئا, لكننى
لاحظت من سرعة خطواته ومن سعلات قصيرة سريعة كانت تنتابه, أنه كان فى حالة انفعال
عصبى يعمل جهده للسيطرة عليه.. عاد إلى قراءة الوثيقة مرة أخرى, ثم تناول قلما من
جيبه.. وقال: ألا يمكن إضافة كلمة وإرادتنا بعد عبارة نزولا على إرادة الشعب.. قلت
له: لقد وضعنا نزولكم عن العرش فى صورة أمر ملكى.. قال: تريد أن تقول أن الأمر
الملكى ينطوى على هذا المعنى؟.. قلت: نعم.. قال: فليس إذن ما يمنع إضافة تلك الكلمة..
قلت: إننا لم نصل إلى الصيغة المعروضة عليه إلا بصعوبة.. قال لى فى اهتمام: إذن
كانوا يريدون منى أن أوقع على ورقة أخرى.. قل لى يا بك.. ماذا فيها؟.. قلت: لم
أطلع عليها.. قال: أنت تمسك عن ذكر ما فيها حتى لا تجرح مشاعرى, لكننى أعدك ألا
أتأثر مما أسمع.. فأكدت له بشرفى أننى لم أطلع عليها.. فوقع الأمر الملكى.. ثم
قال: لعلك تقدر الظروف فتلتمس لى العذر أن التوقيع لم يكن كما أود.. لذا سأوقع مرة
أخرى, ثم وقع فى أعلى الوثيقة.. هنا اعتذرت عن عدم إمكانى الحضور بغير الملابس
البيضاء التى كنت أرتديها, وحاولت أن أهون عليه الأمر.. مشيرا إلى قضاء الله
والرضا به.. فقال: لا بأس.. بلهجة فيها من الأسى والأسف بقدر ما فيها من حزن لاح
على وجهه".
كتب بعد ذلك "سليمان حافظ" تفاصيل مغادرته القصر, وعودته
إلى مجلس الوزراء لتسليم الأمر الملكى بالتنازل عن العرش لرئيس الوزراء "على
ماهر" وذكر أنه نقل رجاء الملك ورغبته فى شأن "بوللى" و"محمد
حلمى حسين" وأن رئيس الوزراء قال له أن رجال الجيش لن يسلموا بها.
هل تستطيع أن تدلنى عن مكان وموقع "محمد نجيب" من
الأحداث فى هذه الوثيقة؟!.. أجب بما فهمت.. لكن الواضح أنه لم يتمكن من فتح الطريق
إلى القصر!! ويبقى التاريخ حيا.. وحكايات "أول رئيس لمصر" مستمرة..
يتبع
0 تعليقات