نصر القفاص
كتب "محمد نجيب" مذكراته – شهادته – بمنهج يقوم على قليل
من المعلومات, وكثير من الأوهام والأكاذيب.. لأن فرق الترويج لها ستجتزئ
"الأوهام والأكاذيب" وتتناولها فى تقارير صحفية ومقالات, ثم خلال برامج
تليفزيونية.. وبالتأكيد يتم منع كل من يحاول ذكر الحقيقة.. حتى أساتذة التاريخ
وشهود هذه المرحلة, كان يتم اغتيالهم معنويا بجهاز إعلام يسيطر عليه "خدم
الملكية والاستعمار" بعد رحيل "عبد الناصر"!!
الحقيقة فى حرب 1948 تؤكد أن الملك "فاروق" وقع قرار
مشاركة مصر فيها, وأصدر أوامره بتحرك الجيش باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة
يوم 13 مايو.. واندلعت الحرب بعدها بيومين.. والحقيقة أن "محمود فهمى
النقراشى" رئيس الوزراء آنذاك, كان يرى بعدم توريط الجيش فى هذه الحرب.. وأنه
من الأفضل التعامل مع عصابات الصهاينة, بمجموعات من المتطوعين والفدائيين.. وفعلا
تدفقت مجموعات من الشباب إلى فلسطين, قبل اتخاذ قرار الحرب.. كان أبرز هذه الفرق
البطل "أحمد عبد العزيز" الذى ترك الجيش وذهب بقيادة تشكيلات الشباب
الذى اختار المقاومة..
والحقيقة أن كل من "كمال الدين حسين" و"عبد المنعم
عبد الرؤف" فعلا الشىء نفسه..
استشهد "أحمد عبد العزيز" وعاد "كمال الدين
حسين" و"عبد المنعم عبد الرؤف" بعد ذلك لصفوف الجيش.. وحتى يوم 11
مايو كان "النقراشى" متمسكا برؤيته وموقفه.. لكنه فى يوم 12 مايو عام
1948 طلب عقد جلسة سرية للبرلمان, تحدث فيها عن ضرورة التصديق على دخول الجيش
المصرى حرب فلسطين.. فقد كان اللواء "محمد حيدر" قد أصدر تعليماته بتحرك
الجيش واجتياز الحدود لتحرير فلسطين تنفيذا لأوامر الملك.
تفاصيل هذه الأيام والشهور كثيرة وطويلة ومتشابكة.. وحين يتعرض لها
"أول رئيس لمصر" ما كان يجب أن يكتبها بهذه الخفة والسذاجة.. لكن ذلك ما
فعله "محمد نجيب" فى مذكراته.. وشاء أن تكون هذه الحرب, هى بطولاته
وشجاعته.. وعلى التوازى الطعن فى "عبد الناصر" وتشويهه!!
لكنه كتب واحدة من حكاياته المسلية فى شهادته.. دقق فيها واربط
بينها وبين حكاية ذكرها, قال فيها أنه كتب استقالته احتجاجا عن إهانة ملك مصر يوم
4 فبراير عام 1942.. وأن "عبد الله النجومى" كبير الياوران فى القصر
الملكى شرح له أسباب رفض جلالته لاستقالته!! فإذا به يعود للاسم ذاته – عبد الله
النجومى – بعد عودته من حرب فلسطين.. فيقول بالنص: "كان صديقى عبد الله
النجومى مريضا فرحت أزوره فى بيته بالمعادى بعد المغرب.. كنت أعرف أنه لا يستقبل
أحدا فى هذا الوقت ليتفرغ لصلاته حتى الفجر.. طرقت الباب وقلت للسفرجى: أعرف أننى
جئت فى وقت غير مناسب.. لكن ابلغ البيه أننى على الباب.. جاء الرجل بنفسه
ليستقبلنى.. جاء بعد ذلك عراف صديقى اسمه قاسم فاستقبله أيضا.. طلب العراف أن يقرأ
طالعى فقبلت!!
قرأ آيات من القرآن وكتب بعضها فى ورقة, ووضعها تحت الطربوش الذى
يرتديه على رأسه.. بعد دقائق قال لى: هيقولوا عليك دخل المولد وطلع من غير حمص!!
لا.. أنت هتاخد حمص وحمص وحمص.. هيقولوا مات 3 مرات.. مش هتموت.. أنت عمرك زى
القطط بسبع أرواح.. وفعلا نجوت من الموت ثلاث مرات, وحصلت على ثلاثة نياشين من
الحرب – هزيمة 1948 – "!!
انتهت الحكاية.. دعك من الهزل فيها.. دقق فقط فى علاقة "محمد
نجيب" بكبير الياوران فى القصر.. ودقق فى حديثه عنه أنه يعتكف للصلاة من بعد
المغرب حتى الفجر!! ودقق فى إيمان كليهما – كبار هذا الزمان – بالخرافة, دون خجل
من ذكر ذلك فى وثيقة – شهادة – "أول رئيس لمصر" وقل ما شئت.. المهم أن
تعلم أن كل هذه القصص المسلية لم تلق اهتماما ولا تركيزا من الذين استندوا لفقرات
من هذه المذكرات, والتى كانت تطعن الثورة وزعيمها وقائدها "عبد الناصر"
فقط.
يروى "محمد نجيب" فى مذكراته أن العد التنازلى للثورة
بدأ عام 1949.. دعك من هذه الحقيقة ومدى صدق ذلك من عدمه.. المهم أن نقرأ نص ما
ذكره لتأكيد ذلك.. فهو يقول: "فى أغسطس 1949 عينت مديرا لسلاح الحدود.. حمدت
الله أنني لم أنقل إلى قيادة الجيش, لأن ذلك معناه أنني يجب أن أكون قريبا من فساد
الملك ورجاله.. على العكس كان الفساد قريبا منى.. كانت رائحته على مرمى أنفى.. فقد
كان حسين سرى عامر وكيل السلاح, وكان وجوده عار على الجيش المصرى كله.. فقد ارتبط
اسمه أكثر من مرة بتهريب المخدرات, وبيع الأراضي بطرق غير مشروعة.. واتهم بشراء
الأسلحة المتخلفة – مخلفات – من الحرب العالمية الثانية فى الصحراء الغربية, وقام
ببيعها للجيش المصرى بأسعار خرافية.. خلاف اتهامات أخرى مثل سرقة ونهب أموال البدو
ومصوغات نسائهم.. وكان الملك يشترك شخصيا فى مثل هذه العمليات.. لكننى لم أعرف ذلك
إلا عام 1950, وقبل ذلك التاريخ كنت بدون فهم أبلغ الملك بهذه الانحرافات"!!
لم يذكر "محمد نجيب" كيف أبلغ الملك بهذه الانحرافات؟!!
لكنه أضاف فى مذكراته: "عام 1950 شكلت لجنة تحقيق فى
الانحرافات والمخالفات التى ارتكبت داخل الحدود, ووصلت إلى 600 جريمة.. كان أغلبها
من فعل حسين سرى عامر وانتهى التحقيق بإدانته.. وعندما رفعت نتيجة التحقيق إلى
إسماعيل شيرين – زوج فوزية أخت الملك – تمهيدا لرفعها للملك.. قال: الملك لن يفعل
أى شىء لأن حسين سرى عامر صديقه, وأنت ستكسب عداوته وعداوة الآخرين".
لم يذكر "محمد نجيب" جهة التحقيق.. لكن الإشارة إلى أنه
كان القائم عليها, تفهمها من سياق حكايته.. لم يوضح.. لماذا يرفع تقريرا بما ذكره
للملك مباشرة, عن طريق زوج أخته؟! وتطرح بقية الرواية أسئلة أخرى.. فهو يقول:
"أبلغته بإصرارى على رفع التقرير للملك. ففعل ذلك.. لكن الملك بدلا من أن
يعاقب حسين سرى عامر, على جرائمه.. طلب منى ترقية استثنائية له.. رفضت.. صعد الملك
الموقف, وأمر بترقيته استثنائيا وبتعيينه مديرا للسلاح بدلا منى".
دعنا من أن "محمد نجيب" كان يتعامل مع الملك من قناة لا
علاقة لها بالجيش.. ودعنا من صدق روايته التى لم يذكرها أحد غيره على الإطلاق..
المهم أنه رفض طلب الملك, وهو يقول: "صعد الملك الموقف" وهنا لا تملك
غير أن تضحك!!
وستضحك أكثر حين تقرأ بقية
الحكاية, بقلم كاتب المذكرات القائل: "قررت الاستقالة.. كتبتها فعلا.. لكن أصدقائي
الذين أثق فيهم أقنعوني بأن الاستقالة ستضاعف من انتصار الملك.. وطلب منى جمال عبد
الناصر وعبد الحكيم عامر التريث.. وقالا لى إنك فى حالة الاستقالة ستجعل تنظيم
الضباط الأحرار بلا غطاء.. لم أرغب فى مزيد من الجدل, فقررت قبول المنصب الجديد
الذى عرضه على حيدر باشا وهو مدير سلاح المشاة"!!
ما أملك القطع به أن تنظيم الضباط الأحرار لم يتم تفعيله والعمل
باسمه سوى فى نهاية عام 1951, وحتى هذا الوقت لم يكن "عبد الناصر" قد
التقى "محمد نجيب" وذلك فى ضوء كل ما ذكره المؤرخين الذين قرأت لهم..
وفى ضوء شهادات – مذكرات – كل من كتب عن التنظيم من رجاله.. ولك أن تلاحظ عدد
المرات التى كتب فيها "محمد نجيب" استقالته أو هدد بذلك, وأضف هذا العدد
لما سيأتى ذكره فيما بعد.. ولكن الأهم فى السؤال الذى يطرح نفسه..
كيف يتم تعيين عسكرى رفض أمرا للقائد الأعلى – الملك – مديرا لسلاح
آخر هو سلاح المشاة؟!
يمكنك أن تفكر فيما ذكره "محمد نجيب" لتجد تفسير لذلك..
فهو يقول: "بعد أيام سألنى حيدر باشا: هل قبلت المنصب الجديد؟! قلت: أنا غير
راض عنه!.. واقترحت عليه أن أكون مديرا للمخابرات.. فضحك وقال: أنت تعرف كما أعرف,
أن الملك لن يسمح لك بهذا المنصب.. لأنه للمقربين فقط, هو يعتبرك عدوا له.. قلت:
ولماذا لا أبقى فى سلاح الحدود؟! قال: أنت تعرف صلة حسين سرى عامر بالملك.. إنه
أقرب منى.. أنا لا أستطيع أن أقابل الملك بسهولة, لكن حسين سرى عامر يفعل ذلك يا
نجيب.. إسمعنى.. لا داعى للاستقالة لأنك ستدخل فى متاعب أكبر.. إقبل المنصب
الجديد, على الأقل لمدة شهرين.. وأعدك أن أتخلص من حسين سرى عامر قبل انتهاء المدة".
أرجوك.. لا تصدق أننى أنقل حرفيا من مذكرات "محمد نجيب"
واذهب لشراء نسخة من كتاب "كنت رئيسا لمصر" واكتب ما شئت.. لكن
"خدم الاستعمار والملكية" لن يفعلوا.. اتركهم وشأنهم.. تصور أن وزير
الحربية الذى تحداه من قبل "محمد نجيب" يسترضيه ليقبل المنصب.. وتصور أن
مدير سلاح الحدود المرفوض من الملك, والذى تمرد على الأمر الملكى يطلب أن يكون
مديرا للمخابرات.. وتصور أن وزير الحربية يترجاه فى قبول المنصب الجديد, حتى يتمكن
من التخلص من حسين سرى عامر خلال شهرين.. يمكنك أن تتصور ذلك!!
لكنك.. لا يمكن أن تتصور سر قبوله لمنصب مدير سلاح المشاة!!
يقول "محمد نجيب" بالنص.. أؤكد.. بالنص: "قبلت أن
أكون مديرا لسلاح المشاة, ليس من أجل خروج حيدر من ورطته.. إنما نزولا على رغبة
الضباط الأحرار.. وفى نفس الوقت كنت قلقا مما قاله حيدر عن عداوة فاروق لى.. هل
كان يعلم بصلتى بالضباط الأحرار؟! أم أن هناك سببا آخر وراء العداوة؟! تذكرت واقعة
جرت معى أنا والملك فى سلاح الحدود.. فى رأس الحكمة على شاطىء البحر المتوسط.. بين
الإسكندرية ومطروح, إتخذ الملك لنفسه قصرا صيفيا بناه من الخامات المسروقة, على
أرض مسروقة وبعمال لم يدفع أجورهم.. وعندما كنت مديرا لسلاح الحدود, أمرت بعدم
استخدام الجنود كخدم فى القصر, وطلبت من وزارة الحربية عدم بيع الأراضى المملوكة
للدولة.. لهذه الأسباب إعتبرنى الملك عدوا لهو وعين بدلا منى رجلا مثل حسين سرى
عامر لينفذ له رغباته.. ولهذه الأسباب كان الملك يصفنى بـ"دون كيشوت"
الذى يزحف إلى الهاوية"!!
صدق.. ويجب أن تصدق أن "أول رئيس لمصر" كتب ذلك فى
مذكراته..
صدق.. ويجب أن تصدق أنه كان رجلا ديمقراطيا وليبراليا.. وكذلك كان
الملك ووزير حربيته!! بدليل ما يرويه "محمد نجيب" على أنه وقائع وحقائق,
ليبرهن على ثوريته وقوته وشجاعته!! ولا داعى للضحك, لأن القادم أكثر إثارة!!..
يتبع
0 تعليقات