نصر القفاص
"وقع الصدام بين الإخوان والثورة, وقد حزنت لذلك جدا.. فقد
كنت أعرف أن الإخوان كانوا أول من ساعدوا عبد الناصر فى تنظيم الضباط الأحرار فى
فترة لم أكن قد عرفته.. وكان بينهم تاريخ طويل قبل الثورة"!!
قال ذلك بوضوح "محمد نجيب" فى مذكراته.. وهو الكلام نفسه
الذى كانت - ومازالت - الجماعة تعمل على ترويجه.. لكنك ستكتشف أن معلوماته على ما
يدعيه من معرفة, لا تتجاوز معرفة من يجيدون الثرثرة على المقاهى.. ثم الذين يجيدون
الثرثرة على "مقاهى العصر الحديث" فيما نسميه بمواقع "التواصل
الاجتماعى"!! لأن "أول رئيس لمصر" لم يذكر وقائع عاشها.. لكنه ينقل
دليله وبرهانه من كتاب "الإخوان والثورة" الذى سجل فيه "حسن
العشماوى" مذكراته.. وحين لا يعرف قائد ثورة أي معلومات, أو يملك رؤية لفهم
طبيعة هذا الصراع الذى بدأ منذ ما يقرب من مائة عام.. وهو صراع ممتد ومستمر حتى
هذه اللحظة.. فأنت أمام دليل دامغ على أن الرجل كان "جملة عابرة" فى
تاريخ مصر.
ستجد فى شهادة "أول رئيس لمصر" أنه لا يعرف الكثير عن
صدام ثورة 23 يوليو مع الأحزاب السياسية.. هو فقط يؤمن بأن الثورة انقلبت على
الديمقراطية" وأنها فتحت أبواب "تمكين العسكر" من حكم مصر.. هو
يقول ويكرر ويؤكد ذلك.. لذلك يقول بوضوح: "أدركت أن مصطفى النحاس سيظل زعيما
شعبيا مهما فعلنا به وبحزب الوفد وأحسست أننا نمشى فى الطريق العكسى
للديمقراطية" ولتأكيد رؤيته تلك سيمر بسرعة على حادث "كفر الدوار"
الذى وقع بعد شهر من قيام الثورة.. لكى يقول أن الثورة و"عبد الناصر"
كانوا ضد الشيوعيين لحساب الأمريكان!!
لم أختصر أو أبتسر ما جاء فى المذكرات.. فهذا بالضبط ما ذكره وكتبه
"أول رئيس لمصر" لكى يبدأ فى سرد حكايته "التحول إلى
الديكتاتورية" التى تبدأ من الفصل الثامن فى الكتاب.. ويبدأ هذا الفصل بقوله
نصا: "فى منتصف ليل 16 يناير وقعت مفاجأة أطاحت بأحلامي فى الديمقراطية..
أذاعوا باسمى الإعلان الدستورى, بصفتى القائد العام للقوات المسلحة ورئيس حركة
الجيش"!!
أضبط.. رئيس الوزراء - آنذاك - والقائد العام للقوات المسلحة, لا
يخجل من قول "أذاعوا باسمى" أى أنه كان لا حول له ولا قوة..
وفى البيان الذى
"أذاعوه باسمه" جاءت أسباب حل الأحزاب, ويذكر البيان: "كنا ننتظر
من الأحزاب أن تقدر مصلحة الوطن العليا.. فتقلع عن الأساليب المخزية التى أودت
بكيان البلاد ومزقت وحدتها.. كما فرقت شملها لمصلحة نفر قليل من محترفى السياسة,
وأدعياء الوطنية.. لكن على العكس من ذلك, اتضح لنا أن الشهوات الشخصية والمصالح
الحزبية التى أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد أن تسعى سعيها ثانية بالتفرقة, فى هذا
الوقت الخطير من تاريخ الوطن.. فلم يتورع بعض العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية,
وتدبر ما من شأنه الرجوع بالبلاد إلى حالة الفساد الأولى السابقة.. بل الفوضى
المؤسفة مستعينين بالمال والدسائس فى ظل الحرية, ونسى أولئك وهؤلاء أننا نقف
بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الخروج على إجماع الشعب أو العبث بمستقبله.. لذلك
أمرت باتخاذ أشد وأعنف التدابير ضد كل مارق أو خائن.. ولما كانت الأحزاب على
طريقها القديم, وبعقليتها الرجعية لا تمثل إلا الخطر الشديد على كيان البلاد
ومستقبلها, فإننى أعلن حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها لصالح الشعب,
بدلا من أن تنفق لبذر بذور الفتن والشقاق.. ولكى تنعم البلاد بالاستقرار والإنتاج..
أعلن عن فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات حتى نتمكن من إقامة حكم ديمقراطى دستورى سليم".
أتهم البيان الأحزاب بأنها تتآمر بوضوح.
كان البيان باسم "محمد نجيب" لكنه فى مذكراته يتبرأ منه
بقوله: "فوجئت أنهم أذاعوا البيان باسمى" دون تعليق على رفض مضمون
البيان.. دون توضيح لأسباب اختلافه معه.. بل أنه يكتب تفاصيل مؤتمر صحفى عقده مساء
يوم 17 يناير, وذكر نص ما قاله خلاله وجاء فيه على لسانه: "لقد أفسح الجيش
صدره للأحزاب, وكان ينتظر منها أن تحسن تقدير الموقف وأن تؤدى حق الوطن عليها..
لكنها استغلت سعة صدرنا أسوأ استغلال, وأرادت أن تحول نعمة الحرية إلى فوضى
حزبية.. فلم تتورع عن إنفاق أموالها فى الإغراء على الإضرابات.. لم تستنكف الدس
وتحقيق أغراض بعض الجهات الأجنبية.. كان واجبا علينا أن نحل تلك الأحزاب.. كان
لزاما علينا أن ننير الطريق أمام الشعب".
الرجل الذى تبرأ من البيان فى مذكراته.. نشر نص كلامه بلسانه فى
مؤتمر صحفى ليؤكد قناعته وإيمانه بكل كلمة تضمنها البيان.. بل ذهب إلى القول بأن
حل هذه الأحزاب كان واجبا, بعد أن أفسح لهم الجيش صدره.
هل نصدق "محمد نجيب" كاتب المذكرات؟! أم نصدق "محمد
نجيب" الذى تكلم بلسانه وقتها أمام الصحفيين؟! هنا لا تشغلنى محاولة البحث عن
إجابة.. فما يشغلنى هو أن أضع أمامك حقيقة "محمد نجيب" ودوره فى ثورة 23
يوليو.. و"محمد نجيب" ودوره بعد رحيل "عبد الناصر" بسنوات
طوال, لكى تفهم سر رفع "قميص محمد نجيب" هذه الأيام!!
فقط لنا أن نعرف أن الصحافة كانت تتمتع بحريتها, وكان يملك الصحف
وقتها ناشرون وأصحاب رؤوس أموال وصحفيون.. وأنهم لم يقبلوا الأمر ويمارسوا فضيلة
الصمت أو رذيلة الخوف.. بل أطلقوا نيرانهم ضد القرار وأصحابه.. وما يثير الضحك أن
"محمد نجيب" ذكر ذلك فى مذكراته, فكتب: "هاجمتنا بلا هوادة وبلا
رحمة كل الصحف بمختلف اتجاهاتها.. الوفد والإخوان والشيوعيون.. وغيرهم.. راحوا
يقللون من أهمية الثورة, ويشككون فى خطواتها.. ويدعون الناس لإسقاط من هم على
رأسها.. تحول كلام الصحف إلى مؤتمرات صغيرة لتحريك طلبة الجامعة.. تحريض العمال..
تهييج المصلين فى المساجد.. كان ذنبنا هو أننا طردنا الملك, ونحاول القضاء على
آثاره التى خلفها وراءه".
كل ما يهم "محمد نجيب" فى هذا المشهد وتلك الأحداث أن
صحافة الغرب وصفته بأنه "الديكتاتور العادل" أو "الديكتاتور
المهذب"!! وفيما يبدو أن الأوصاف أعجبته وراقت له, فراح يعبر عن ذلك لكى يعبر
منه إلى توجيه رصاصة طائشة نحو "عبد الناصر" حين كتب يقول: "لكونى
ديكتاتورا عادلا.. تعرضت للنقد الشديد من أولئك الذين يريدون ديكتاتورا حقيقيا.. كان
أولئك يحلمون بأتاتورك مصرى, وجاء عليهم وقت اعتقدوا فيه أن فاروق يمكن أن يلعب
هذا الدور.. إعتقدت أنا كذلك.. بعد الثورة توقعوا أن ألعب هذا الدور, لكنى خيبت
ظنهم, فاتجه تفكيرهم إلى جمال عبد الناصر ليقوم بهذا الدور.. ولا أعتقد أنه خيب
آمالهم"!!
أفضل تعليق على هذا التفكير هو أن تضحك.. فهذا "أول رئيس
لمصر" كتب مذكراته بعد أن عرف القاصى والدانى, أن "عبد الناصر"
أذاق الاستعمار والأمريكان كل ألوان المرار.. لكنه يكتب ذلك ليبرر للذين ساروا فى
ركب الأمريكان, أن "عبد الناصر" سبقهم.. أراد القول بأن أمريكا تملك
خيوط المنطقة وتلعب بها بمهارة, حتى بعد قيام ثورة 23 يوليو.. أى أن "أنور
السادات" الذى قال له: "أنت حر طليق" لم يفعل شيئا غريبا أو
جديدا.. ولا حتى "حسنى مبارك" الذى أعطاه شقة لكى يغادر "قصر زينب
الوكيل" بعد 13 سنة من نيل حريته.. هكذا فهمت المعنى ولكل أن يفهم ما يشاء!!
المعنى الواضح فى مذكرات "محمد نجيب" هو محاولة هدم ثورة
23 يوليو, وتشويه صورة أو تاريخ "جمال عبد الناصر" بطريقة قد تنجح!! لا
مانع من تحريك "خدم الملكية والاستعمار" وتحريك مذكرات من يقولون عنه
"قائد الثورة" والذين يتباكون عليه.. مع تدوير خطوط إنتاج أخرى منها هدم
إنجازات الثورة.. بداية من تأميم قناة السويس.. مرورا ببناء السد العالى, وليس
انتهاء بضرب كل إنجازات تصنيع مصر.. المهم أن يقتنع الجميع أن أمريكا تملك 99,9%
من أوراق اللعبة!! حتى لو حدث ذلك من طريق عكسى وساذج.. وحتى لو حدث ذلك بقول كل
شىء وعكسه, وهو منهج أمريكى أصيل!! لذلك لا يدهشك دفاع "محمد نجيب" عن
"يوسف صديق" بسذاجة مفرطة حين يقول: "كان يوسف صديق مع كل ما هو
دستورى, رغم أنه كان شيوعيا.. وبمناسبة شيوعية يوسف صديق.. أذكر أن جمال عبد
الناصر وقت أن كان مديرا لمكتبى.. كان يحذرنى منه ويقول لى: خذ حذرك لأن يوسف صديق
شيوعى كبير.. وأكثر من واحد فى مجلس القيادة قال لى: يوسف صديق شيوعى ويريد أن
ينحرف بالثورة.. ولم يكن هذا الكلام يؤثر عندى, خاصة وأننى أحترم حق كل إنسان فى
أفكاره وعقيدته.. وكنت أداعبه وأقول له مازحا كلما رأيته.. أهلا بالرفيق يوسف
ستالين"!!
يتحدث بعد ذلك "محمد نجيب" فى مذكراته عن "مهرجان
التحرير" وباعتباره محطة مهمة فى تاريخ الثورة.. أتوقف عند حديثه عنه, فهو
يقول: "كان المهرجان خلال الفترة من 23 يناير وحتى 26 يناير بمناسبة مرور ستة
أشهر على نجاح الثورة وبقائنا فى السلطة.. وقد أقيم الاحتفال فى ميدان الاسماعيلية
الذى جعلنا اسمه ميدان التحرير.. وفى هذا الاحتفال أعلنا قيام هيئة التحرير, لتحل
محل الأحزاب كجبهة قومية مهمتها تحضير الناس خلال فترة الانتقال لعودة الأحزاب على
أسس سليمة.. وأعلنا بيان قيام الهيئة الذى أوضح, أنها طريق للعمل المفتوح أمام المصريين
جميعا.. وذكر البيان أن فكرة العهد الماضى عن السياسة أنها مناورات وحيل ومغامرات
ومكاسب ومغانم.. أما فكرة العهد الجديد عن السياسة أنها عمل وإنتاج.. فكل مصرى
يعمل وينتج هو سياسى.. لأن الإنتاج يزيد الثروة الفردية والثروة القومية.. فإذا
زادت الثروة الفردية إنحلت الكثير من مشاكل افرد, وإذا زادت الثروة القومية إزداد
مركز مصر فى العالم تفوقا.. وعندما أقرأ هذا الكلام أشعر إلى أى مدى كانت سذاجتنا
فى تلك الأيام"!!
ثم يصل الأمر بأول رئيس لمصر أن يقول بالنص: "كل برامج
الحكومة والثورة وكل أحلام المستقبل.. وكل أماني الماضى.. باختصار.. كانت سمك..
لبن.. تمر هندى"!!
تلك هى الفكرة الرئيسية.. مطلوب غسل دماغ مصر.. أرضا وشعبا من ثورة
23 يوليو, ومسح اسم وصورة وإنجازات قائدها وزعيمها "جمال عبد الناصر" من
الذاكرة.. حتى ولو كان بالطعن عبر "جملة عابرة" يريدون إقناعنا بأنه كان
قائد الثورة.. وتستمر القراءة فى مذكراته..
يتبع
0 تعليقات