آخر الأخبار

هل أرضعت حليمة السعدية النبي (ص)؟ (2)

 

 





الدكور جواد كاظم نصر الله


وبعد ثويبة انتقلت رضاعة النبي (ص) إلى امرأة من بني سعد تسمى حليمة السعدية، التي أشارت الروايات أنها أرضعته سنتين، وبقي في ديار بني سعد لعدة سنوات، إلا إن الروايات قد تباينت في بيان كيفية أخذها للنبي (ص): وأشهرها إن حليمة قدمت مكة مع النسوة لالتماس الرضائع .

 

 

لقد أشارت إحدى روايات ابن إسحاق بنوع من التفصيل القصصي لقدوم حليمة مع مجموعة من النساء لالتماس الرضائع في مكة، وهذا نص روايته: ( حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم, كانت عند الحارث بن حاطب ، فكان يقال مولى الحارث بن حاطب، قال حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: حدثت عن حليمة ابنة الحارث أم رسول الله (ص)، التي أرضعته إنها قالت: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر, نلتمس بها الرضعاء, وفي سنة شهباء، فقدمت على أتان (أنثى الحمار) لي قمراء (بيضاء)، كانت أذمت بالركب، ومعي صبي لنا، وشارف لنا، والله ما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمت مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (ص) فإذا قيل إنه يتيم تركناه، وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الوليد، فأما أمه ما عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك، فذهبت فأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره!).

 

وجاء في رواية لابن سعد يرويها رواة من بني سعد: (( أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أخبرنا زكريا بن يحيى بن يزيد السعدي عن أبيه قال: قدم مكة عشر نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضاع فأصبن الرضاع كلهن إلا حليمة بنت عبد الله ابن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة، وكان معها زوجها الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن، ويكنى أبا ذؤيب، وولدها منه عبد الله بن الحارث ، وكانت ترضعه وأنيسة بنت الحارث وجذامة بنت الحارث وهي الشيماء ... فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تقول يتيم لا مال له، وما عسى أمه أن تفعل ...)).

 

الذي يمكن أن نسجله على الروايتين:

 

1 ـ هل إن قدوم النساء لطلب الرضائع عادة متبعة عند العرب عموما؟ وهل القدوم لمكة فقط أم لبعضها دون بعض أم لسائر الأماكن في الجزيرة؟ هذا مالم نجد له مصداقا على ارض الواقع ما خلا روايات إرضاع النبي (ص).

 

2 ـ أن حليمة اكتفت ببيان حالها المأساوي ولم تشر إلى حال باقي النسوة. ولكن إذا كان هكذا حال ديار بني سعد من الجدب حتى أن المرأة لا يبض ثدييها قطرة من اللبن فلماذا أعطاهم أهل مكة أطفالهم؟

 

3 ـ لم تشر الرواية إلى السبب الذي من أجله طُلب للنبي (ص)مرضعة؟

 

4 ـ أكدت الرواية على لسان حليمة أن هناك إصراراً على رفض إرضاع النبي (ص) من قبل كل النسوة بما فيهن حليمة لأنه يتيم: " فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (ص) فإذا قيل إنه يتيم تركناه، وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الوليد، فأما أمه ما عسى أن تصنع إلينا". وجاء في رواية ابن سعد " فعرض عليها [ حليمة ] رسول الله (ص) فجعلت تقول يتيم لا مال له، وما عسى أمه أن تفعل". فهل هنا الراوي جاهل بحقيقة عبد المطلب أم انه يتجاهل !

 فهو يتحدث عن أم النبي (ص) فقط!

 

ولأن أباه ميتُ فماذا عسى أن تنفعهم بالعطاء الذي عجزت كل الروايات أن تبين مقداره. ولذا لم يشر الراوي إلى عبد المطلب جهلا أو تجاهلا.

 

5 ـ تشير الرواية أن حليمة لم تأخذ النبي (ص) رغبة وإنما اضطرت إلى ذلك إذ لم تجد صبيا، ولكي لا تعود من بين صويحباتها اضطرت لأخذ النبي (ص) " فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى : والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك، فذهبت، فأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره ".

 

6 ـ تغلب على الرواية الألفاظ الإسلامية، مع أن الحادثة وقعت قبل بعثة النبي (ص)، منها: " والله ما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك"، و "فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (ص)" و " فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري" ، و " والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع" ، و" فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره".

 

7 ـ لم تصرح الرواية بأسماء النسوة الباقيات، ولا بأسماء الأطفال الذين أخذوا للإرضاع. ولم نقرأ ونسمع عنهن ولا عن أولئك الأطفال.

 

8 ـ لم نجد أحدا تحدث بأنه كان من ضمن الذين تربوا في ديار بني سعد مع النبي (ص) خاصة وان العلاقة مع النبي (ص) لها مكانة متميزة.

 

9 ـ لم تشر هذه الرواية وغيرها إلى طبيعة الاتفاق حول إرضاع النبي (ص) مدة وكلفة.

 

10 ـ يا ترى ما موقف آمنة وهي تفارق طفلها الوحيد لسنوات وهو في أيامه الأولى، لا سيما بعد فقدانها لزوجها وهما في ربيع عمرهما؟ فكيف تسنى لها مفارقة ولدها؟

 

11 ـ هل ما حصل هو أمر طبيعي أم حكمة إلهية؟ فان كان أمراً طبيعياً، فلماذا لا نجد له مصاديق لغير النبي (ص)؟ وان كان لحكمة إلهية فيا ترى ما الحكمة الإلهية من وراء ذلك؟

 

12 ـ أن الوقوف عند سند الرواية يلقي بظله على ما ذكر أعلاه، فرواية ابن اسحق تروى عن شخص لا يعرف عنه إلا الاسم، وهو جهم بن أبي الجهم، ثم انه سمع شخصا يحدث عن عبد الله بن جعفر، فمن هو هذا الشخص؟ ويأتي الدور لعبد الله بن جعفر، إذ يقول: حُدثت عن حليمة، فمن هو الذي حدثه؟ فالرواة مجاهيل.

 

أما رواية ابن سعد فيرويها عن الواقدي الذي بدوره يرويها عن شخص من بني سعد وهو زكرياء بن يحيى بن يزيد السعدي عن أبيه، ولما تصفحنا كتب التاريخ والرجال لنتعرف على وزن هذه الشخصية خابت آمالنا ولم تسعفنا تلك الكتب بأي إشارة عنه!

 

وعلى أية حال فأن الروايات وان اختلفت في كيفية استئجار مرضعة للنبي (ص) فإنها اتفقت على إن المرضعة هي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث من بني سعد بن بكر بن هوازن، وكانت متزوجة من الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر بن هوازن، وولدت له حذافة التي تسمى الشيماء، وأنيسة، وعبد الله، وبلبن عبد الله هذا أرضعت النبي (ص).

 

وبعد أن أخذت حليمة النبي (ص) اضطرارا تبين أن ذلك من مصلحتها، إذ أفاضت الرواية ببيان تلك الكرامات التي أسبغت على بيت حليمة من جراء أخذها للنبي (ص)، إذ تقول: " فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من اللبن فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله أني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري إلى ما بتنا به الليلة من الخير حتى أخذناه؟! فلم يزل الله يزيدنا خيراً، حتى خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله عز وجل أجدب منها، فإن كانت غنمي تسرح ثم تروح شباعاً، لبناً، فنحلب ما شئنا، وما حولنا احد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى أنهم ليقولون لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فيريحون أغنامهم جياعا، وما فيها قطرة لبن، وتروح غنمي شباعا، لبنا، نحلب ما شئنا فلن يزل الله عز وجل يرينا البركة، ونتعرفها حتى بلغ سنتيه".

 

فيما تشير رواية السعدي إن النساء بعد أن حصلن على الأطفال مضين وتركن حليمة في مكة، التي اضطرت للقبول بالأمر الواقع فأخذت النبي (ص)، " فخرج النسوة وخلفنها، فقالت حليمة لزوجها: ما ترى؟ قد خرج صواحبي وليس بمكة غلام يسترضع إلا هذا الغلام اليتيم، فلو إنا أخذناه، فاني اكره أن نرجع إلى بلادنا ولم نأخذ شيئا، فقال لها زوجها: خُذيه عسى الله أن يجعل لنا فيه خيرا، فجاءت إلى أمه فأخذته منها فوضعته في حجرها، فاقبل عليه ثدياها، حتى يقطرا لبنا، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي، وشرب أخوه، ولقد كان أخوه لا ينام من الغرث".

 

بل إن رواية السعدي أكدت إن إرضاع حليمة للنبي (ص) جاء بناءً على أمر صدر لأم النبي (ص) من جهة مجهولة، إذ روى إن آمنة قالت: قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل ذؤيب، قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الذي في حجري أبو ذؤيب، وهو زوجي، فطابت نفس حليمة، وسرت بكل ما سمعت، ثم خرجت به إلى منزلها". وأدركت صويحباتها في وادي السرر اللواتي حسدنها على ما نالت.



هل أرضعت حليمة السعدية النبي (ص)؟

إرسال تعليق

0 تعليقات