نصر القفاص
قبل نحو تسعين عاما.. طلب "إسماعيل صدقى" رئيس الوزراء - آنذاك -
من الدكتور "طه حسين" وكان عميدا لكلية آداب, أن يرأس تحرير جريدة "الشعب"
لسان حال حزبه "الشعب".. الذى "فبركه" ليكون ثانى "مستنقع
وطن" فى تاريخ مصر الحديث.. وكان الأول هو حزب "الاتحاد".. أما
الثالث فهو معلوم بالضرورة للكافة الآن!! رفض "طه حسين" وقال لا أرضى
لضميرى ولا لعلمى أن أدافع عن طغيان الملك "فؤاد" وحكومته.. بعدها بشهور
طلب "إسماعيل صدقى" من عميد كلية الآداب - طه حسين - منح الدكتوراه
الفخرية لأربعة من الساسة هم: "على ماهر" و"إبراهيم يحيى" و"عبد
العزيز فهمى" و"توفيق رفعت" فكان الرفض حاسما, ومشفوعا بسبب أعلنه:
"لن أسمح بتدخل وانتهاك استقلال الجامعة".. كان الثمن فادحا.. تم فصل "طه
حسين" ونقله - معاقبا - إلى وزارة المعارف يوم 3 مارس 1932.. رفض "عميد
الأدب العربى" التنفيذ, فتم إعلان قرار إحالته على المعاش يوم 29 مارس.. وتم
الإيعاز لعدد من النواب, بطلب تجديد فتح ملف كتاب "الشعر الجاهلى"!!
تسابق "أراجوزات" هذا الزمان, وتقدموا بأسئلة واتهامات تتضمن
تهما بقى بعضها جاهزا, وتجاوز الزمن بعضها.. إتهموه بإفساد الشباب وتشجيع الاختلاط
بين الجنسين, وتلك تهمة تجاوزها الزمن.. كما اتهموه بزعزعة الإيمان, وهى تهمة
مازالت قائمة.. ونشر الإلحاد بين الطلبة, وتلك تهمة مهجورة حاليا.. ثم تكدير السلم
العام, وهى تهمة خالدة.. وفى وسط هذه الظروف كتب "طه حسين" الجزء الأول
من "على هامش السيرة" ليؤكد انتصار قيمة حرية الفكر.. ولعلنا نعلم أنه
جلس فيما بعد على مقعد وزير المعارف - التعليم - الذى استخدموه فى هذا الصراع!! وكلنا
يعلم أن اسم وقيمة "طه حسين" بقيت ونسينا إسم "محمد حلمى عويس"
الذى كان وزيرا فى هذا الوقت.
ذلك تاريخ يشفى صدور طلبة وطالبات كلية الإعلام بجامعة القاهرة.. وهى حقائق
تعلمهم أن المستقبل سيختلف عن الحاضر.. حتى لو أحزنهم أو أزعجهم ما يتعرض له
الدكتور "أيمن منصور ندا" رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بالكلية, لمجرد
أن صرخ بقلمه رافضا إهانة وطنه بجعل "أراجوزات" نجوما للمجتمع!!
علمت الأزمة "طه حسين" أن يكون شجاعا أكثر.. جسورا أكثر.. حرا
أكثر.. فسقطت وزارة "إسماعيل صدقى" وكتب "طه حسين" بجريدة "الوادى"
يوم 30 ديسمبر عام 1934: "الظلم فى أوقات الأزمة والمحنة لا يمس إلا الذين
يأبون الضيم, ويرتفعون عن الصغار ويكرهون أن يعرضوا ضمائرهم ومبادئهم للبيع والشراء"!!
كنت أقرأ المقال ذاته.. فخشيت على "طه حسين" فى قبره.. ولو أنه
حى يرزق لتعرض لأبشع مما يتعرض له الدكتور "أيمن منصور ندا".. ففى فقرة
أخرى كتب: "أصبحت حياة الصحفيين هما ثقيلا, وتنغيصا متصلا.. وصراعا عميقا بين
آداء الواجب الذى لا يستطيع أن يتخلص منه الرجل الكريم.. وبين الإشفاق من هذا الشر
الثقيل الذى يفرضه الظالمون ويؤيدونه بالقوة والبطش, والذى تعجز القدرة الإنسانية
أحيانا عن احتماله والصبر عليه".. ولأن "عميد الأدب العربى" رحل عن
دنيانا, فقد تحللت من ذنب الوشاية به لو قبضوا عليه.. لأنه - أيضا - قال: "الطغاه
يعلمون حق العلم أن الشعب لهم كاره وعليهم ساخط.. وأنه لو خلى بينه وبينهم لما
أقاموا فى مناصبهم يوما أو بعض يوم.. وأن الصحف ستكون صورة صادقة لهذا البغض الذى اتفقت
عليه الكلمة.. ولهذا السخط الذى انعقد عليه الإجماع"!!
علمنا "طه حسين" أن فرض الصمت على أصحاب الرأى خطر شديد.. وأن
الذين يصفقون لمصادرة حرية الرأى, خسارتهم فادحة.. وأراد للذين يزعمون أنهم نواب
للشعب أن يقوموا بواجبهم.. فكتب فى جريدة "البلاغ" يوم 31 يوليو 1945
يقول: "ليعلم الشيوخ والنواب أنه ليس مما يشرف مصر, أن يتحدث عنها الناس فى
الخارج بأن كتابها ومفكريها يستدعون للسجن احتياطيا قبل أن تصدر عليهم الأحكام
لأنهم كتبوا ما لا يسر الحكومة أو يرضيها".. وقال فى المقال ذاته: "المصريون
مراقبون لا يجتمعون إلا إذا أذنت لهم الحكومة فى الاجتماع.. ولا يخطبون إلا إذا
أذنت لهم الحكومة فى الخطابة.. ولا يأمنون حين يكتبون إلا إذا رضيت الحكومة عما
يكتبون.. وما أحب أن أجادل النيابة فيما تدعو إليه من تحقيق, ولا فيما تقدم عليه
من حبس احتياطى, ولا فيما تفرض من كفالات مالية.. فالنيابة سلطة قضائية أمامها
قانون تنفذه كما ترى, وهى مسئولة أمام ضميرها وأمام القانون عن هذا التنفيذ.. إنما
أريد ومن حقى أن أريد لفت نظر المصريين إلى أن الله لم يخلق الحكومات لتأديب
المحكومين.. إنما خلقت لرعاية حقوقهم والقيام على مصالحهم, فهى خادم لا أكثر ولا
أقل.. وليس من حق الخادم أن يؤدب المخدوم.. إنما الحق عليه أن يطيعه وينفذ أمره
وينزل عند إرادته, ويتخلى عن عمله حين يريد الشعب"!!
عشرات السنوات دارت عجلتها, دون أن يتحرك الزمن.. فلو أن "طه حسين"
عاد وكتب ما سبق أن نشره لتعرض إلى ما لا يحمد عقباه.. وفى زمن "طه حسين"
كان الكاتب يرد على الكاتب بقلمه.. لم يحتم كاتب بقانون أو نيابة, لعجزه عن
الكتابة!! ولعلنا نذكر أن الأستاذ "عباس محمود العقاد" إقتادوه إلى
السجن حين قال: "إن حذائى هذا أولى بأكبر رأس فى هذا البلد, ما لم يحترم
الدستور"!! ولم يخرج عليه "أصحاب الفضيلة" من المؤدبين, وأصحاب
الخلق الرفيع ليطالبوا بقطع رقبته.. ونذكر أن "مكرم عبيد" أصدر "الكتاب
الأسود" وكله كان سبا وقذفا وتشهيرا برئيس الوزراء "مصطفى النحاس" دون
أن يتعرض لاستدعاء من النيابة أو حبس احتياطى.. ونعلم أن "نجيب سرور" كتب
ديوانا كاملا من السباب, يصعب أن أعيد نشر بعضه.. كما نعلم أن "مظفر النواب"
الشاعر العراقى الكبير, كتب قصيدة كلها سباب لكافة الرؤساء والملوك العرب بعد نكسة
1967 دون أن تستدعيه نيابة أو يتعرض للحبس الاحتياطى.. وإن كان "أحمد فؤاد
نجم" والشيخ "إمام" قد دخلا السجن, فذلك لأنهما كانا أصحاب موقف
سياسى.. وليس لكونهما قالا قولا خارجا لفظيا أو فيه سباب, رغم أن ذلك حدث!!
تلك قائمة يتصدرها الدكتور "طه حسين" وأخشى أن يتم القبض عليهم, لأن
ما فكروا فيه وكتبوه يعاقب عليه القانون.. ولا يمكن أن يقبل عقلى أو ترضى نفسى, ما
تعرض له الدكتور "أيمن منصور ندا" من إيقاف عن العمل واحتجاز لساعات, بعد
ساعات من التحقيق لمجرد أنه كتب ما لا يرضى "الأراجوزات".. ولا أظن أن
التاريخ سيرحم الصامتين ولا الشامتين فى أستاذ جامعى صاحب رأى.. وسيذكر التاريخ
رئيس جامعة القاهرة وعميدة كلية الإعلام وأساتذتها بكل أسف وأسى!!
0 تعليقات