نصر القفاص
يقول "محمود عوض" فى مقدمة كتابه "أفكار ضد
الرصاص" عن السلطة, أنها لها مقاييس خاصة.. فهى تعتبر الخوف صبر.. الجمود
عقل.. التطور جنون.. التجديد إلحاد.. الحرية كفر.. التفكير جريمة.. الضعف نعمة..
الجبن قيمة.. التمرد زندقة.. الاختلاف خيانة.. الظلام نور.. الظلم عدل.. الطغيان
قوة.. الإرهاب قانون.. الحاكم إله.. المرأة حيوان.. الشعب عبيد.. التاريخ أسطورة..
الماضى مقدس.. الحاضر مقبول.. المستقبل ملعون.
أين هى السلطة التى تقلب الخطأ إلى صواب؟! ولا تعتبر التفكير
جريمة؟!
ابحث عنها.. ستجدها وتعرفها.. ستلهث وتسابق لنفاقها, إن كنت تؤمن
أن الجبن قيمة.. ستلعن المجتمع كله طالما اعتقدت أن الحاكم إله.
كل ما يعنينى هو أن أفكر.. يهمنى المجاهرة بأننى أحتقر الجبناء..
وأؤمن بأنه لا إله ألا الله ومحمد رسول الله.. وذلك يدفعنى إلى مغادرة الاعتصام
بالصمت, لرغبتى فى أن أفهم معنى ما قاله الرئيس "عبد الفتاح السيسى"
لجريدة ألمانية مؤخرا.. أوضح فيه أن الدولة تعالج أخطاء سبعين عاما مضت.. ربما
لأننى كنت أسمع من الرئيس حديثه فيما سبق عن الثلاثين عاما الماضية.. ثم أصبحت بعد
فترة الثلاثين - أربعين عاما الماضية.. إلى أن أصبحت الخمسين عاما الماضية.. ومنذ
أكثر من عام أصبح الرئيس يتحدث عن السبعين عاما الماضية.. ثم وقف رئيس الوزراء
أمام الرئيس وجمع من المسئولين فى "الندوة التثقيفية" ليحدثنا عما قبل
23 يوليو 1952 وما بعده.. وفهمت منه - وقد أكون على خطأ - أنه شديد الإعجاب بزمن
ما قبل ثورة 23 يوليو.. تلك وجهة نظره ولها الاحترام.. لكننى أستحق الاحترام نفسه
عندما أعلن اختلافى مع الرئيس ورئيس الوزراء.. أملك من التاريخ ما يدعم وجهة
نظرى.. وقد يكون لديهما من التاريخ ما يزكى رؤيتهما.. الفيصل بيننا الحوار, وكل
منا يقول ما يعتقده بصراحة وهدوء ووضوح.. لن أطلب أن يحدث ذلك فى مناظرة تذيعها
وسائل إعلام, لأنه أمر مستحيل.. لكننى سأقول كلمتى عبر سحر صنعه العلم, وجعل
"الحرية" فيه فرض عين بإسقاط الوسائط المقيدة للحريات.. أقصد صفحتى على
"الفيسبوك".
لن أفتح كتب التاريخ لأعيد نشر أجزاء مما حدث قبل 23 يوليو.. ربما
لأننى قمت بذلك فعلا حين نشرت حلقات عن "الولد الذى حكم مصر" وهو اسم
الدلع الذى كان ينادى به "لامبسون" السفير البريطانى.. ملك مصر
"فاروق".. وفعلت حين قدمت قراءة فى "الأزهر.. أصل الحكاية"..
كما قدمت حكاية "الجيش المصرى" فى حلقات بعنوان "أهمية أن نقرأ يا
ناس".. وباعتبارى قارىء جيد للتاريخ, وأفهمه بقدر ما أعيش فيه استمتاعا
وجدلا.. أملك القطع بأن السبعين سنة الماضية تختلف عن ثلاثمائة سنة قبلها.. والفرق
بسيط هو أن وطننا يحكمه مصريون على مدى السبعين سنة.. وقبلها حكمنا عثمانيون
وانجليز, تحكم فينا المان وبلجيك وطليان وغيرهم من مختلف جنسيات الدنيا.. وعلى مدى
السبعين سنة الماضية نعيش انتصارات غير مسبوقة, وشهدنا انكسارات لا ينكرها أحد..
ولعلنا نتفق على أن "تأميم قناة السويس" كان من أعظم الانتصارات التي
اقترنت ببناء "السد العالى" كأعظم مشروع قومى بناه المصريون بسواعدهم..
وإذا كانت هزيمة 5 يونيو 1967 انكسارا, فبالتأكيد أن انتصارات 6 اكتوبر 1973 هى
الأهم فى تاريخ مصر الحديث.. ومهما اختلفنا حول توصيف ما حدث فى 25 يناير 2011,
فلا يستطيع أحدنا غير احترام الدستور الحالى الذى يسميه "ثورة" كما سمى
الذى حدث فى 30 يونيو 2013 كذلك بأنه "ثورة".
أتفق مع الرئيس على أن أى مسيرة فى عمر الأمم والشعوب, لابد وأن
تعتريها سلبيات.. وكل مسافة بالزمن فى عمر الدول, لا بد أن تكون فيها
"إيجابيات.. والبعض ما زال يردد أن "حرب اليمن" خسرت فيها مصر غطاء
الذهب, وهو كلام مرسل.. لا دليل ولا برهان عليه.. بل أن شهادات كافة المسئولين عن
تلك المرحلة تنفى ذلك.. ورغم ذلك يتم تكرار ترديده.. والحل فى رأيى أسهل مما
يتخيلون.. فنحن لدينا بنك مركزى, وذاكرته وبياناته تحفظ التفاصيل.. ويجوز أن يخرج
علينا محافظ البنك المركزى ببيان شامل.. حاسم.. قاطع.. حول تلك المسألة.. ولن
أتحدث عن حرب 5 يونيو, لأننا فى لحظة تاريخية لا تختلف عما سبق 5 يونيو.. فكلما
انطلقت مصر لتحقيق تنمية اقتصادية, يتم استدراجها لكمين أو حرب.. وتاريخ مصر يؤكد
أنها لم تذهب إلى حرب, بل كان يتم فرض الحروب عليها وهى لا تنسحب ولا ترفع
"الراية البيضاء" إذا كانت الحرب دفاعا عن شخصيتها التى وصفها ورسمها
"جمال حمدان".
أفهم أن تلعن جماعة "الإخوان الإرهابية" زمن ما بعد 23
يوليو 1952.. لكننى لا أفهم إطلاقا أن يحاضرنا لأكثر من ساعة رئيس الوزراء - مصطفى
مدبولى - لكى يقول أن مصر كانت جنة قبل 23 يوليو.. والمؤسف أنه قدم بيانات وأرقام
ومعلومات, يستطيع أى هاو ونصف قارىء للتاريخ أن يرد عليها ويؤكد له أن زمن ما قبل
23 يوليو كان مشروعه القومى هو "الشبشب الزنوبة" وبيانات الوزارات كانت
تقول: "ستعمل حكومتى على مكافحة الحفاء"!!
وللحقيقة كنت أستطيع
ممارسة "الثرثرة" و"السخرية" فى مجالس خاصة كما أتابع.. لكننى
أخشى أن يتحول تزوير تاريخ مصر إلى منهج يتعاطاه بعض المسئولين, فيتمنوا عودة
الملكية.. وقد بدأت أسمعها.. ويتمنوا عودة الاستعمار.. وبكيت حين ناقشت البعض,
وكانوا يرددون أن الاستعمار أفضل مما نعيشه!!
إذا كنا سنقرأ التاريخ من داخل القصور.. فيجوز القول أن مصر كانت
جنة قبل 23 يوليو, وأترك لكم رواية "القاهرة الجديدة" للأستاذ
"نجيب محفوظ" لترد عليكم.. وإن كنا سنقرأ التاريخ من الشارع, وعبر تجارب
الشعوب وإرادتها.. فهذا يؤكد على أن "زمن العزة والكرامة" يشتاق إليه
شعبنا, الذى ذاق "البيتزا" وشرب "البيبسى" وارتدى
"المستورد" لسنوات.. فلم يحصد غير فقرا.. ولعل آذاننا تخرقها رغبة الناس
فى استعادة مصر الصناعية ومصر الزراعية.. مصر التى تنتج أكثر مما تستهلك.. ويكفى
السبعين سنة الماضية أنها أعادت لمصر جيشها برجاله ليصبح درعا وسيفا للشعب.. ويكفى
السبعين سنة الماضية أن رئيسها وكافة مسئوليها ومثقفيها, هم أبناء هذه السنوات
السبعين بما لها وما عليها.. وذلك يجعلنى أتذكر الأستاذ "عبد الرحمن
الشرقاوى" الذى عاتب خصومه من اليسار قائلا: لا تبصقوا لأعلى"!!
0 تعليقات