محمد دوير
يبدو أن الفرص تتضاءل والزمن يسير نحو معادلة صفرية في اتجاه خسارة
الجميع، وسنضع هنا مجموعة من الملاحظات التي تعكس رؤي وأرقام ودلالات..لكي نؤكد
علي شيء واحد فقط هو أن السد الأثيوبي دخل ضمن مصفوفة لعبة الأمم :
1- تري أثيوبيا أن مفهوم السيادة ينطبق أيضا علي المياه.وترفض أي
اتفاق ملزم وما تفعله من مماطلة هي عملية متعمدة، وتري أن الاتفاقيات السابقة تمت
في المرحلة الاستعمارية ، وأن فكرة توزيع الحصص المائية غير ملزمة بها، وأن كل
المياة التي تسقط علي أراضيها من حقها منفردة ( وهذا تحول مهم في طريقة فهم الحقوق
القانونية المترتبة علي الأنهار العابرة، ويحتاج الي ميثاق جديد قد يطال أيضا
أنهار كثيرة في العالم ).
2- عند افتتاح السد العالي عام 69 خطب هيلاسلاسي في الشعب الأثيوبي
قائلا: سوف تبني أثويبا سدا سيعتبر أكبر خزان مائي في أفريقيا ، وسيؤدي الي تجفيف
نهر النيل ( وهذا يتفق مع الكلام الأثيوبي الأخير عن أن النيل هو بحيرة أثيوبية
وليس نهرا، وأن مساره الطبيعي ليس سوي هدر مائي يجب ضبطه ). وعلي نفس السياق وفي
عام 1996 في مؤتمر علمي عن النيل عقد في أديس أبابا قُدمت ورقة علمية تقول أنه
بإمكان أثيوبيا بيع المياه كما يبيع العرب البترول.
3- أثيوبيا تمتلك حوالي 11 نهر، و حوالي 40 بحيرة داخلية عذبة،
بمعني أنها ليس لديها فقر مائي بقدر ما لديها غياب تخطيط زراعي بسبب غياب السياسات
وأيضا بسبب طبيعة الأرض التي لا تسمح باستزراع مساحات كبيرة بدون تكلفة
عالية.ويسقط علي أراضيها حوالي 950 مليار متر مكعب مياه، منهم حوالي 450 مليار متر
مكعب في النيل الأزرق، تستفيد مصر والسودان منهم بحوالي 73 مليار متر مكعب فقط.(
بافتراض تعديل الاتفاقيات الاستعمارية كما تقول أثيوبيا ، فما هي المعايير التي
يتم بناء عليها التوزيع العادل ؟ مؤكد سيراعي التوزيع عدد السكان ومعدلات الفقر
المائي، ومصر رغم ما تحصل عليه الآن لديها فقر مائي ).
4- أثيوبيا استحدثت مؤخرا طرقا جديدة في " استمطار صناعي
" لزيادة معدلات الأمطار التي تهبط عليها، وهو ما يؤكد أن الأمر أكبر من مجرد
توليد الكهرباء، وأكبر من احتياجاتها، وأكبر من مقولة النزعة الاستعمارية، بل هو
مشروع عالمي يهدف الي تغيير خريطة المياة وتغيير ثقافة التعامل مع المياة باعتبارها
سلعة مشاعية عالمية.
5- تواجه أثيوبيا التهديد بالحرب بتهديد مقابل، فتقول أن السد
العالي تحت أنظارنا أيضا، فضرب سد النهضة سيواجه بضرب السد العالي.وهي لغة منطقية
قياسا بتصورنا الشخصي عن وجود لاعبيين آخرين في اللعبة.
6- المجتمع الدولي يبحث عن حل سلمي.. حكومة بايدن تدرس تكليف مبعوث
دائم للقرن الأفريقي ، وهو ما يوحي بأن المشكلة ستستمر لفترة طويلة..حكومة روسيا
دخلت علي الخط لاعتبارات عديدة، أهمها أنها ستكون مستفيدة في حالتي الحرب والسلم،
وفي الوقت نفسه مناكفة لأمريكا وفرصة للتدخل في القرن الإفريقي..الاتحاد الإفريقي
يبدو أنه غير قادر أو غير راغب في حسم الموقف، لأسباب لها علاقة بمستقبل السد
والاستفادة منه.
7- أثيوبيا تعاني مشكلات داخلية عديدة، ( صراع جبهوي- احتراب داخلي
– هشاشة نظام سياسي ) والسد الإثيوبي يمثل بالنسبة لهم – بخلاف مستقبله الاقتصادي
– قوة تماسك سياسية عبر توليد نزعة شعبوية يحتاجها نظام أبي أحمد في صراعه السياسي.
8- أثيوبيا غير مجبرة علي قبول أية تنازلات ، والتنازلات التي
تطلبها مصر والسودان( طريقة ملء السد وسنواتها وبناء فتحات بجانب التوربينات لتجنب
مخاطر عطل التوربيات ...الخ ) لن تؤثر علي مبدأ بناء السد، بل ستؤخر التشغيل عدة
سنوات قليلة فقط، ورغم ذلك ترفض اثيوبيا تماما، لأن الفكرة عندها هي أنها ترفض
تماما نظرية إملاء الشروط من دولة – تقصد مصر – ظلت مهيمنة علي السد طوال مائة
عام.. ( وفكرة الهيمنة هذه تحتاج الي إعادة نظر ومناقشة ).
9- الخطاب الإعلامي الأثيوبي يحاول حتي اللحظة اللعب علي عدة أوراق
خطيرة لضرب العلاقة بين مصر والسودان وإعادة فتح ملف النوبة.. يقول خطابهم الإعلامي
أن السد العالي دمر 24 قرية سودانية مستشهدين بكلام لفهمي هويدي.. وأن السد العالي
دمر حضارة النوبة وأثاراها...وأن أثيوبيا ستصدر الكهرباء الي السودان بأسعار رخيصة
جدا جدا ... الخ ، مما يعني أن الإثيوبيين يفهمون جيدا ماذا يفعلون.. وأن السد ليس
مجرد حاجز مائي لتوليد الكهرباء.
10- أما الحديث عن الموقف المصري مع هذا الملف منذ البداية،
فالمؤكد أنه يسعي لتجنب التدخل العسكري، وأنا شخصيا أراه غير مفيد علي الإطلاق..
ومنذ البداية أكدت علي أن حل تلك الأزمة لن يتم دون تدخل أصحاب المصالح الدوليين
في دعم السد اقتصاديا وسياسيا..علينا أن نبحث عن الأطراف الخفية – وأنا مُصر علي
هذا التفسير – لنتفاوض معها..فالسد حقيقة، وتنمية أثيوبيا قضية ضرورية جدا، ولكن
مسار السد يجب أن يسير في اتجاه واحد فقط وهو التنمية. وعلي الإثيوبيين أن يخرجوا
سدهم هذا من لعبة الأمم..
0 تعليقات