أحــمـــد الــخـمــيــســي
تعرفت إلى حكاية هذا الرجل عن طريق حفيده. رجل لم يقم بشيء خاص أو معروف
سوى أنه ترجم نفسه من اللغة العربية إلى إحدى لغات الشمال البارد.
فعل ذلك طويلا، يوميا، على مدى سنوات منذ أن هاجر إلى الخارج وعاش وتزوج
وأنجب هناك، ولم يعد خلال تلك السنوات الطويلة إلى موطنه ولو فى زيارة عابرة. لم
تكن ثمت جالية كبيرة من موطنه أو حتى جالية عربية، فلم ينطق لغة بلاده، وبدلًا من "أحبك"
كان يقول لقرينته جملة أخرى بنفس المعنى لكن بلغة أخرى. وبدلاً من "مرحباً"
كان يلفظ كلمة أخرى حين يلتقي بجاره الأجنبي كل صباح في المصعد.
ترجم الرجل المعانى إلا أن شوقًا
قاتًلا توحش بداخله للإنصات إلى لغته الأصلية، إلي طبولها ورنينها وسينها وصادها
وعينها وغينها. كان يتوق للاستماع إلى لغته ولم يكن هناك من يتحدث إليه أو من ينطقها
لأجله، فكان عليه أن يقتطع لغته من نفسه ليطعم بها نفسه ويصبح القبلة والفم والصوت
والأذن!
صار يخرج كل ليلة إلى الغابات الشاسعة الباردة المترامية خلف بيته. يمشي
وحيدا فى حذاء شتوي برقبة طويلة. يخوض فى الثلوج وفي الريح صارخا فى الليل بكلماته
العربية فيرجع إليه الصدى بما تبقى منها. ينصت إلى الصدى بعطش ونهم ثم يبعث
بتحياته بأعلى صوته إلى إخوته، فيعود الصدى ببقايا أسمائهم. تنتعش في نفسه ذكرى
جولاته القديمة في أنحاء مدينته فيهتف بأسماء الأصدقاء، وحينما يوغل الليل ويشتد
البرد يقفل راجعا إلى بيته منهكا مرتعشا، يعلق معطفه على المشجب وينثر من عليه ندى
الليل، ويبدأ ثانية في ترجمة نفسه وهو يركب الترام، وهو يشتري الصحف، وداخل المصعد.
ليلة بعد ليلة وعامًا بعد عام، ترجم الرجل كريات دمه البيضاء والحمراء إلى
أخرى من نوع آخر، وعندما قارب الخمسين من عمره كانت ملامح وجهه قد انمحت، ولم يبق
منه سوى ساقين وقدمين تخوضان في الصقيع كل ليلة، تندفعان إلي الأمام تفتشان فى ظلال
الغابات الشاسعة وفي الندى والصمت عن روح عزيزة ضائعة.
من مجموعة " ورد الجليد" 2019
0 تعليقات