شريف السركي
من سنوات طويلة ، وجدت نفسي متحمس جدا لتاريخ وفكر وثقافة ومعتقدات
بلدنا. وده أخدني لطريق عدائي مع أي حاجة شكلها دخيل عليهم أتفرض على أجدادنا
كبديل لأصولنا.
من ضمن الحاجات اللي أصبحت في مرمى النيران اسم بلدنا
"مصر".
كان الاعتقاد السائد وقتها إن اسم مصر مش بتاعنا وإنه إما إنه عربي
أو عبري في الأصل بحكم ذكره في التناخ والقرآن.
طبعا شاركني في التوجه ده عدد كبير من أبناء بلدي المتحمسين جدا
لموروث أجدادنا والراغبين في استعادة حضارتنا.
لكني بعد فترة اكتشفت إن اسم "مصر" زيه زي أعداد هائلة
من المفردات اللغوية في العالم ... أصله مصري برضه.
أقدم إشارة تاريخية للاسم موجودة في رسائل العمارنة اللي كانت بين
ملوكنا العظماء في الأسرة 18 خاصة أمنحتب التالت والرابع وبين ملوك المنطقة في
الأمم الثانية وحكام الأقاليم الخاضعة للحكم المصري وغيرهم.
اللي يهمنا هنا إن الخطابات اللي بعتها الملك أمنحتب التالت مثلا
كان بيصف نفسه فيها ، باللغة الأكادية اللي كانت اللغة الدولية ، على إنه ملك
"مصر".
بالتالي فده اسم ارتضاه أجدادنا لأنفسهم مش مفروض عليهم لأن زمن
الملك أمنحتب التالت ماكانش حد في العالم يقدر يفرض حاجة على مصر اللي كانت الدولة
العظمى وقتها.
...
المعنى اللغوي
لغويا ، في اللغة المصرية القديمة .. المعنى العميق لاسم مصر هو :
- الأمة صاحبة الوطن
- اللي له حدود معروفة
- و لها كينونة خاصة سائدة في أفرادها
- بحيث يكون تشابههم أكبر من اختلافاتهم
- في وجود قيادة مركزية تقودهم وترعاهم
...
المكونات اللغوية
المكونات اللغوية المصرية لاسم مصر هي :
مي = علامة سطل اللبن بتدل على حالة التماثل التام في الظاهر
والباطن والرغبة في الاستمرار في الانتماء والانضواء التماثلي ..
معروف إن اللبن بيعكره أي دخيل بلون غير لونه. ولسه بنقول صافي
يالبن ... حليب ياقشطة.
س = الكينونة : الموروث المنقول + المكتسب المقبول .. الكينونة
معناها إنتا إيه بالظبط .. شكلك إيه .. بتتكلم أزاي .. توجهاتك إيه .. بتآكل إيه
وتشرب إيه .. بتسكن في إيه .. ويتعمل الحاجات أزاي. لما الناس يبقوا زي بعض في
الحاجات دي يبقوا أمة لها كينونة.
ر = الرية : الإكانة والتفعيل للمفهوم كنتيجة للعناصر السابقة .. وجود
الراء في نهاية الكلمة معناه إن التماثلية والكينونة بيقيموا الأمة الواحدة. يعني
كدة تنشأ رغبة الجميع في ترسيخ مايجمعهم في طبيعة مشتركة بمكان محدد تحت قيادة
واحدة.
وفي الحقيقة ال"مصر" تعبير لا يقتصر على البشر ..
فالحيوانات ممكن تكون أمصار خاصة بيها .. يعني قطعان مستقرة بمكان محدد ...
متشابهين جدا وتجمعهم رغبة مشتركة دائمة في الانتماء لكيان كبير يضمهم كلهم في
مكان يخصهم.
...
التطبيق العالمي لكلمة مصر
لما كانت مصرنا هيا أول مصر في التاريخ الإنساني .. فكل أمة ناشئة
من جماعة إنسانية متشابهين جدا وقاعدين في مكان محدد تحت إدارة وقيادة واحدة ..
أصبحوا تاريخيا بيشكلوا نسخة من مصر ... يعني مصر جديد من الأمصار .. يعني اسم
بلدنا تحول تاريخيا لوصف لكل الحالات المشابهة.
لاحظ تعبير تمصير الأمصار زمن الخلفاء الراشدين ومعناه إن مبعوث
الخليفة أسكن الناس ووضع لهم حدود وولف بينهم وتأكده من تفعيل الأعراف اللي
بيتبعوها كلهم وعين عليهم قيادة وأكد على تخطيط بلدهم الداخلي وطبيعتها. ده بالظبط
اللي كان مقصود ب"مصر" في لغة أجدادنا.
ومصر وردت في القرآن الكريم بالمعنيين : المعنى الخاص يعني بلدنا
.. والمعنى العام يعني أي بلد ..
المعنى الخاص كما في سورة يوسف : وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ
مِصْرَ
المعنى العام في سورة البقرة : اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ
مَا سَأَلْتُمْ
...
خلود الأصول المصرية
في الحقيقة اسم بلدنا "مصر" مش حالة فريدة ولا حاجة ...
المسألة دي متكررة جدا في الموروث المصري كله ... كل حاجة تطلع من بلدنا لوصف شئ
يخصنا .. تحولت بالتدريج إلى تعريف يخص الشئ ده في العالم كله.
يعني مثلا كلمة إل الكنعانية اللي معناها إله أصلها من مصر
"إر". الأصل المصري عام و بيعبر عن أي كائن يكتسب صفات الإلوهية. لكن
الكنعانيين ربطوه بكبير آلهتهم. بس التاريخ أعاد التطبيق الأصلي من جديد بالتعميم
على أي إله كما كان الحال في مصر. شوف حديث أبوبكر الصديق عن كلام مسيلمة الكداب
لما قال عن كلام مسيلمة إنه لا يخرج عن "إل" يعني إله.
مصر هي أصل كل الأصول في كل حاجة في العالم إلا اللي جد زمنيا بسبب
بسبب الاختلافات البيئية والجينية في الشعوب لاحقا.
مسألة إن كلمة "مصر" تدل على بلدنا وبرضه أي بلد
"تتمصر" عملت ربكة كبيرة لكتاب معاصرين كتير من محدودي الرؤية اللي
ماعندهمش خلفية لغوية مناسبة في اللغة المصرية ورغم كدة تصدروا لتفسير أمور تخص
مصر بمنتهى الحماقة. فمن الطبيعي جدا إننا نلاقي بلاد إسمها مصر في أماكن مختلفة
من العالم .. لأنها سارت على نفس طريق مصر الأصلية لكن أهلها ماعرفوش يصلوا لاسم
يمثلها بدقة فإكتفوا بوصفها بالمصر .. تماما زي الإشارة إلى إله أمة بالإله بس أو
رئيسها ب"الريس" مثلا أو أم كلثوم ب"الست".
...
مصر والقياسات والمعايير
كلمة "مصر" مرتبطة بكلمة "measure" ومعنى المازورة اللي بيقيس بيها
الترزي أو مازورة النوتة الموسيقية ... يعني المعايرة والقياس .. تماما زي كلمة
"نتر" ما إرتبطت بكلمة "nature" .. كل شئ بيتولد في مصر.
النهاردة تسأل العالم في المجالات الحيوية إيه السبب في تطور
الحيوان ده يقول لك nature بدل مايقول ربنا لأنهم
بيتجنبوا تداخل الدين والعلم الطبيعي ..
اسم بلدنا مرتبط جدا بالنتر الإله "آزر/أوزوريس" اللي هو
المعايير والمواصفات الصحيحة لكل حاجة. آزر معناه الفرض الصارم للصواب كآلية تسيير
للحياة .. الصواب في الأخلاق ، يعني الفضيلة ، وفي كل حاجة .. العلم والعمل
والتوجهات. الأمة اللي تمتلك الحاجات دي تبقى مصر .. لأن أمورها محددة مش عشوائية ارتجالية.
...
التاج الأبيض
أهم تاجين عند ملك مصر طوال تاريخها كانوا التاج الأبيض والأحمر
وكانوا بيتركبوا على بعض .. ارتداء التاج فوق رأس الملك بيحمل قيمة رمزية ويفكره
بالله تعالى .. لأن الله هو الأعلى، العالي ، المتعالي. ومهما عملت فربنا فوقك
ولازم تتبعه. ولسه بنقول لتكريم الغير : أنتا على راسي من فوق.
إسم "الله" تعالى نفسه نشأ في مصر ومعناه مرتبط بالسمو
والعلو والهيمنة والإحتواء لكل شئ. وطبعا بالسماء.
الأجانب بضحالتهم اعتقدوا إن الأحمر تاج الدلتا والأبيض تاج
الصعيد. ربما كان الفكر ده متعمد لترسيخ مفهوم إن بلدنا تميل إلى إنها تكون بلدين
مختلفين.
لكن الحقيقة كون آزر، اللي كان نتر/إله كل المصريين وأحد أهم آلاء
الله ، عمره ما لبس التاج الأحمر لازم ينبهنا إنه فيه حاجة غلط في التفسير ده.
التاج الأبيض اسمه "حجة" ومعناها الأبيض وده مرتبط بالطهر اللي بيقوم
على الإصرار على الصواب الساكن في وجدان الأمة.
التاج الأحمر طالع منه فرع معووج اسمه الغابة يعني المعووج ..
وكلمة الغابة الحالية في العربي بتشير للتداخل بين أغصان أشجارها بسبب اعوجاجها.
ولونه الأحمر بيرتبط بالخروج عن المألوف والمعتاد نتيجة الاحتكاك بالفكر والتوجهات
الوافدة. وده تاج النترة/الإلهة العظيمة "نت" اللي بتدفع الخلق الجديد
عن طريق الارتباط بين المختلفين.
التاج الأبيض له اسم تاني مهم : المسوة .. بمعنى التماثل لدرجة
التطابق وده بيشير للمنشأ اللغوي لاسم مصر برضه .. الأمة المراعية للمرجعيات
السائدة على كل شئ فيها.
0 تعليقات