محمود جابر
مدينة النجف واحدة من العواصم الإسلامية الكبيرة، والتى يقصدها
المسلمين فى كل وقت وحين، طلبا للزيارة والتبرك بقبر سيد الأوصياء سيدنا الإمام
على بن أبى طالب، ابن عم النبى وزوج الزهراء وأبو الحسنين وفارس الإسلام
وفيلسوفه...
وبين وقت وآخر يطالعنا من يشكك فى القبر والضريح وصاحبه ... يسوق
من الاثر والكتب ما يكذب الواقع والعقل والحقيقة، والمنطق لا لشىء الا لهوى النفس
الذى قد يلبس ثوب التحقيق أو العلمية او التاريخية، وهو ليس من هذا ويربطه به نسبا
ولا صهرا..
وقبل الولوج إلى البحث فى الضريح وصاحبه، سوف نتحدث عن مدينة النجف
تاريخيا ...
ومدينة النجف لم تكن من المدن الشهيرة قبل الإسلام، بيد أن الجيوش الإسلامية
خاضت معارك عسكرية كبيرة للسيطرة على ارض العراق عامة والنجف خاصة وقد خاض هذه
المعارك خالد بن الوليد الذى بدأ معاركة من البصرة وانتهاء إلى مدينة الحيرة
واعتبرت معارك عسكرية حاسمة حقق خلالها العرب المسلمون انتصارات ساحقة، وهي معارك
تحرير الأبلة([1]) ،
وموقعة المذار([2]) ،
وموقعة أليس([3]) ،
وأمغيشيا([4])
، وعقب هذه الانتصارات الكبيرة وانهيار الجيوش الفارسية بصورة غير متوقعة أمام
الزحف الإسلامي أصبح الطريق مفتوحاً نحو الحيرة.
وبعد أن تم لخالد بن الوليد عام (12هـ) فتح المنطقة الممتدة من
الغري إلى الحيرة عاد إلى معسكره بين الغري ومنها ما يلي عين التمر([5])
، وبعد الانتصار الحاسم الذي حققه المسلمون في معركة القادسية لاحقت الجيوش
العربية الإسلامية فلول الفرس المنهزمة إلى المدائن([6])
، أصبحت منطقة النجف ضمن المناطق التي خضعت للحكم العربي الإسلامي.
لذا كتب سعد ابن أبي وقاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب بما فتح الله
على المسلمين، فكتب إليه الخليفة عمر ((إن قف ولا تطلبوا غير ذلك)) فكتب إليه سعد
أيضاً ((إنما هي سربة أدركناها والأرض بين أيدينا)) فكتب إليه الخليفة عمر ((ألا
قف مكانك ولا تتبعهم، وأتخذ للمسلمين دار هجرة ومنزلاً ولا تجعل بيني وبين
المسلمين بحراً))([7]) .
من هنا جاء تمصير الكوفة واتخاذها مقراً ([8])
، والنجف هي ظهر الكوفة ولسانها كما تشير إلى ذلك العديد من الروايات([9])
، ونلمس هذا الأمر أيضاً في إشارة بعض المؤرخين التي تذكر قبر الإمام علي (ع) في
منطقة ظهر الكوفة فما أورده إبن عساكر إنه ((خرج به ليلاً، خرج به الحسن والحسين
وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وعدة من أهل بيتهم ودفن بظاهر الكوفة))([10])
.
وهناك عدد غير قليل من
الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) تذكر هذه المنطقة وخصوصاً في تحديد قبر الإمام
علي (ع) بعد أن أخفي زمناً ليس بالقصير فعن صفوان الجمال قال خرجت أنا وصاحب لي من
الكوفة ودخلنا على جعفر بن محمد (ع) فسألناه عن قبر أمير المؤمنين (ع) فقال ((هو
عندكم بظهر الكوفة))([11])
.
ولم يزل مكان القبر الشريف في النجف سراً لم يطلع عليه إلاّ أهل
البيت والخواص من شيعتهم, اقتداءً بوصية أمير المؤمنين عليه السلام من سنة أربعين
من الهجرة وحتى سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية في عام 132هـ/749م.
وبعد زوال الخوف والحذر أظهر الإمام جعفر الصادق القبر الشريف ودلَّ عليه شيعته
وأمرهم بزيارته عندما ورد العراق بطلب من الخليفة الأول لبني العباس أبي العباس
السفاح, إذ التقاه في الحيرة, وبنى الإمام الصادق عليه السلام على القبر دكّة
للدلالة عليه.
قال الشيخ المفيد بهذا الصدد: (فلم يزل قبره عليه السلام مُخفىً
حتى دَلَّ عليه الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام في الدولة العباسية) ([12])
. روى إسحاق بن جرير عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام انه قال: ((إنيّ لما كنت
بالحيرة عند أبي العباس, كنت آتي قبر أمير المؤمنين عليه السلام ليلاً, وهو بناحية
نجف الحيرة، الى جانب غري النعمان, فأصلي عنده صلاة الليل وأنصرف قبل الفجر)) ([13])
.
وقد تعددت زيارات الإمام الصادق عليه السلام لقبر جده سيد الأوصياء
صلوات الله عليه في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور, وفي إحدى هذه الزيارات
أعطى الإمام عليه السلام صفوان الجمال مبلغاً من المال لإصلاح القبر. قال صفوان:
(قلتُ: يا سيدي: أتأذن أن اخبر أصحابنا من أهل الكوفة به؟ قال نعم, وأعطاني دراهم,
وأصلحتُ القبر) ([14]) .
من هنا نستطيع أن نتلمس الأهمية التي أصبحت عليها منطقة النجف
خصوصاً بعد اختيار الإمام علي (ع) أن يدفن فيها في أرض الغري بين الذكوات البيض([15])
.
حيث يرى المظفر أنه ((لا قيمة تاريخية أو دينية لموقع النجف قبل
دفن الإمام فيه))([16])
.
وسواء كان هذا الرأى قوى أو ضعيف ولكن نستطيع القول أن هذه المدينة
اكتسبت أهمية بالغة بعد ظهور قبر الإمام علي فيها ، لذا تحولت الأنظار إليها بعدما
أجريت العمارة الأولى على القبر الشريف من قبل الخليفة العباسي هارون الرشيد (170
هـ - 193 هـ) وأخذ الناس في زيارته والدفن لموتاهم حوله([17])
.
وقد نشأ حول المرقد عدد من المساكن الصغيرة تضم بعض السكان، وأخذ
الناس في زيارته ودفن موتاهم فى فضاء المدينة ([18])
، هذا ما كانت عليه النجف في العصر العباسي الأول.
أما عن النجف في العصر العباسي الثاني الذي يبدأ منذ نفوذ الأتراك
بشكل فعلي وسيطرتهم على مقاليد الحكم منذ أن تولى المتوكل الخلافة (232 – 247 هـ)،
وعقب مقتل المتوكل ومجيء ولده المنتصر (247 – 247 هـ) للخلافة التي لم تستمر بيده
إلا بضعة أشهر، وهو قد أظهر معاملة مختلفة مع العلويين، حيث كان ينتقم من أبيه
قسوته على العلويين وذمه للإمام علي بن أبي طالب (ع)، وكان المنتصر يرى في
العلويين قرابة يجب إلا تنتهك حرمتها([19])
.
ويرى بعض الباحثين أن النجف أصبحت مدينة بشكل مشروع، ولم يعد هنالك
من يزعزع كيانها، ولا من يخشى السكن فيها، والإقامة بها منذ عهد المعتضد العباسي
(279 – 289 هـ) ، أما قبله حتى عهد المعتمد (256 – 279هـ) وأخيه (الموفق) ولي
العهد وصاحب السلطة والقرار فلم تكن النجف مشروع سكن آمن، ولم يتمكن الناس من
زيارة قبر الإمام (ع) بشكل علني ومسموح به([20]).
كما تذكر المصادر التاريخية أن عهد المعتضد جاء بعد سلسلة من ثورات
العلويين وانتفاضاتهم وحركاتهم فكان لا بد من هذا الانفتاح لامتصاص غضب الجماهير
وسخطهم وغصب حقهم، فساعد هذا الانفتاح على تطوير الدول الشيعية التي توالت على
العالم الإسلامي بعد عهد المعتضد كالحمدانيين والفاطميين والبويهيين([21]).
وما أن جاء البويهيون إلى العراق ودخلوا بغداد سنة 334هـ/945م،
بقيادة معز الدولة([22])
، حتى سارع إلى رفع الشعائر الحسينية، وذرف الدموع الكربلائية والاحتفال بعيد
الغدير كما حدثنا إبن الأثير عن ذلك([23])
.
ومما يؤسف له إنَّ بعض المؤرخين من القدماء والمتأخرين قد وقعوا في
الوهم عندما تناولوا الروايات الخاصة بمرقد أمير المؤمنين عليه السلام بدون تحقيق
وتمحيص, فابتعدوا عن الحقيقة عندما ذكروا انَّ هارون العباسي هو أول من أظهر القبر
في سنة 170هـ/786م أو 175هـ/791م عند تناولهم حكاية حادثة الصيد في منطقة النجف
متجاهلين عن قصد أو دون قصد ما قام به الإمام جعفر الصادق عليه السلام في سنة
132هـ عندما كشف عن القبر وبنى دكة عليه, وحثَّ الناس على زيارته كما بينا ذلك
فيما سبق.
وقد ذكر الشيخ المفيد في "الإرشاد" تفصيل هذه الحكاية
بقوله:( وروى محمد بن زكريا, قال: حدثنا عبدالله بن محمد عن ابن عائشة, قال:
حدّثني عبدالله بن حازم, قال: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيّد, فصرنا إلى
ناحية الغريّين والثويّة فرأينا ظباء, فأرسلنا عليها الصقور والكلاب فجاولتها
ساعة, ثم لجأت الظباء إلى أكمة فوقفت عليها فسقطت الصقور ناحية ورجعت الكلاب,
فتعجب الرشيد من ذلك, ثمَّ إنَّ الظباء هبطت من الأكمة فهبطت الصقور والكلاب فرجعت
الظباء إلى الأكمة فتراجعت عنها الصقور والكلاب, ففعلت ذلك ثلاثاً.فقال الرشيد
هارون: اركضوا فمن لقيتموه فأتوني به, فأتيناه بشيخ من بني أسد, فقال له هارون:
أخبرني ما هذه الأكمة؟ قال: إنْ جعلتَ لي الأمان أخبرتُك. قال: لك عهد الله
وميثاقه ألاّ أهيجك ولا أوذيك. فقال: حدثني أبي عن آبائه أنهم كانوا يقولون إنَّ
في هذه الأكمة قبر عليّ بن أبي طالب عليه السلام, جعله الله حرماً لا يأوي إليه
شيء إلاّ أمن) ([24]) .
أما فيما يخص ما ذُكر من تعمير هارون للقبر الشريف فيحتاج الى
إنعام نظر وفضل تأمّل. فقد نقل ابن طاووس رواية - لا يمكن الاطمئنان إليها لأسباب
عدة- جاء فيها: (وفيما ذكر ابن طحّال: إنَّ الرشيد بَنى عليه بنياناً بآجر أبيض
أصغر من هذا الضريح اليوم, من كلّ جانب بذراع, ولمّا كشفنا الضريح الشريف وجدناه
مبنياً, عليه تربةً وجصّاً, وأمر الرشيد أنْ يُبنى عليه قُبّة, فبُنيت من طين
أحمر, وطرحَ على رأسها جرّة خضراء, وهي في الخزانة إلى اليوم) ([25])
. وقد ورد في هامش كتاب فرحة الغري بتحقيق الشيخ محمد مهدي نجف انّه في النسخة (ط)
جاءت الكلمة "حِبْرة".
ومن الجدير بالذكر انَّ الدميري في كتابه "حياة الحيوان
الكبرى" نقل عن ابن خلّكان ما يشير الى انَّ هارون العباسي قد حَجَّر القبر
لا غير, ولا توجد في روايته إشارة لأي عمارة فخمة قد تم إنشاؤها لتكون بديلاً عن
الدكة التي أقامها الإمام جعفر الصادق عليه السلام, قال الدميري:(فأمر الرشيد أن
يُحجّر الموضع فكان أول أساس وضع فيه ثم تزايدت الأبنية فيه في أيام السامانية
وبني حمدان, وتفاقم في أيام الديلم, أي أيام بني بويه) ([26])
.
الحاصل، من يرى هذه الجموع العاشقة للإمام التى تزور وتقيم حول
المقام الشريف كل يوم وكل ساعة وكل نهار فى زيارة لا تنقطع، يدرك انه من العقل
إخفاء القبر الشريف حتى تحين الفرصة المناسبة لإظهاره وإلا فإن القوم كانوا على
استعداد لنسفه نسفا وتدميره تدميرا، لأنه لم يكن من العقل ولا من المنطق ان يترك
خصوم الامام هؤلاء الجموع تزور إلى القبر، فالقبر وقتها وحينها سيكون أيقونة
الثورة فى وجه كل ظالم ولهذا لن يترك فيه حجر على حجر ...........
[1] - الأبلة، بلدة على شاطئ دجلة البصرة في زاوية الخليج العربي الذي
يدخل مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة لأنها مصرت أيام الخليفة عمر بن الخطاب (رض)
ينظر . الحموي، معجم البلدان، ج1، ص77.
[2] - المذار:
في ميسان بين واسط والبصرة، الحموي، معجم البلدان، ج5، ص88.
[3] - أليس:
في أول أرض العراق من ناحية البادية وهي تقع في السماوة، الحموي، معجم البلدان،
ج5، ص383.
[4] - أمغيشيا:
وهي مصر كالحيرة،وكان فرات بادقلي ينتهي إليها . الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3،
ص358.
[5] - أبو
يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 182هـ) ، الخراج، ط2، المطبعة السلفية، القاهرة،
1382هـ، ص145.
[6] - بروكلمان،
كارل، تاريخ الشعوب الإسلامية العرب والإمبراطورية العربية، ترجمة نبيه أمين، ط3،
دار العلم للملايين، بيروت، 1960م، ص115.
[7] - البلاذري،
فتوح البلدان، ص275، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3، ص579.
[8] - العميد،
طاهر مظفر، تخطيط المدن العربية الإسلامية، بغداد، 1986م، ص225.
[9] - عرفت منطقة ظهر الكوفة بـ(اللسان) ، الفيروز آبادي، القاموس
المحيط، ج1، ص306.
[10] - المحمودي، محمد باقر، ترجمة الإمام علي (ع) في تاريخ دمشق،
بيروت، 1975م، ج3، ص312.
[11] - إبن طاووس، عبد الكريم (ت 693 هـ) ، فرحة الغري في تعيين موضع
قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في النجف،المطبعة الحيدرية، 1368 هـ، ص50،
المجلسي، بحار الأنوار، ج42، ص197.
[12] - الإرشاد في معرفة حجج الله
على العباد: 10. الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد,
الشيخ المفيد. مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث, بيروت, لبنان, 1416هـ.
[13] - فرحة
الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 194. فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: عبدالكريم بن
طاووس: 123-124. دار التعارف, بيروت, لبنان, 1431هـ.
[14] - فرحة
الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 232.
[15] - إبن طاووس، فرحة الغري، ص38.
[16] - المظفر، محسن عبد الصاحب، مدينة النجف الكبرى دراسة في نشأتها
وعلاقاتها الإقليمية، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1982م، ص42.
[17] - القزويني، حمد الله مستوي (ت 730هـ) ، نزهة القلوب، طبع حجري،
بمباي، 1311هـ، ص134.الأمين، السيد محسن (ت 1371 هـ)، أعيان الشيعة، ط 1، مطابع
الاتقان والانصاف، بيروت، لا ، ت، ج 3، ص 587.
[18] - الأسدي، مصطلح النجف، ص200، ويشير الحسني إلى أن النجف بدأ
عمرانها على عهد الرشيد أثر معجزة إظهار القبر. الحسني، عبد الرزاق، العراق قديماً
وحديثاً، مطبعة دار الكتب، بيروت، لا ، ت، ص133.
[19] - علي، أمير، مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي، ترجمة رياض
رأفت، القاهرة، 1938م، ص49.
[20] - الكليدار، عبد الجواد، تاريخ كربلاء ومآثر الحسين، مطبعة
النعمان، النجف، 1967م، ص164.
[21] - حميد، تحسين، المعتضد بالله العباسي (279 هـ - 289 هـ) ، رسالة
ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1969 م، ص 88.
[22] - معز الدولة البويهي: هو أبو الحسن أحمد بن بويه (303 – 357هـ) أحد
الأخوة الثلاثة الذين اسسوا الدولة البويهية، استولى على واسط، وبعد عدة محاولات
دخل بغداد عام 334 هـ، خلع عليه المستكفي لقب (أمير ألأمراء).
[23] - ابن الأثير، ابي الحسن علي أبي الكرم محمد (ت 630 هـ)، الكامل
في التاريخ، إدارة الطباعة المنيرية، مصر، 1356 هـ، ج 8، ص 549 .
[24] - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 1/ 27.
[25] - فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: 273-274.
[26] - حياة الحيوان الكبرى: 2/ 177. حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين محمد بن موسى
الدميري. دار إحياء التراث العربي, بيروت, 2011.
0 تعليقات