د. محمد إبراهيم
بسيوني
تشهد فلسطين في هذه
الأيام انتفاضة ممتدة، تذكِّرنا بعض مشاهدها بمشاهد الانتفاضتين الأولى والثاني
اللواتي تربَّينا على ذكراهما وصورهما.
ازداد الاحتقان وأصبح
الانفجار أمراً محتوماً لكل ذى بصيرة، فلا يُعقل أن يُعامل شعب بأكمله معاملة
العبيد في عصر يتشدق بالحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من الشعارات
الجوفاء الرنّانة، ويُنتظر منه القبول والإذعان، بعد أن وصل احتقار الصهاينة،
المدعومين أمريكياً وغربياً ومن النظم المهرولة للتطبيع عربياً، للفلسطينيين
وحقوقهم، حداً غير مسبوق ولا مُحتمل.
ها هو الشعب
الفلسطيني يشتعل بنيران الغضب والانتفاضة ضد الدولة الصهيونية، وضد ممارساتها، وفي
مواجهة انتهاكها لكل الحقوق الفلسطينية، الإنسانية والسياسية، التي اعترف بها
العالم أجمع.
الواقع أن هذه الثورة الجديدة كانت أمراً مُتوقعاً لكل العالمين بتطورات
الأوضاع على ساحة الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد خنقت السلطات
الصهيونية المُتتابعة، وآخرها سلطة نتنياهو الممتدة، بتصميمٍ مُمنهج، كل فرصة يمكن
أن تُقدم ذريعة للواهمين في "سلام" فلسطيني ـ عربي/ إسرائيلي بموجب "اتفاق
أوسلو" عام 1993، بعد أن حولت الأراضي الفلسطينية جميعها، إلي سجن كبير يقبع
داخله كل أبناء الشعب الفلسطيني، وجاءت "صفقة القرن" الترامبية، لكي
تقضى نهائياً على أى حل سياسى يملك فرصة للتطبيق، بعد الاعتراف بيهودية القدس،
ونقل السفارة الأمريكية إليها، في تجاهل كامل للمشكلة بتعقيداتها وتناقضاتها.
تدور هذه الايام
وقائع انتفاضة شعبية فلسطينية هادرة، انطلقت من ساحة "باب العامود"،
الموقع الذي شهد إصرار الشباب الفلسطيني على التصدى لتحركات المتطرفين الصهاينة
وقوات الاحتلال، التى استهدفت إغلاقها في مواجهة أصحابها الفلسطينيين، ثم امتدت
إلي حي "الشيخ جرّاح" لمواجهة استهداف المستوطنين الصهاينة العنصريين
طرد أهله واحتلاله، ثم تجمَّعت موجات هذه الانتفاضة في استبسال المقدسيين، بعشرات
الآلاف، وإطلاقهم النفير للدفاع عن المسجد الأقصي، ضد محاولات احتلاله من قبل
عصابات الإرهاب الإسرائيلي، ثم امتد لهيب الانتفاضة ليشمل "الناصرة"، و"حيفا"،
و"دير حنا"، و"مجد الكرم"، و"الجديدة"، و"شفا
عمرو"، وغيرها من المناطق والبلدات الفلسطينية التي تئن من وطأة الاحتلال.
قد حملت هذه "المعركة"
القائمة عدة رسائل ينبغي الاهتمام بقراءتها، لعل من أهمها ما وجَّهته إلى سلطة
الاحتلال الإسرائيلي، وللراعي الأمريكي والغربي، تُشير فيها إلى أن المراهنة
الإسرائيلية على إمكانية إبادة الشعب الفلسطيني، على غرار ما فعله الأمريكيون
البيض مع الهنود الحمر، محض وهم لن يتحقق، فالشعب الفلسطيني تتجدد أجياله، ويزداد
عدده، ويتوارث أطفاله ميراث كفاح الأجداد، وتمسكهم بحق العودة إلى الأرض السليبة.
والرسالة الثانية
موجَّهة إلى القيادات الفلسطينية المُترهلة، في الضفة والقطاع، الذين بدَّدوا طاقة
قطاع واسع من الفلسطينيين، في التنافس على السلطة الوهمية، والصراع على المغانم
البائسة، مُتناسين أنهم جميعا أسرى حرب تحت وطأة الاحتلال الصهيوني، ورهائن في
سجنه الكبير، وتقول الرسالة بوضوح أن هناك جيل جديد من الشباب الفلسطيني، يكبر
ويشتد عوده، ولن يقبل بهكذا حُكَّام، يُقدمون مصلحتهم الأنانية على مصلحة الوطن
والشعب والقضية.
أمّا الرسالة الثالثة فهي موجهة للمحيط العربي بأسره، وبالذات لأولئك "المُهرولين
العرب" نحو التطبيع المجّاني، بلا لزوم أو ضرورة، وتتضمن أن شعب فلسطين يريد
الدعم العربي للصمود والمقاومة، وليس للانصياع لشروط العدو والخضوع لإرادته، وأن
فلسطين الجديدة، التي يُمثلها هذا الجيل من الشباب الفلسطيني، تولد من بين الصلب
والترائب، قوية وعفيّة، ولن تقبل بوطنها الفلسطيني المُحَرَّر بديلاً ولو كان من
الذهب الإبريز.
0 تعليقات