نصر القفاص
سمعنا فى مصر اسم "البنك
الدولى" مقترنا ببناء "السد العالى" وتأميم "قناة السويس"..
بقى اسم هذا البنك منقوشا فى جدار الذاكرة الوطنية بالكلمة واللحن.. وبصوت "عبد
الحليم حافظ" فى رائعته "حكاية شعب" التى تبدأ بجملة "قلنا
هنبنى.. وأدى إحنا بنينا السد العالي".. صاغ كلماتها "أحمد شفيق كامل"..
ولحنها "كمال الطويل" عام 1960.. وهى واحدة من الأغاني التى أصبحت محرمة
بعد رحيل "عبد الناصر" ثم تحولت إلى مكروهة.. فلا نسمعها إلا قليلا.. وقليلا
جدا.
أصبح "البنك الدولي"
صديقا.. ثم شريكا.. بمجرد إعلان الانفتاح الاقتصادي, الذى كان مغامرة للسير فى
الاتجاه العكسى.. ثم استمر أملا فى أن ينقذ مصر أولئك الذين يسمونهم "المستثمرين"..
ليمضى نصف قرن.. ترعرعت خلاله طبقة "رجال المال" تحت مسمى "رجال
الأعمال" فتمكنوا من الإمساك بدفة الاقتصاد.. بعدها أصبح المجتمع والدولة
أسرى لهؤلاء "المستثمرين" سواء كانوا عربا أو أجانب.. وتمكن "المستثمرون"
المصريون ليزحفوا على البرلمان والإعلام والثقافة, حتى اكتشف الشعب هذا الزيف
والخداع.. فكان ما حدث فى "25 يناير" عام 2011 ويسميه الدستور "ثورة"!!
تسمع اسم "البنك
الدولي" مقترنا بما يسمى "الإصلاح الاقتصادي" وتجد مواكبا لاسم
البنك ذلك الصندوق اللعين المعروف باسم "صندوق النقد الدولي".. وكلها
أسماء وعناوين للسيطرة على مقدرات الدول وسلب الشعوب إرادتها!!
تلك حقيقة كشفها من
الداخل الذين عملوا فى البنك والصندوق.
كانت الوثيقة الأكثر
وضوحا والأكثر خطورة.. تلك التى كتبها ونشرها "جون بيركنز" فى الولايات
المتحدة وأوروبا بعنوان "الاغتيال الاقتصادي للأمم" وقدمها ضمن دفتى
كتاب يأخذك معه بأسلوب ساحر.. وما إن تنتهى من قراءة شهادة الرجل, الذى أراد أن
يتطهر من دنس عمله ضمن منظومة الاستعمار الجديد – البنك الدولى – وكم كان مثيرا أن
يضع عبارة "اعترافات قرصان اقتصادي" على غلاف الكتاب.. تناولت الصحف
الأمريكية والأوروبية ما حمله الكتاب من تفاصيل رهيبة.. كلها كانت جرائم فى حق دول
وشعوب, وكان المؤلف عضوا بارزا ضمن أولئك "القراصنة" ثم أصبح مسئولا
مهما وشاهدا على رعاية الرشوة والفساد والابتزاز.. إلى جانب جرائم غسيل الأموال
والانقلابات والقتل والدعارة ومساعدة "مصاصى دماء الشعوب" على أن يعملوا
فى هدوء, ويرتكبوا جرائمهم بقوانين سابقة التجهيز لدى "ترزية" يعملون
لصالح دول الاستعمار القديم التى وافقت على أن يكون الاستعمار الجديد برعاية
أمريكا!!
تمت ترجمة الكتاب
ونشره بعد "25 يناير" فصدرت منه أربع طبعات.
كغيره, تعرض الكتاب
لتعتيم وتجاهل شديدين, خاصة من جانب "غلمان" رجال المال!! وهؤلاء بينهم
ساسة وصحفيين واقتصاديين ومحامين.. وآخرين يجب الصمت والإمساك عن ذكر أسمائهم أو
أوصافهم, حرصا على الحياة!! وإذا كان الكتاب قد صنفته "نيويورك تايمز" على
أنه الأفضل مبيعا فى الولايات المتحدة.. فقد ذهب عدد كبير من الكتاب الذين رفضوا
رهن ضمائرهم, إلى اعتباره الوثيقة التى تصرخ لإيقاظ شعوب عشرات الدول "المنكوبة"
باعتماد روشتة "صندوق النقد الدولى" والتى تنتهى غالبا بقتل المريض!!
يكشف المؤلف أكاذيب
وأوهام كثيرة.. بينها ما نسمعه عن نمو "الناتج الإجمالي القومى" والحقيقة
أن الأرقام تجعلك فى حالة ارتياح, لا تختلف كثيرا عن نشوة يشعر بها من يتعاطى
المخدرات!! والسبب أن الأرقام تغطى أقلية من المواطنين "رجال المال" الذين
يزدادون ثراء.. وبالقدر نفسه يزداد الفقراء فقرا.. وسنجد ذلك يحدث دائما على وقع
موسيقى صاخبة اسمها "مشروعات البنية الأساسية" التى جعلت ديون دول
العالم الثالث تتجاوز اتنين ونصف – 2,5 – تريليون دولار فى مطلع القرن العشرين.. وبعد
هذا الرقم سيأخذك الذهول, حين تعرف أن الفوائد على هذه الديون – يسمونها تدليلا
خدمة الدين – بلغت 275 مليار دولار سنويا.
الدول التى تسقط فى "مصيدة
الديون" يصعب عليها الخروج منها.. لأن مصلحة الدائنين – المقرضين – أن يستمر
هذا الدين لأسباب اقتصادية وسياسية أولا.. ثم لأسباب أخرى فيما بعد.. ولنا أن نعرف
أن قيمة خدمة الدين – 375 مليار – فى صعود مستمر.. وهو رقم يساوى أكثر بكثير مما
تنفقه دول العالم الثالث على الصحة والتعليم.. ويساوى الرقم عشرين – 20 – ضعف ما
تقدمه الدول المتقدمة للدول النامية من مساعدات خارجية ومنح!!
ببساطة تقوم دول
الاستعمار الجديد, بإقراض المطلوب اصطياده لتجعل شعوبا ودولا تعمل وتنتج وتستهلك
لحسابها.. لأن خدمة الدين – الفوائد – تبتلع نصف, إن لم يكن أكثر من الناتج القومى
لتلك الدول.. ويستفيد بجزء كبير من هذه الديون من نطلق عليهم "المستثمرين"
وهناك دول دفعت الثمن بإعلان إفلاسها كما حدث فى "الإكوادور" وحدث فى
دول أخرى أن تمت رعاية حكامها حتى حققوا المطلوب منهم, ليتم إسقاطهم فيما بعد كما
فى حالة إندونيسيا.. وبين الحكام الذين رفضوا هذا النهج, هناك من تم اغتياله كما
حدث فى "بنما" ثم بالحرب على خلفه واعتقاله من داخل قصر الحكم.. والقائمة
طويلة لكننى أفضل الأمثلة التى تبعدنا عن منطقتنا, تجنبا لأولئك الذين يتكسبون من
تزوير التاريخ وتشويه الحقائق.. لأن ذلك أصبح "مهنة" للذى يعرض شرفه
وضميره للبيع!!
يكشف المؤلف – جون
بيركنز – معاناته التى استمرت سنوات, لكى يتمكن من مغادرة قطار سرقة ونهب الدول
والشعوب.. ثم يحدثك عن سنوات أخرى احتاجها, لكى يتمكن من الوصول لناشر يوافق على
تبنى إصدار الكتاب.. وبعد صدوره دوت صفارات الإنذار لكى يتم حظره داخل "الدول
الضحايا" وإذا فشل ذلك, يتم اللجوء إلى التعتيم عليه وتكثيف حملات بيع الأوهام
والأكاذيب التى تبشرك بالإصلاح الاقتصادى.
فى مصر أطلقوا على
وزارة "عاطف صدقى" طوق النجاة لإنقاذ البلاد بالإصلاح الاقتصادي.. ثم
جاءت وزارة "كمال الجنزورى" لاستكمال الإصلاح الاقتصادي.. بعدها بشرونا
بآخر صيحات الإصلاح على يد "عاطف عبيد" وفيما يبدو أنه ذهب إلى حدود لا
يقبلها المجتمع فيما سمى "بالخصخصة" فتم استدعاء "أحمد نظيف" ليمارس
الإصلاح الاقتصادى برفق ولين وهوادة!! وانتهى إلى أن ثمار التنمية لم تسقط لأسفل –
على الفقراء – بل صعدت لأعلى ليستأثر بها الأثرياء – رجال المال – حتى انفجر الشعب
ضدهم.. وكان معدل التنمية 7,2%!!
تمر السنوات منذ
نهاية السبعينات.. ومازالت الحكومات المتعاقبة تحاول تحقيق الإصلاح الاقتصادي, وترافق
هذه السياسات زيادة الديون من 2 مليار دولار عام 1974 إلى أكثر من 125 مليار دولار
بأرقام الوقت الحالى.. وسنجد أن هذه السنوات شهدت انتعاشا فى طريق الذهاب إلى
البنوك السرية – الأوف شور – وتضاعف عدد الذين انتحلوا صفة "رجال الأعمال"
وخلفهم جيوش من "غلمانهم" وكلهم لا يتوقفون عن تشويه وسب الزعيم الذى
تحدى "البنك الدولى"!!
أكثر من نصف قرن على
رحيل "عبد الناصر" تعاقب خلالها حكام.. وكلهم يتفقون على أن "عبد
الناصر" هو الذى خرب الاقتصاد ودمر البلاد, بارتكابه جريمة تأميم "قناة
السويس" وقدرته على بناء "السد العالى"!! ثم ذهابه إلى ارتكاب "أم
الجرائم" بتصنيع بلاده.. لدرجة أن تصفية جرائمه – إنجازاته – تطلب ما يقرب من
نصف قرن, ومازالت العملية مستمرة.. لكنها وصلت إلى أخطر محطاتها بإغلاق "مصانع
الحديد والصلب"!!
يروى "جون
بيركنز" أساليب تشويه وقتل أى زعيم وطنى.. وكل زعيم وطنى.. ويقدم تفاصيل
تصفية عملاء الاستعمار من رؤساء دول حول العالم.. لكنه أسهب فى تقديم تجربتى "إكوادور"
و"بنما" اللتان قال عن رئيسيهما: "كانا من زبائنى وكنت أحترمهما
وأرى بينهما تقاربا فى الطباع والمواقف.. لذلك تم اغتيالهما بسبب معارضتهما لشبكة
الشركات العملاقة.. ولما فشلنا كقراصنة للاقتصاد, تدخل فريق الثعالب من المخابرات
المركزية الأمريكية ونفذوا مهمة تخليصنا منهما فى عام 1982".. كان رئيس "الإكوادور"
هو "خايمى رولدوس" وكان رئيس "بنما" هو "عمر توريخوس"
اللذان بقيا أحياء فى ضمائر شعوبهم.. ومازالت الآلة الإعلامية نمارس إطلاق الرصاص
على وطنية كل منهما!!
مات رئيس "الإكوادور"
الذى رفض رهن بلاده للبنك والصندوق, وتولى من فعل حتى إعلان إفلاس البلاد.. فقد
أصبح الفقراء 70% من السكان وارتفعت البطالة إلى 70% وتضاعفت ديون الدولة من 240
مليون دولار إلى 16 مليار دولار.. رغم أنها دولة نفطية شديدة الثراء ويجرى داخلها
نهر الأمازون, وتملك مساحة مهولة من الغابات التى تنتج الأخشاب.. ويصل مخرونها من
البترول ما يجعلها منافس محتمل للدول التى تنتج نفطا فى الشرق الأوسط.. وبحسبة
بسيطة أصبحت الشركات الأمريكية تحصل على 75 دولار من كل مائة دولار تدخل خزينة
البلاد.. ويتبقى 25 دولار للدولة تدفع منهم 18 دولار كخدمة دين – فوائد قروض – وتنفق
الحكومة 7 دولارات للصحة والتعليم ودعم الفقراء.. المهم أن تبتكر أساليب لإسكات
هؤلاء الفقراء, وتبدع فى خداعهم حتى يشربوا "سم الإصلاح" بهدوء وفى صمت!
اللعبة مستمرة.. وإذا
كانت شركة "قناة السويس" قد نجحت عملية تأميمها.. فإن محاولة تكرار هذه
الخطوة, كان يتم التعامل معها بحسم.. حدث ذلك مع رئيس جواتيمالا – أربنز – الذى
أعلن عن برنامج للإصلاح الزراعى, فتمت الإطاحة به وتنصيب من يرعى مصالح "شركة
الفواكه المتحدة" التى أسستها أمريكا للسيطرة على عدة دول تشمل كولومبيا
ونياكاراجوا وجاميكا وجواتيمالا وبنما.
أصبح معلوما للكافة
أن الدول التى تعيق حركة أموال "أوف شور" أو تحاول تعطيل برامج "الصندوق
والبنك" لما يطلقون عليه "الإصلاح الاقتصادي" ينتظره مصيرا محتوما..
وإذا ظهر أى رئيس وطنى يتم اغتياله أو صناعة انقلاب ضده أو غزو بلاده.. لا تتوقف
إدارة "تزوير وتشويه التاريخ" فى المخابرات الأمريكية عن تناوله أملا فى
مسح ذاكرة أمته, ولذلك برامج وخطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
ويحدثنا "نيكولاس
شاكسون" صاحب كتاب "مافيا إخفاء الأموال المنهوبة" عن أن الاستعمار
القديم, لن يغفر للرئيس المصرى الأسبق "جمال عبد الناصر" أنه قصم ظهر
الاستعمار عام 1956 وما بعده من سنوات كانت كئيبة لهم وعليهم!!
ظنى أن العداء لأغنية
"حكاية شعب" أصبح واضحا, لأن فيها تذكير للشعوب بقدراتها حين يحكمها
زعيم حقيقى!!..
يتبع
0 تعليقات