كتب
اللواء دكتور سمير فرج
يهل علينا الخامس من يونيو كل عام، حاملا أمر
الذكريات لرجال القوات المسلحة المصرية فى العصر الحديث. وعندما نحتفل، كل عام،
بانتصارات السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان، فيجب أن نتذكر حجم الهزيمة التى
عشناها فى الخامس من يونيو عام 67، وأن نذكر بها الأجيال الحالية، ممن لم يعاصر
تلك الفترة العصيبة فى تاريخ مصر، حتى يشعروا بقيمة النصر الذى حققناه فى 73.
وتبدأ القصة، معى شخصيا، فى يناير 67، وأنا
على باخرة مصرية، عائداً من اليمن، بعد 3 سنوات قضيتها فى الحرب هناك. وبعد 3 أيام
إبحار من ميناء الحديدة اليمني، لاح فى الأفق ميناء الأدبية فى السويس. من هذا
الميناء، وعلى ذات الباخرة، أبحرنا منذ ثلاث سنوات، واليوم نعود وقد فقدنا نصف
ضباط الكتيبة، شهداء بين ربوع جبال ووديان اليمن. ومن على سطح المركب، وقد بدأت
تقترب من رصيف الميناء، وتطلق صفارة بإعلان الوصول، بدا لى وكأن الميناء ظل كما هو
منذ تركناه قبل 3 سنوات، إلا من فرقة موسيقى عسكرية، أنهكها التعب من كثرة ما
تعزفه، كل يوم، للأبطال العائدين من حرب اليمن، بأغنية عبد الحليم حافظ «يا حبايب
بالسلامة».
ومن على ظهر السفينة، انتقلنا إلى معسكرات
دهشور بالقاهرة، حيث مكثنا لعدة شهور، نزيل من نفوسنا آثار ما ألم بنا فى اليمن. حتى
جاء منتصف شهر مايو، ليعلن عبد الناصر التعبئة وتحرك القوات المصرية إلى سيناء،
استعدادا لنجدة السوريين، بعد قيام إسرائيل بحشد قواتها العسكرية على الحدود مع
سوريا، ردا على أحداث نهر الليطاني. وخلال ثلاثة أيام، كنا قد عبرنا قناة السويس
ووصلنا إلى سيناء، عند خط الحدود المصرية الإسرائيلية، فى منطقة الكونتلا. ولا
أخجل من الاعتراف بضحالة خبرتى العسكرية، آنذاك، فلقد تخرجنا فى الكلية الحربية
مبكرا عن موعدنا، للانضمام إلى صفوف المحاربين فى اليمن. ولم نكتسب الكثير من
الخبرة العسكرية هناك، إذ كنا، فقط، نتعامل مع الكمائن التى ينصبها اليمنيون ولم
يكن فى الكتيبة ضباط من ذوى الخبرة، إلا قائدها المقدم «محمود عمران» الذى حصل على
كلية الأركان حرب من فرونزا فى الاتحاد السوفيتي، فاهتم بنقل خبراته إلينا، وكان
رجلا عظيما لكن القدر لم يمهله إتمام المهمة، واختاره المولى إلى جواره.
تحركنا إلى خط الحدود فى سيناء، ولم تكن
الخطة واضحة، وهو ما يكون له أثر سلبى على سير المعركة؛ فقد كنا نتساءل عن طبيعة
المهمة، هل نحن ذاهبون لتنفيذ عمليات هجومية، أم لاحتلال مواقع دفاعية؟ والفرق
بينهما، لمن لا يعلم، شىء عظيم. فكان ذلك النقص فى المعلومات، أحد أهم أسباب هزيمه
67، والتى أُطلق عليها اسم النكسة، كمصطلح سياسى وليس عسكريا. وتنقلنا بين عدة
مواقع، نظرا لعدم وضوح المهمة، هل هى دفاعية أم هجومية.
وفى يوم الثالث من يونيو وصل لنا جنود
الاحتياط، الذين تم استدعاؤهم لاستكمال قوه الوحدة. وصل هؤلاء الجنود بالملابس
المدنية ومنهم من يرتدى الجلباب، لم يتسلموا ملابس القتال ولا الأسلحة. وكانت تلك
إحدى خبرات حرب 67، التى تعلمتها جميع الوحدات المقاتلة، فعدم وجود خطة تعبئة
للقوات بالمعنى الصحيح، دفع القوات المسلحة المصرية، لأن يصبح لديها أحسن خطة
تعبئة ... ولا أبالغ إن قلت فى العالم كله.
وجاء يوم الخامس من يونيو بضربة جوية
إسرائيلية، ضد المطارات المصرية، ووسائل الدفاع الجوي، وتمكنت القوات الجوية
الإسرائيلية من تدمير التجمع الرئيسى للطائرات المقاتلة المصرية وهى على الأرض،
واستطاعت تدمير اجزاء أخرى من المطارات العسكرية المصرية، ووسائل الدفاع الجوي،
لتتحول سماء مصر، منذ الساعة العاشرة من صباح الخامس من يونيو، إلى مسرح مفتوح
للطيران الإسرائيلي، يفعل به ما يشاء، وهو ما يُطلق عليه عسكرياً مصطلح «السيادة
الجوية». وبدأت البيانات العسكرية المصرية تعلن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية،
وكانت كلها، للأسف، بيانات كاذبة؛ فالتهوين والتهويل يعتبران أخطر ظواهر الحرب،
وهو ما أفقد الشعب المصرى ثقته فى قيادته وإعلامه.
وصدرت الأوامر بسرعة الانسحاب من سيناء،
فسألنا السؤال البديهى «إلى أين؟» فلم نتلق إجابة!! وبدأ الانسحاب غرباً نحو
القناة، والطيران الإسرائيلى مستمر فى تدمير قواتنا المنسحبة، وفقاً لتعريفات
وقوانين المراجع القتالية، يدمر الوحدات المضادة للطائرات، ثم الدبابات، ثم
المدفعية، وهكذا كأنك تشاهد فيلما تعليميا ليس واقعيا. ونُصبت مصيدة للقوات
المصرية فى ممر متلا، الذى يبلغ طوله 32 كم، انحشرت فيه القوات المصرية، بينما
الطائرات الإسرائيلية تهاجمها بكل شراسة ووحشية، حتى تحول الممر إلى كتلة من النار
والدخان، بعدما تم القضاء على كل من فيه!
وبدأنا رحلة العودة فى اتجاه قناة السويس،
سيرا على الأقدام، بلا رحمة من المروحيات الإسرائيلية التى استمرت فى هجومها علينا
فى أثناء الانسحاب، ولم يكن لدينا الوقت أو المكان لتجميع الشهداء، الذين بلغ
عددهم الآلاف. وفى يوم التاسع من يونيو، وصل من نجا منا، إلى قناة السويس، لتحملنا
قوارب سلاح المهندسين إلى الضفة الغربية للقناة، بعدما فقد الجيش المصرى 90% من
أسلحته وعتاده فى سيناء. واحتل العدو الإسرائيلى سيناء بالكامل، ووصل إلى الضفة
الشرقية للقناة، بل وأصبح الطريق مفتوحاً أمامهم نحو القاهرة. وفى الخامسة من مساء
ذلك اليوم انطلق صوت عبد الناصر معلنا تنحيه عن الحكم، وهو ما رفضه الشعب المصري.
كانت تلك الأيام، من أسوأ الحقب فى تاريخ مصر
كلها، وليس القوات المسلحة المصرية فقط، وعندما نتذكرها كل عام، فلا يكون الدافع
من ذلك النيل من قدرات مصر، أو إلقاء اللوم على شخص دون آخر، وإنما نتذكرها بغرض
الاعتبار منها، والتعلم من دروسها، فبعد أن اكتوينا بنار الهزيمة فى يونيو 67،
تمكّنا من إعادة بناء جيش عظيم، ووضعنا خطة مصرية محكمة استعدنا بها الأرض والشرف
فى أكتوبر 73. وختاما لنا أن نفخر بعظمة المصريين، وأن نقول المصريون قادرون .. والله
قادرون .. وهذا هو الدرس الأعظم من يونيو 67.
0 تعليقات