آخر الأخبار

الشهادة في المتخيل الديني

 

 




عز الدين البغدادي

 

الدراسات الدينية الحديثة لم تعد ترتكز على الجدل العقيم الذي ينتصر لمذهب أو ينتقد مذهبا مقابلا، بل يدرس وبحيادية منظومة الأفكار الاجتماعية وتأثيرها السلوكي.

 

تعرفت على الصديق د. صلاح الدين العامري قبل سنوات في إحدى زياراته الى العراق مع مجموعة طيبة ومتميزة من أكاديميين تونسيين رائعين في احد المؤتمرات، كان وقتها يكتب أطروحته للدكتوراه، وقد حدثت بيننا عدة لقاءات ودارت حوارات حول موضوع الزيارة عند الامامية وأهميتها، وهو الموضوع الذي كان يكتب عنه أطروحته.

 

أول أعماله التي وصلت الى العراق هو كتابه "صناعة الذاكرة في التراث الشيعي الاثني عشري" وهو كتاب حاز على اهتمام كبير بين القراء.

 

ومنذ أشهر صدر كتاب جديد للأستاذ العامري وهو " الشهادة في التخيل الديني…. يسوع والحسين نموذجا"، وقد مثّل هذا الكتاب دراسة مقارنة بين صورتي الشهيد في المسيحيّة والإسلام من خلال شخصيّتي يسوع المسيح والحسين بن علي، مع استحضار المفهوم في الفكر اليهودي.

 

 وقد خصّص الدكتور صلاح الدين العامري ثلاثة أبواب لإنجاز الكتاب. ويمثّل كلّ باب صورة جزئيّة من الصورة الكليّة للشهيد في الديانتين، حيث تطرّق في الباب الأوّل إلى تشكّل صورة الطفل الإلهي الذي ارتبط مصيره ومسيره بالغيب في ذاكرة أتباعه. وركّز على النشأة باعتبارها سببا لتميّز يسوع والحسين واستعدادهما لتحمّل المسؤوليّة في مواجهة الانحراف الديني الحاصل في عصريهما من قبل اليهود وبني أميّة. وسيفضي هذا المعطى إلى الباب الثاني الذي اكتمل فيه وعي المكلّفين إلهيا وتحمّلهما مسؤوليّة العمل على التغير وإعادة التوازن المفقود. وقد مهّد البابان السابقان للباب الثالث الذي تحوّل فيه الموت من حدث مادي بيولوجي إلى منظومة رمزيّة وفكرة جامعة تشكّل الروح وتصنع الذاكرة للجماعات الدينيّة. وجعل الباحث رمزيّة الموت الديني في المنظومتين المسيحيّة والشيعيّة في أربعة فصول. تحدث أوّلها للحظة الموت المأسوي والظروف التي أهلت القتيل للزعامة الكبرى. ورصدنا أوجه التماثل بين الصورتين بالتركيز على المراحل الأخيرة من الصراع. وقد أتاح هذا البحث الوقوف على خروج الدراسات الحديثة بالخطاب الديني من النزعة التاريخيّة والانطباعيّة وفتحه أمام آفاق جديدة في القراءة. وفتح إمكانيّة الاستفادة من منجزات العلوم الإنسانيّة، ولاسيما علوم النفس والاجتماع والتأويل وبعض منجزات المنهج الانتروبولوجي. وإذا كان الخطاب النقدي مقاربة للنصوص الأدبيّة من أجل تحديد جنسها وأبنيتها الفنيّة والجماليّة، فإنّ تحليل النص الديني خطاب تأويلي خاضع لثقافة المؤوّل ومكتسباته وسياقه. وهذا ما يجعل القراءة الموضوعيّة، رحلة صعبة وشاقة في تعاملها مع النصوص. وبيّن صديقنا العامري أنّ الموت في سبيل العقيدة يمثّل نقطة التقاء بين الأديان الكتابيّة الثلاثة.

 

كتاب يتعامل مع الظاهرة الدينية برؤية أكاديمية غير تقليدية، فهو كتاب يستحق فعلا أن يقرأ ليس بسبب مادته العلمية فقط، بل وأيضا وهو الأهم بسبب منهجية البحث المتميزة عند الكاتب… وهو كاتب محترم متزن يستحق كثيرا من الاهتمام والتقدير.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات