الكاتب
(فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ) (البقرة: 37).
والمعنى أن الشيطان
أزل قدم آدم عن طريق الشجرة بدون عزم من آدم ؏ فكل ما حصل كان بالخداع والمكر من
جانب الشيطان.
اذهبوا، فقد وقع
العداء بينكم، ولا تحسبُنَّ أن هذا العداء سوف ينتهي هنا، بل سوف يستمر بينكم في
المستقبل أيضا، ولسوف يسعى الشيطان لشن هجوم كهذا عند مبعث كل نبي من الله.
وسوف تمكثون في هذه الأرض
وتنتفعون من أسباب العيش فيها. فعليكم بالحذر لأنه ليس أمامكم مفر إلا أن تعيشوا
مع ذراري الشيطان. ثم إن هذه الحياة ذريعة مؤقتة بغرض التزود للحياة الآخرة، فلا
تتغافلوا وتتشاغلوا عن هذا الهدف وتنهمكوا في جمع متاع هذه الحياة الدنيا. وتفيد
هذه الآية الكريمة عدة أمور جديرة بالانتباه:
الأمر الأول: أن من مقتضى المجتمع البشري أن يجتمع فيه
المؤمن والكافر في مكان واحد ويقيما به معا، وأن العداء بين الخير والشر قائم لا
ينفك، فلذلك كان على المؤمنين الصالحين أن لا يألوا جهدا في دفع الشيطان وشروره عن
أنفسهم وعن أولادهم، وهذا الأمر بالأهمية بمكان.
فإن الغفلة عنه تؤدي
إلى انقضاء عهد الحسنات، وكلما ظن المؤمنون أنهم بمأمن من هجمات الشيطان سادهم دور
التدهور والانهيار، وأخذ الشيطان يغلبهم شيئا فشيئا، ألا يا ليت كان هناك قوم
يرعون هذا الأمر حق رعايته، فيحطمون رأس الشيطان. كما أن من عادة أهل الصلاح أنهم
يُفرطون في حب أولادهم ويثقون بهم أكثر من اللازم، مما يوقع بالأولاد في شراك
الشيطان بعد أن كانوا صالحين.
الأمر الثاني: أن الله تعالى قد قضى بأن آدم وذريته
سيسكنون هذه الأرض، ولن يغادروها فرارا من هجمات الشيطان، بل عليهم أن يعيشوا فيها
معا، يواجه كل منهم الآخر. ولكن للأسف، يزعم بعض المسلمين أن ذرية الشيطان لما
هجموا على عيسى بن مريم “عليهما السلام” رفعه الله تعالى إلى السماء، وأبعده عن
نطاق الأرض ليحفظه من كيد أعدائه. إن هذا الاعتقاد يناقض هذه الآية مناقضة صريحة،
لأن الله تعالى يقول: إن على آدم وذريته أن يعيشوا في هذه الأرض، فهي مستقرهم، أي
مكان إقامتهم الدائم الثابت، فكيف يمكن أن يرفع المسيح الناصري إلى السماء؟ لو كان
أحد أحق بالرفع إلى السماء عند التعرض لهجمات الأعداء لكان آدم أول الأنبياء، أو
محمد المصطفى سيد ولد آدم. إن هؤلاء يعتقدون بأن آدم بعد أن تعرض لهجوم الشيطان
طرح من السماء إلى الأرض، ويوقنون بأن محمدا اضطر للهجرة من مكة إلى المدينة، ولم
يرفعه الله تعالى إلى السماء مع أنه الأحق بذلك والأولى!
الأمر الثالث: أن انخداع آدم بقول الشيطان راجع إلى ظن
آدم بأنه مأمور بالابتعاد عن مظهر معين للشيطان، لكن الله تعالى كان يريد أن يبتعد
آدم من الشيطان وأتباعه جميعا، ذلك لأن الشيطان إنما هو روح معنوية مثيرة للسيئات،
وما كان من الممكن أن يُخدع آدم بصورة جسمانية وبطريق مباشر ولكن أتباعه هم الذين
يهيجون حركات الشر، وهم من بني الإنسان، ولذلك تتعذر معرفتهم، لأنهم أحيانا
يتظاهرون بالإيمان فيُعتبرون من المسلمين، وبذلك ينجحون في مكائدهم ويصعب تمييزهم؛
هل هم أتباع الشيطان أم هم من المؤمنين الناصحين حقا. إن مظهر الشيطان المذكور في
الآية استعمل ذات المكيدة الشيطانية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله: (وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأَعراف: 22). ومثل هذا الخداع لا يخالف
العقل، وقد يقع الإنسان فيه. وأمثال هؤلاء الشياطين المنافقين كانوا في عهد رسول
الله أيضا.
ورب متسائل يقول: لو
سلمنا بأن الشيطان ظهر لآدم بمظهر مخالف لإبليس، وتظاهر له بالإيمان والإخلاص مما
جعل آدم ينخدع به، فكيف يصح ذلك مع أن ما أمر به الشيطان كان معصية لله تعالى،
وكيف يقدم آدم على مخالفة أمر الله؟
وجوابنا على ذلك أن
الإنسان كما يخدع غيره بتغيير زيه ومظهره كذلك يخدعه بتصوير الحقائق على عكسها،
وتقديمها بصورة مزيفة. ويخبرنا القرآن أيضا أن الشيطان اتبع مع آدم المكيدة نفسها؛
فعندما حرّضه على مقاربة الشجرة الممنوعة قال له: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ) (الأَعراف: 21).
فكأن الشيطان يقول
لسيدنا آدم: يجب أن تفكر في حكمة الامتناع عن الشجرة بدل من التمسك بظاهر نص الأمر
الإلهي، إن الله يريد لك أن تصبح ملكا وتنال خلودا بالامتناع عنها، ويمكن لك تحقيق
هذا الغرض نفسه الآن باقترابك منها. فتمسَّك بروح الأمر ولا تتردد في الاقتراب من
الشجرة فتحقق المشيئة الإلهية.
وبالنظر في الآيتين
السابقتين معا نلاحظ في الأولى أن الشيطان تظاهر أمام آدم بالإيمان وتصديق ما أُمر
به آدم من حيث الغرض من الابتعاد عن تلك الشجرة. وفي الآية الثانية ارتدى عباءة
الناصح المجتهد وأوهم آدم بأن الظروف قد تغيرت، وأن بوسعه الآن تحقيق الغرض الإلهي
نفسه بالاقتراب من الشجرة بدلا من تجنبها؛ فالأولى هو العمل بروح الأمر وليس بنص
الكلمات، وما دام الهدف الأصلي متحققا فلا بأس من ذلك.
ويتبين من ذلك أن
الخواص فضلا عن العوام يمكن أيضا أن ينخدعوا هكذا في بعض المسائل الدقيقة. ثم إن
آدم كان أول الأنبياء، ولم يكن قبله مثل هذه الأحداث حتى تكون له عبرة منها. وربما
شاء الله تعالى أن يقع آدم في هذا الخطأ ليكون عبرة لمن بعده. ففي أيامنا هذه
ينخدع عامة المسلمين بمثل هذه الاجتهادات الخاطئة رغم وجود هذه العبر في الماضي.
إن قوله تعالى (وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 116). يدل على أن آدم ؏ إنما وقع في خطأ اجتهادي من غير
قصد. فإن الله تعالى يخبرنا في سورة الأعراف أن الشيطان قد جاء آدم متنكرًا في
عباءة ناصح أمين، وكأن الشيطان ترك العداء الظاهري لآدم وانضم إلى جماعته، وحلف لهم
مؤكدًا لهم صدقه وإخلاصه. شأنه شأن المنافقين الذين يخبرنا الله تعالى في القرآن
الكريم أنهم يأتون محمدًا ويحلفون لـه قائلين: إنك لرسول الله، والله يعلم إنك
لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في أحلافهم؛ فاحْذَرْهم دائمًا. وهذا ما
فعل رأس المنافقين في زمن آدم، فجاءه مؤكدًا له إخلاصه وولاءه؛ ففكر آدم أن هذا
الشخص كان ذا نزعة إبليسية من قبل، ولكنه قد ترك الآن العداء، فلا حرج في الاتصال
به. فكانت نتيجة خطئه الاجتهادي هذا أنه اضطُر للخروج من حالة الأمن والسلام التي
كان فيها.
0 تعليقات