آخر الأخبار

المرأة بين الاختلاط والنقاب قراءة بين منهجين (3)

 




 

 

محمود جابر

 

بدأنا الحديث فى هذا البحث بأن هناك نظرتان تحكمان منهج النظر إلى الإنسان الأول : يرى الإنسان مخلوقات مفطورا على الطاعة والتقوى والخير ومعرفة الله تعالى وهذا هو منهج الإسلام.

والمنهج الآخر: يرى الإنسان ابنا للخطيئة وعبدا لها ... وإذا كان الإنسان صاحب خطيئة أولى فإن الذي دفع الإنسان الأول – آدم – إلى الخطيئة هي زوجه - حواء – وعليه فقد اعتبروا حواء/ الزوجة / المرأة (شرا مطلقا)... وعليه يجب إخفاء مكمن هذا الشر وإبعاده عن أماكن العبادة ...

 

وانطلاقا من النظرة الثانية ظهر حجاب المرأة عن العيون حتى لا يراها إلا زوجها وأولادها وجدت منذ القديم عند اليونانيين، وهى مرتبطة ارتباط وثيق بالمنهج الثاني الذي يرى فى الإنسان ابنا للخطيئة ويرى المرأة هي الدافع والمحرض عليها، لهذا فمنعوها من ارتياد الأماكن العامة واعتبروها عورة.

 

 

المرأة فى الثقافة العربية قبل الإسلام :

 

إن سنن الاجتماع ترفض أن تتغير الأنساق الاجتماعية فى مجتمع معين وخاصة تلك التي استمرت مئات السنين ، وفى بضع أعوام ؛ قد تنجح دعوة فى تهذيب عشرات المحيطين بالداعية ولكن القاعدة الشعبية العريضة تظل محتفظة بأنساقها وعاداتها، ولا تتغير عندها إلا إذا تغيرت ظروفها المادية مثل : طرق الإنتاج وأدواته ونمطه وأساليبه ووسائله ، بل إن بعض الملتفين حول صاحب الدعوة تغلب عليهم أعرافهم وطبائعهم الثابتة فى أعماق نفوسهم التي شبوا وشابوا عليها قبل اتصالهم به أو اتصاله بهم ، خاصة تلك التي تتعلق بالنوازع الطبيعية وفى أحيان كثيرة يفزعون إلى الداعية معترفين بمفارقتهم لما نهى عنه ، وهو يتسم بالحلم وسعة الصدر وبعد النظر والفكر السديد والرأي الصائب فيعرف أن الطبع يغلب التطبع وأن النوازع البشرية لها هيمنتها فيغفر ويسامح ويتجاوز وينصح فى رفق لأنه يدرك انه حتى الأكثر التصاقا به بشر وأنهم عاشوا غالبية عمرهم فى مجتمع له موجبات معينة وانه من أعسر العسر التخلص منها مابين عشية وضحاها،؛ ولعل هذا الحديث يمثل مدخلا مناسبا للحديث عن النساء فى الجزيرة العربية قبيل الإسلام .

 

أن المرأة في ما قبل الإسلام حازت مكانة رفيعة حجبها الكثير من مؤرخي الفترة الإسلامية لإبراز ما أعطاه الإسلام للمرأة من حقوق.

 

وكأن الفضائل لا تظهر إلا بحجب فضائل سابقة، والموضوعية التاريخية تقضي ذكر الحقائق كما هي مثل ما كان للمرأة في الجاهلية فقد نالت احترام الرجل، وتضحيته بحياته من أجلها. وقد سجل الشعر العربي والقصص والأغاني تلك المآثر، ولم يقف الأمر عند التغزل والتغني بها وإنما تجاوزه لتصبح المرأة حكما بين الرجال الشعراء.

 

تروي الأخبار أن امرئ القيس نزل على بني طئ بعد قتل أبيه وتزوج من نسائهم أم جندب، ودار سجال شعري بين امرئ القيس وعلقمة بن عبدة، وتنازعا إمامة الشعر، ولم يتنازل أحدهما للآخر.

 

 واختار علقمة أن يُحكّما أم جندب بينهما. وقبل امرؤ القيس المقترح، فطلبت منهما أن ينظما كل واحد منهما قصيدة على نفس الوزن وبقافية واحدة يصفان بهما الجياد. وبعد نزاعهما من النظم عرضا الشعر على أم جندب وافتتح امرؤ القيس قصيدته بقوله:

 

خليلي مرّا بي على أم جندب

ولما وصل إلى وصف الفرس قال:

 

فللزجر ألهوب وللساق درة *والسوط منه وقع أهوج منعب

 

وجاء دور علقمة فأنشد مفتتحا:

 

ذهبت من الهجران في غير مذهب

 

ولما صار إلى وصف الفرس أنشد:

 

فعفى على آثارهن بحاصب*وغيبة شؤبوب مـن الشد ملهب

فـأدركهن ثانيـا من عنانه * يمـر كمر الـرائح المتحلـب

 

وبعد سماعها للشاعرين قال أم جندب لزوجها:

-         علقمة أشعر منك

 

فقال أمرؤ القيس:

 

-وكيف ذلك؟ قالت:

-لأنه وصف الفرس بأنه أدرك الطريدة من غير أن يجهده أو يكده، وأنت مريت بفرسك بالزجر وشدة التحرك والضرب.

 

فغضب امرؤ القيس وطلقها فتزوجت علقمة.

 

وتبوّأت المرأة في الجاهلية مكانة علية ظهرت بفضلها طبقة من النساء صاحبات القرار العظيمات الشأن من بينهن الكاهنة والعرافة والمتنبئة، وصاحبة السيادة والريادة ففي مكة كان مفتاح الكعبة عند امرأة وهي بنت خليل الخزاعي حافظت عليه زمنا طويلا قبل أن تتنازل عن ملكيته لقصي حسب ما جاء في كتاب "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار". وتذكر الأخبار أن مفتاح الكعبة أيام الفتح الإسلامي. كان في يد أم عثمان بن طلحة،ولم تسلمه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد شدة ومقاومة حسب ما ذكره مسلم في صحيحه.

 

ورافقت النساء الرجال في الحروب قبل الجاهلية، ووقفت مواقف جريئة تحرض فيها الجند على القتال وأشهرها موقف ابنتي الفند الزماني في الحرب التي دارت رحاها بين تغلب وبكر. ويتمثل في أن البنتين لما اشتعلت نيران الحرب تقدمت إحداهما وخلعت ثيابها ورمت بها وسط المعركة، واقتدت بها أختها ثم تقدمت صفوف الرجال عارية الجسد لتبعث في الجنود الشجاعة والحرص على حماية بناة القبيلة.

 

وفي نفس المعركة يرفع عوف بن مالك ابنته على جمل ويسيره ثم يضرب عرقوبيه، وينادي في قومه:لا يمر بي رجل من بكر بن وائل فرّ من القتال إلا ضربته بسيفي هذا.

 

وشاركت المرأة في الجاهلية في الحياة العامة ومنها المجال السياسي وما موقف هند بنت عتيبة من الدين الجديد ومساندتها لزوجها إلا موقف سياسي واضح.

 

هذه النماذج كاشفة لمكانة المرأة وأنها لم تكن منبوذة ومغيبة إلا عند بعض القبائل مثلما هو الحال اليوم، وأن الإسلام لم يرفع منزلة المرأة وإنما رفع مستواها الأدبي في الحضارة إلى حد عظيم .

 

ثياب المرأة قبل الإسلام :

 

في هذه الفترة احتفت النساء بلباسهن حفاوة كبيرة مما يفند المزاعم التي تدعي أن فترة الجاهلية فترة بداوة وبربرية وهمجية لم تعرف فيها المرأة فنون اللباس.

 

والشواهد كثيرة على أن المرأة العربية ارتدت أنواعا مختلفة من الثياب الخلاّبة ذات الألوان الراقية والأشكال الفنية من صنع فناني العراق والشام واليمن، وما جلبه التجار من الهند وفارس والبلاد المجاورة للجزيرة العربية، وقراءة في الأشعار العربية وأخبارها وآثارها تكشف لنا عما اتخذته المرأة من ملابس الزينة،وإظهار الحسن،وتبين لنا ضروب التفنن في ابتكار الأزياء واختيار الألوان التي حبكت من الصوف والقطن والحرير والدمقس والسندس والديباج والإستبرق والخز،يقول اليشكري:

 

الكاعب الحسناء ترفل*في الدمقس والحرير

 

وتسمية المرأة العربية في الجاهلية لأشكال الثياب دليل على تفننها وذوقها الرفيع وحسها المرهف، فإنها تسمي مارقّ نسجه ودق خيطه من الثياب:المهلهل والهفاف وما نسج بخيوط الذهب:المذهب يقول سلمى بن ربيعة:

 

والبيض يرفلن كالدمي*في الريط المذهب المصون

 

وتسمي المرأة أيضا ما كان نسيجه مكثفا:الصفيف والحصيف،وولع المرأة العربية بالثياب المطرزة بالذهب والمزينة بأصناف النقوش تشهد به الأخبار، وكذلك ولعها بالحلل الشفافة كان كثيرا. ومن الأزياء التي ارتدتها في الجاهلية الدروع وهي قمصان تلبسها المرأة الكبيرة والمجول وهي قمصان تلبسها المرأة الصغيرة، والنوعان دون أكمام، ومن الأزياء النطاق، لباس تشده المرأة إلى وسطها وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل ومن فوقه البت يحيط بجسمها ويحجب جزءا من وجهها ورأسها. ويختار هذا الثوب من القماش الرقيق وغالبا لونه الأخضر، ومن الأزياء أيضا الحبرة وهي برد من اليمن موشى من أبهج وأثمن ما لبست المرأة العربية، كما لبست المرط وهي ملاءة ذات شقين من الحرير الخالص، وكذلك من ثيابها الإزار.

وتختار المرأة العربية في زمنها ذاك لباس المناسبات "كجر الذيل"في المناسبات المختلفة كالأعياد وحفلات الزفاف، والحفلات الساهرة، وفي المآدب العامة.

 

 في هذه المناسبات ترسل ذيل لباسها النفيس اعتدادا بنفسها وزيادة في التأنق يقول عنترة يصف عبلة وهي تجر ذيل ثيابها الحريرية.

 

وتظل عبلة في الخزوز تجرها *وأظل في حلق الحديد المبهم

 

وشاركهن الرجال في جر ذيول الثياب افتخارا وعلامة على القوة والسيادة.إضافة إلى تفننهن في اللباس، فقد تفننت نساء الجاهلية في التحلي بالجواهر النفيسة، وخصت كل موضع من جسدهن بحلي معلوم: القرط المرصع والمذهب لأسفل الأذن، والشنف لأعلى الأذن، والإكليل عصابة مرصعة بالجواهر للجبين، والجبرة للساعد، والسوار للمعصم، وتنوعت الخواتم بين الخاتم ماله فص، والفتح مالا فص له، ولبست الخواتم في أصابع اليدين والرجلين.


المرأة بين الاختلاط والنقاب قراءة بين منهجين (1)


المرأة بين الاختلاط والنقاب قراءة بين منهجين (2)


إرسال تعليق

0 تعليقات