(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ*
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (النمل: 21-22).
أمر سليمان ؏ قادته وجنوده بالمثول أمامه،
فلما تفقّدَهم وجد أحد قادة كتيبة العلماء غائبًا وكان اسمه “الهدهد”. فثار سليمان
غضبًا لغياب قائده في ذلك الوقت الحرج الذي كان يتأهب فيه لمحاربة بلد آخر. فظن أن
هناك مؤامرة تحاك ضده، فقال: ما لي لا أرى الهدهد أم أنه قد غاب وهرب؟ فإني
سأعاقبه عقابًا شديدًا أو سأقتله إلا إذا أتاني بعذر واضح يبرر غيابه.
يظن المفسرون أنه كانت في جيش سليمان ؏ كتائب
طيور حقيقية، وكان الهدهد -هذا الطير الذي يصيده الأطفال بالنبلة- أحد القادة. وبهذا
الجيش القوي خرج سليمان لفتح بلاد اليمن (معالم التنـزيل، والطبري).
ما هو الدليل على أن الهدهد إنسان من حاشية
سليمان وليس طيرا؟
أولاً: كل إنسان عاقل يدرك أن ما يقوله
المفسرون لا يدل على كون الهدهد قائدًا، بل يؤكد عدم حكمة سليمان -والعياذ بالله- مع
أن أنبياء الله تعالى حكماء. فمن المستحيل أن يخرج إنسان عاقل لفتح بلاد اليمن
بجيش من الحمائم والزغاليل والعصافير والهداهد والسمان والحجل. والحق أن التغلب
على مثل هذا الجيش لا يتطلب جيشًا بل عند وصول خبره إلى البلدة سيخرج الأطفال
بالنبال إلى الشوارع، ويجعلون اليوم يوم عيد لأهلها كلهم إذ يهيئون لهم شواءً لذيذًا
من لحوم الطيور. أفستكون هذه حربًا أم مسابقةً لصيد العصافير والطيور؟ بقراءة هذه
القصص الخرافية التي ذكرها المفسرون في تفاسيرهم يضطر المرء لتصديق ما قاله
تيمورلنك بأن فرقة العلماء ينبغي وضعها في مؤخرة الجيش، إذ يستهينون بالحرب بهذا
الشكل المخزي.
والأغرب من ذلك أن سليمان ؏ -الذي قالوا عنه
أنه لم يرضَ أن يدوس نملة واحدة تحت قدمه عمدًا- يمتلئ غيظًا ليهدّد الهدهد الذي
لا عقل له وحجمُه بحجم العصفور. فمن المحال أن يتوقع نبي من الطيور ما يتوقعه
المرء من أذكياء الناس. إن القرآن الكريم بين أيدينا، فمتى ورد فيه أن الطيور تبلغ
من الذكاء والعقل بحيث إن بعضها إذا ارتكب خطأً فعلى المرء أن يستلّ سيفه ويقول له:
سأضرب عنقك أو لتأتيني بعذر مقبول؟ أو هل رأيتَ أحدًا من جيرانك قابضًا على الهدهد
وهو يضربه بالعصا ويقول له: لماذا أكلتَ غلالي؟ وإذا رأيت شخصًا كهذا أتعدّه من
العقلاء أم من المجانين؟ فثبت أن المفسرين الذين قالوا أن سليمان قال هذا الكلام
لطير الهدهد إنما نسبوا الغباء إلى سليمان ؏،وحشاه إذ يقول هنا صراحة (لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا
شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، وهذا
يعني أن طير الهدهد هذا كان يعرف الأدلة والبراهين مثل سقراط وأبيقراط وأفلاطون،
ولذلك توقع منه سليمان أن يقدم أدلته على براءته.
ثانيًا: يخبرنا القرآن الكريم أن سليمان كان
يملك جنود الجن والإنس والطيور، ولكن الغريب أنه لا يفكر إلا في الهدهد من بين كل
الجيش، فيقول: ما لي لا أرى الهدهد؟ إن الدول في الدنيا لا تقبل عند التعبئة أي
إنسان قامته أقل من خمسة أقدام، ولكن سليمان ؏ يقوم بتعبئة عجيبة حيث يقبل طير
الهدهد في جيوشه! والأغرب من ذلك أنه لم تكن في جيشه أي كتيبة خاصة بالهداهد بل
فيه هدهد واحد فقط! فما الحكمة من اصطحابه؟ وما هو العمل الذي سينجزه؟
وثالثًا: يعلن القرآن الكريم أن الهدهد قال
كذا وكذا، مع أنه يتحدث هنا عن معرفة سليمان منطق الطير، فكان المفروض أن تُذكر
هنا معجزة سليمان ؏، ولكنهم يذكرون هنا معجزة الهدهد التي هي في الحقيقة أكبر من
معجزته ؏.
ورابعًا: أن الهدهد ليس من الطيور السريعة
الطيران حتى يقال أنه طار كل تلك المسافة الطويلة، بل الحق أنه عادةً يموت في
المنطقة التي يولد فيها. بينما يتضح من القرآن أن الهدهد طار من الشام إلى مُلك “سبأ”
لأكثر من ثمانمئة ميل دون انقطاع، ثم عاد إلى سليمان بخبرهم. وهذا يعني أنه كان
أسرع من الطائرات، وأن المعجزة هي للهدهد لا لسليمان، مع أن المفسرين يريدون هنا
بيان معجزة سليمان ؏.
خامسًا: وقد أرى الهدهد معجزة أخرى حيث كان
يعلم من دقائق الشرك والتوحيد ما لا يعلمه اليوم المشايخ أيضًا. فانظر كيف يبين
أسرار التوحيد العالي إذ يقول (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ) (النمل: 25).
ثم إن مشايخ اليوم يرون جيرانهم يأتون
أعمالاً وثنية ولا ينهونهم، ولكن انظر إلى غيرة الهدهد الدينية حيث يطير في كل حدب
وصوب ليخبر سليمان بما يأتيه الناس من أعمال الشرك وعبادة الأصنام.
سادسًا: ثم إن الهدهد خبير بالأمور السياسية
أيضًا حيث يقول لسليمان ؏: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).. أي أن عند ملكة “سبأ”
كل ما يحتاج إليه الملِك. وهذا يعني أن الهدهد قام بفحص خزائنها ومؤسساتها، فلذلك
ذكر في تقريره أنها تملك كل ما هو ضروري للحكم.
سابعًا: ثم إن الهدهد يعلم جيدًا الشيطان
ومكائده إذ يقول من كان الشيطان وليه نشأت في قلبه أفكار سيئة. بل الحق أن الهدهد
يعلم النتائج الوخيمة للأفكار السيئة أيضًا حيث يقول: (فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ).. أي أن الشيطان قد صدّهم وأبعدهم عن سبل قرب الله ﷻ من جراء أفكارهم
السيئة. إذًا، فإن الهدهد لم يكن مجرد طير بل كان عالمًا كبيرًا. يا ليتنا نجد
هدهدًا واحدًا مثله لنطرد جميع المشايخ من وظائفهم ونعينه مفتيًا للبلاد.
ثامنًا: إن الهدهد كان يعلم جيدًا كيف يجب أن
يكون عرش الملوك حيث يقول لسليمان ؏: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ).. أي أن ملكة سبأ
تملك عرشًا عظيمًا ولكنك لا تملك مثله. وكأنه يُغريه بذلك بالهجوم على الملكة.
إن هذه الأمور كلها تدل دلالة واضحة على أن
هذا الهدهد لم يكن طيرًا، بل كان إنسانًا. ذلك لأن القرآن يعلن صراحة أن أمانة
الشرع لم تحملها الملائكة ولا السماوات ولا الأرض، إنما حملها الإنسان وحده وأنه
وحده الذي يعلم أسرار شريعة الله تعالى. إن الملائكة تعلم جانبًا واحدًا من
الأشياء وهو جانب الخير، أما الإنسان فيعلم الجانبين، جانب الخير والشر، وينظر إلى
الأمور كلها. وما دام هذا الهدهد واقفًا على أسرار الشريعة فثبت أنه كان إنسانًا
لا طيرًا، لقوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) حيث بين تعالى صراحة أن لا أحد
من الخلائق يحمل أسرار الشرع سوى الإنسان.
0 تعليقات