علي الأصولي
الأصل في القيادة
العصمة وكل قيادة غير معصومة فهي غير ملزمة بالإتباع إلا بشروط صارمة، لأن إتباعها
يعني وجوب الطاعة والأصل بالطاعة لله ولمطلق المعصوم ولا أقل لمن بقى ضمن دائرة
ومساحة المعصوم على نحو الطولية،
فالداعي وعلى ضمن
المواصفات التي حددها الكتاب والسنة تقع عليه مسؤولية التفكير والتخطيط على ضوء
البيانات الشرعية وهذا يحتاج إلى فهم واسع وعميق لخطابات القرآن الكريم ومعرفة
محكمه من متشابهاته وفهم واسع النطاق لحركة المعصومين أنبياء وأئمة(ع) من خلال
دعواتهم وتحركاتهم وأقوالهم وتقاريرهم. بالتالي يحتاج المأذون بالدعوة إلى
بصيرة بمفهومها الواسع، والتي تشمل غير
العلم بموضوع الدعوة معاني أخرى كثيرة، من أهمها: وجود الفهم الشامل لدى الداعية
بأهداف دعوته ومقاصدها، وإدراكه للوسائل الشرعية التي ينبغي أن يسلكها لتحقيق هذه
الأهداف، والتنبؤ بما قد يعترضه من عوائق ومشكلات،
وهذا الوعي والإدراك
لمثل هذه الأمور وكيفية التعامل معها في ظل دنيا وعالم التزاحمات،
نعم: أن الدعوة
بالأصل والذات ليست شأنا خاصا لفئة محدودة من الناس، ولكنها من القضايا المركزية،
وأهميتها تكمن بأهداف نفس الدعوة، ومن ثمارها خلاص الناس وتخليصهم من الوهن
والغثائية، والتشرذم وخطورة التصورات الخاطئة التي وجدت بالساحة في ظل غياب المنهج
الغير علمي وتزداد خطورة في هذه الأزمنة؛ كون الناس تمر بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل بهذه
الدرجة، حيث الضعف والخور الذي ساد وتسيد على المشهد العام، والبعد عن الشرعية
الذي اتسمت بها النخب الفكرية والسياسية،
بيد أن التحذير
انطلق منذ زمن بعيد وقول: «يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها»،
قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء
كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»،
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»
اجل: يمكن أن نعزوا
كل ذلك إلى عدة أمور:
منها: طبيعة القراءة
والخطاب، فكما أن القراءة تبتعد عن ببيانات القرآن الكريم والمعصوم والأدوات
المعرفية المقررة تكون القراءة خبط عشواء، وبالتالي خطاب لا يرتقي لمستوى
المسؤلية، فضعف حضور فقه الواقع في الأوراق والتصورات، وفي البرامج والخطط، وفي
الأنشطة والأعمال، هذا الضعف يؤثر لا محالة على مردودية العمل، يسِمه بسمة
الارتجال والعفوية، ويقلل من ثماره ونتائجه في الواقع، هذا على سبيل الإجمال، وأما
على سبيل التفصيل فمن الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل ودونك الاهتمامات
الهامشية على حساب القضايا المركزية فالناظر للواقع الراهن يلحظ اختلالا واضحا في
سلم الأولويات، وارتجالا بينا في توزيع الجهود والمبادرات، والأمثلة في ذلك أظهر
وأكثر من أن تحصر، وأصل الداء في ذلك كله هو غياب فقه الواقع،
حاول أن تنظر لمدى
التيه الذي عليه الناس وعدم تحديد الوجهة، وعدم امتلاك الرؤية المبصرة، وإستراتيجية
العمل،
فإذا كانت الرؤية
تكتسي طابعأ تصوريا عاما، فإن الإستراتيجية تتميز بطابعها المنهجي الإجرائي
والعملي، فإذا كان نجاح وفعالية الرؤية العامة يقاس بمدى قدرتها على معالجة مشاكل
الواقع، والاستجابة لمطالبه وتحدياته؛ فإن نجاح الإستراتيجية ومردوديتها، إنما
تقاس بمدى قدرتها على تكييف الرؤية مع معطيات الواقع التفصيلي وحسن تنزيلها عليه،
أي أن فقه الواقع يظل مصدرا أساسا ومرجعا مهما في تكوين كل من الرؤية والإستراتيجية،
بالتالي كل ضعف يلحظ في الواقع نتيجة الفقر الكبير في الأوراق والأدبيات المتعلقة
بفقه الواقع، أفرغ الرؤى والاستراتيجيات من محتواها، وحَد من فعاليتها وأثرها في
توجيه الواقع والتأثير على أحداثه ومجرياته.
وبالجملة: بما أن
الإنسان في التصور الإسلامي هو خليفة في أرض الله، والعقل هو مناط التكليف والإحاطة والوضوح، بعيدا عن العموميات
والانطباعات والآراء المسبقة، ولإنتاج فقه راشد وناضج للواقع؛ لابد من المرور من
مرحلتين:
الأولى: مرحلة الفهم:
وتتجلى في رصد ظواهر
الواقع المختلفة، وتجميع معطياته، واستقراء جزئيات أحداثه، وتفاصيله اليومية في
الزمان والمكان، وفي مختلف الميادين، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق،
والثقافة، والإعلام، وغيرها.
الثانية: مرحلة
الفقه:
وتعنى بفرز
المعطيات، وتصنيف الظواهر والوقائع، حسب معايير ومقاييس دقيقة ومحددة، كما تعنى
بالبحث عن الخيط الناظم للأحداث، والأسباب الكامنة وراءها، والسنن والقوانين
الحاكمة لنشأتها، وتطورها، واختفائها، وصولًا في نهاية المطاف إلى صياغة الجزئيات
في الكليات، والخروج بقواعد نظرية، وقوالب تصورية تمثل التصور النظري العام للواقع.
وبالتالي ليس علينا
إلا التأني وعدم التعجل حتى تنضج الثمرة: فالعجلة وعدم التثبت والتأني والتبصر أو
التباطؤ والتقاعس، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الأضرار والمفاسد، والداعية أولى الناس
بالابتعاد عن ذلك كله، فمقتضى الحكمة أن يعطي كل شيء حقه، ولا يعجله عن وقته، ولا
يؤخره عنه، فالأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ونهايات تصل إليها ولا تتعداها،
ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر.
وهذا لا يتسنى إلا
من فهم وفقه مآلات الأفعال، بيد أن فقه المآلات من أنواع الفقه الدقيقة؛ لأنه
ينبني على قراءة عميقة للواقع، والبحث في القرائن، والأمارات، والعلامات الدالة
على كون الفعل يئول إلى مصلحة راجحة أو مفسدة راجحة، ذلك أن النظر في المصلحة يجب
أن يمتد إلى ما تئول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ
للمصلحة على وقتها دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان دون اعتبار الأماكن
الأخرى، أو على شخص دون اعتبار بقية الناس، وخصوصًا في الفتاوى والأنظمة العامة،
مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة، أو الوقوع في محظور، مع اعتبار الأولى من
المصالح، فالأولى تقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعًا والأطول
بقاءً على غيرها من المصالح، وأنت ترى أن هذا الفقه مندرج في فقه المصالح
والمفاسد، وعلى الرغم من مقاصد الخير ، وهذا الأمر نبه عليه فقيه المقاصد الشاطبي
بقول: وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام
أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب،
أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف مما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة
تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك» كما في كتابه - الموافقات -
.
0 تعليقات