د. أحمد هراد
– كاتب وباحث في شؤون القرن الأفريقي
بونت هي إحدى الثقافات والحضارات التي ارتبطت بعلاقات تجارية
وتبادلية مع الممالك المصرية القديمة، والسجلات والنقوشات التي كتبها المصريون
مازالت إلى الآن هي الوحيدة في إثبات وجود في الثقافة/الحضارة في يوم ما في القرن
الأفريقي، وأنها احتلت موقعا متميزا في المخيلة المصرية حسب المصادر المتوفرة،
فبعض ملوك مصر وصفوها بأنها أرض الأجداد وأرض الإله، ووصفتها بعض السجلات بأنها
أرض العجائب أو بالمنجم كونها مصدر مهم من مصادر البضائع كالمر والبخور خصوصا النوع
الفاخر منه الذي سماه المصريون ب “عنتي أو عنتواج ” والأخشاب والذهب وغيرها من
البضائع التي أولتها مصر اهتماما بالغا في جلبها إلى البلاد، ولم تكن نقوش الجدران
في المعابد المصرية هي المصدر الوحيد التي أشارت لبونت، فهناك العديد من أوراق
البردي والقصاصات التي دونت العلاقات التجارية بينهما، بالإضافة إلى الأدب المصري
الذي أشار إلى بونت أو كتب عنها بشكل قصة أو رواية قصيرة، وهو ما يدل على حضور
بونت بشكل كبير في الحياة المصرية الثقافية والتجارية.
وصفت بونت بأوصاف كثيرة بين المصريين ولكن التسمية الرسمية لتلك
البلاد هو بونت والتي تلفظ بالمصرية القديمة Pw. Nwt ، وسميت
أحيانا بالمنجم الملك أو منجم بونت، لأن هناك العديد من المصادر التي أشارت إلى
اسم Bia Punt والتي تعني منجم بونت، وفي بعض الأحيان استخدم لفظ تا نجر Ta Netjer للإشارة
إليها والتي تعني أرض الإله.
مراحل الممالك والأسر الحاكمة في مصر القديمة
قسم مؤرخو وعلماء المصريات الممالك والأسر المصرية التي حكمت مصر
القديمة إلى ثلاثين أسرة حكمت مصر قرابة ثلاثة آلاف سنة، بدءا من من عصر ماقبل
الأسرات وصولا إلى الأسرة الثلاثين التي انتهت مع الملك ( الفرعون ) نختنبو الثاني
Nectabeno II بعد الغزو الفارسي للبلاد المصرية، وتم تصنيف فترات هذه الأسر إلى
:
– فترة الأسر الأولى : وشملت الأسرتين الأولى والثانية
– المملكة القديمة : شملت الأسرة الثالثة إلى الأسرة السادسة
– الفترة الانتقالية الأولى : امتدت من الأسرة السابعة إلى جزء من
الأسرة الحادية عشر
– المملكة الوسطى: شملت من وسط حكم الأسرة الحادية عشر إلى نهاية
الأسرة الثانية عشر
– الفترة الانتقالية الثانية: امتدت من الأسرة الثالثة عشر إلى
الأسرة السابعة عشر.
– المملكة الحديثة: امتدت من الأسرة الثامنة عشر إلى الأسرة العشرين
– الفترة الانتقالية الثالثة: شملت حكم الأسرة الحادية والعشرين
إلى الأسرة السادسة والعشرين
– المملكة الأخيرة : من الأسرة السابعة والعشرين إلى الأسرة
الثلاثين
بونت في سجلات المملكة القديمة Old kingdom
امتدت العلاقات بين بونت ومصر إلى فجر التاريخ، حيث أشار العديد من
الباحثين إلى وجود علاقة ما بين الحضارتين في فترة عصر ما قبل الأسرات إلى عصر
المملكة القديمة، ولكن أول السجلات التي ذكرت بونت بهذا الاسم تعود إلى عهد الملك
سحي رع Sahure ثاني ملوك الأسرة الخامسة التي حكم من 2465 ق.م إلى 2325 ق.م، دون
فيها أنه أرسل عدة بعثات إلى بونت في سنة حكمه الأولى لبلاد مصر التي وصف فيها
بونت بأنها أرض الأجداد كما اعتقد، وجلب ثمانين ألفا من المر بالإضافة إلى ستة
آلاف من السبائك الطبيعية من أحجار الإلكتروم والمالاكيت و 2600 مكيال من أعمدة
الأخشاب.
هناك ملوك آخرين وثقت بعثاتهم إلى بونت مثل الملك جد كا رع أسيس،
ثامن ملوك الأسرة الخامسة الذي حكم من 2387 ق.م إلى 2375 ق.م ، الذي أرسل بعثة إلى
بونت لاستجلاب المر والبخور كما هو مذكور في بردية بعثت من قبل حاكم الجنوب وقائد
الجنود حرخوف إلى الملك بيبي الثاني ( أي بعد مئة سنة من وفاة الملك جد كا رع )،
وذكر حرخوف أيضا أن القائد “ور جدد خنوم ” أحضر معه أحد الأقزام من بونت وأهداه
إلى الملك جد كا رع لكي يعمل في المعبد، وأيضا قام القائد حرخوف بإهداء نفس
الهدايا للملك بيبي الثاني الذي حكم من 2216 ق.م إلى 2184 ق.م ويعتبر الفرعون
الخامس من الأسرة السادسة
تقول البردية:
بيبي الثاني: لقد كتبت في رسالتك أنك أرسلت لي قزما من أرض الأرواح
( بونت)، مثلما جلب خازن الإله قزما للملك جد كا رع إسيس.
تذكر السجلات أيضا في موضع أخر أن القائد حرخوف قاد حملة إلى سكان
بلاد الرمال ( العرب ؟) في شمال البحر الأحمر لاسترجاع جثة أحد النبلاء الذي قتل
أثناء تجهيزاته للبعثة المتجة إلى بلاد بونت في أحد المصرية المطلة على البحر
الأحمر، وهناك برديات تشير إلى استمرار العلاقات والبعثات بين مصر وبونت إلى
الأسرة السادسة في نهاية عصر المملكة القديمة، فهناك بردية منسوبة إلى المسؤول عن
مقبرة خنوم حوتب، قال فيها أنه رافق الأمير وخازن الإله تيتي وخوي في أحد عشرة
بعثة إلى بلاد بونت.
استخدمت المملكة القديمة ميناء في البحر الأحمر لإرسال بعثاتها
البحرية إلى بونت وإلى جنوب سيناء، ويقع هذا الميناء في المنطقة التي تسمى اليوم
بوادي الجرف التي تقع على بعد
بونت في سجلات المملكة المتوسطة
مع خروج مصر من الفوضى في الفترة التي اتفق المؤرخون على تسميتها
بالفترة الانتقالية الأولى، تضاءلت أهمية الميناء القديم الذي خصص للبعثات البحرية
لبونت والي يقع في منطقة وادي الجرف الحالية، وانتقل النشاط التجاري إلى ميناء آخر
في الجنوب سمي بميناء سو Saww والذي يقع حاليا في
منطقة مرسى جواسيس (
تم الكشف عن بعض الآثار المتعلقة بعلاقات بونت مع المملكة المصرية الوسطى في منتصف
السبعينيات من القرن الماضي بواسطة فريق آثار قاده عالم المصريات والآثار السيد
عبدالمنعم عبدالحليم سيد على عدة مواقع في البلاد المصرية وتحديدا في ميناء ساو Saww الأثري،
ووجد بعض الأواني الفخارية والنقوشات على الشواهد التي دونت البعثات المتجه إلى
منجم بونت Bia Punt، وتعود تلك الآثار إلى بعض ملوك الأسرة الثانية عشر، وقدر بعض
العلماء عدد البعثات بشكل مبدئي بناء على عدد المنحوتات والشواهد التي وجدت في
موسى جواسيس ووجدوا أنها ثلاثة عشر بعثة.
البعثات:
سنوسرت الأول Snusret I ( أرسل بعثة في
السنة الرابعة والعشرين من حكمه )
أمنمحات الثاني Amenemhat II أرسل
بعثة في السنة الثامنة والعشرين من حكمه
سنوسرت الثاني Snesret II أرسل بعثتين في
السنة الأولى والثانية من حكمه
سنوسرت الثالث Snusret III أرسل بعثة في السنة
الخامسة من حكمه
أمنمحات الثالث Amenemhat III أرسل بعثتين في
السنة الثالثة والعشرين والسنة الحادية والأربعين
أمنمحات الرابع Amenemhat IV أرسل بعثة في السنة
الثامنة من حكمه
بالإضافة إلى وجود شاهد أشار إلى ملك ( لم يذكر اسمه ) أرسل بعثات
في سنوات حكمه الرابعة والخامسة والسادسة والثانية عشر والسادسة عشر
بونت في الأدب المصري القديم
كما أسلفنا سابقا، أن ذكر بونت لم تقتصر على سجلات التبادل
والبعثات التجارية بل كان لها حضور في الأدب المصري آنذاك، فهناك قصة ” بحار
السفينة الغارقة ” التي كتبها رجل مصري اسمه آمن عاه Amen- ah، وتدور
حول خادم بيت أحد مسؤولي الدولة سافر يوما إلى بلاد بونت برفقة 120 بحارا مصريا،
وفي الطريق تعرضت مركبتهم للغرق بسبب الأمواج ولم ينجو أحد سواه بعدما وصل إلى
إحدى جزر بونت، وكيف قابل بعدها حية عظيمة برأس انسان وعرف بنفسه بأنك أمير بونت
ودار بينهما حوار قصير وعرض عليه الثعبان البقاء في بونت ريثما تأتي سفينة ما
وتأخذه إلى موطنه، وبقي كذلك لمدة أربعة أشهر حتى رجع لمصر.
حسب التقديرات كتبت القصة هذه قبل أربعة آلاف سنة أي حوالي سنة
1979 ق.م في عهد الملك أمنمحات الأول ، وهي فترة تميزت بازدهار الأدب المصري عموما
وأدب القصص خصوصا، كقصة سنوحي Story of Sinuhe، وقصة بحار السفينة
الغارقة تعد أول قصة في التاريخ تتحدث عن بونت، وقد أعيد نشرها كقصة قصيرة في
العقود الأخيرة.
بونت في سجلات المملكة الحديثة
مرت مصر بين فترة من الفوضى وحكم الأجانب سمت بالفترة الانتقالية
الثانية، وتأثرت علاقات مصر مع الخارج في الفترة جدا لا سيما علاقات مصر مع بونت،
لدرجة أن بونت رغم احتلالها موقع العجائب والغرائب في المخيلة المصرية أصبحت نتيجة
انقطاع العاقات لقرون طويلة في طي النسيان وعدم الذكر، لذا كان إحدى المهمات التي
قامت بها الأسرة الثامنة عشرة هو إعادة الاتصال بالعالم الخارجي سواء بالحملات
العسكرية أو بالبعثات التجارية، وهو ماقامت به حتسبشوت الملكة الخامسة في ترتيب
الأسرة الثامنة عشرة، حينما قامت بنفسها بقيادة حملة إلى بلاد بونت.
ولحسن الحظ، تمكنت الكشوفات من إيجاد برديات تتعلق بهذه المرحلة
وتفسيرها، وقامت البرديات المصرية بصياغة قصة البعثة المصرية لبونت، وكتابتها على
أنها كانت فكرة بدأت بنداء من الإله آمون – رع ودعوته للملكة المصرية حتشبسوت
بالشروع في تجهيز أسطول بحري والبحث عن طريق مناسب لبونت.
بدأت المهمة تحت إشراف من رئيس البلاط نهسي Nehsi الذي
أمر بتجهيز قوارب الحملة البحرية في إحدى مصانع السفن القريبة من نهر النيل، ثم
حملها إلى إحدى موانئ مصر القديمة المطلة على البحر الأحمر وهو ميناء ” سو Saww ” كما
أسلفنا. بلغت عدد السفن التجارية إلى خمس سفن، يبلغ طول الواحدة منها حوالي واحدا
وعشرين مترا (سبعين قدم) ومن هناك أبحرت الملكة مع أسطولها البحري باتجاه الجنوب
في عام 1492 ق.م.
حط الأسطول البحري على شواطئ بونت تلك الأرض التي أصبحت مع مرور
الزمن مجرد أرض قديمة وتثير الاستغراب في مخيال الانسان المصري كما أسلفنا في
رواية بحار سفينة غارقة، واستقبلت الملكة المصرية بمزيد من الترحيب وحلت ضيفة
عزيزة على أمير تلك البلاد المسمى بريحو Pareho وزوجته ذات
الأيقونة الشهيرة الأميرة آتي. رجع الأسطول المصري إلى موطنه بعد عامين من الغياب،
محملا بالكثير من البضائع كالذهب والعاج وجلود الحيوانات والتوابل والأبنوس
بالإضافة إلى اللبان والمر والقرود وأحد عشرة شجرة من أشجار اللبان – وهي أول
زراعة أشجار في غير مواطنها في العالم – حتى قالت حتشبسوت : لقد جلبت لأمون-رع كل
بونت إلى هنا وعملتها كحديقة له كما أمرني.
استمرت البعثات البحرية بعد حتشبسوت، كما هو مذكور في سجلات الكرنك
التي ذكرت استقبال الملك تحوتمس الثالث وتحوتمس الرابع وأمنحوتب الثاني وأمنحوتب
الثالث للبعثات العائدة للبلاد، فمثلا في سجلات الملك تحوتمس الثالث نجد انه
استقبل بعثات من بونت في السنة الثالثة والثلاثين والسنة الثامنة والثلاثين من
حكمه، وتم تصوير أشخاص قادمين من بونت وهم حاملين بضائع كالذهب والعاج والأعشاب
والمر والأخشاب التي جلبوها معهم من بونت.
الأصول السكانية
حظوة بونت بهذه المكانة الكبيرة في المخيلة المصرية وفي سجلاتهم،
وإشارة ملوك مصر لبونت بأنها بلاد الأسلاف والأجداد وأرض الإله، قد يكون لها أصل
ديموغرافي وبشري، فهناك العديد من الدراسات الغربية والمصرية التي أشارت إلى
التقارب الفسيولوجي والمظهري الواضح بين سكان مصر القدماء كما صورتهم النقوشات
والجداريات وسكان القرن الأفريقي باختلاف قومياتهم كالبجا والصوماليين والأحباش،
كما ذكر السيد جمال حمدان في كتابه الشهير شخصية مصر، بالإضافة إلى نتائج الدراسات
الحمضية DNA الحديثة التي تؤيد هذه الأطروحات وأيضا تعزز من ادعاءات الملوك
المصريين عن بونت، وماهو مايعني أن العلاقات بين بونت ومصر القديمة قد تتجاوز عصر
الأسرات بكثير إلى عصور ما قبل التدوين ( ما قبل التاريخ ).
0 تعليقات