آخر الأخبار

تاريخ العلاقات بين القرن الأفريقي ومصر القديمة – بونت 2

 

                      رسم جداري في معبد الدير البحري، يصور فيه الحياة في بونت، أشجار اللبان وأشجار نخيل الدوم والبيوت




د. أحمد هراد

 

       باحث في شؤون القرن الأفريقي

 

سؤال أين بونت أو موقعها لعله هو السؤال الأكثر طرحا والأكثر جدلا فيما يخص بونت أو حينما يتم الحديث عن العلاقات الخارجية لمصر القديمة مع البلدان المحيطة؟

 

 وقد استغرقت الإجابة عن هذا السؤال مدة غير يسيرة للتوصل إليه، وذلك لأن البرديات والنقوش المصرية لم تشر إلى موقع بونت بالضبط سوى أنها تقع بين الجنوب والشرق بالنسبة لمصر ويمكن الوصول إليها عن طريق البر والبحر، وأنها خارج نطاق وصول الجيوش العسكرية لها، ولكن قبل الحديث عن موقع بونت، يجب أن نستعرض بعض المعلومات عن بونت وأهم البعثات التي أزاحت الستار عن بونت والطريقة المحيطة بتلك البعثات.

 

كما أسلفنا سابقا، فإن العلاقات بين بونت ومصر القديمة كانت موجودة منذ فجر التاريخ، وهناك شواهد عدة على تلك العلاقات في تاريخ الأسر الأولى التي حكمت مصر، منها أن ابن الملك خوفو الملك المصري الثاني من الأسرة الرابعة امتلك عبدا واقترح بعض المؤرخين أن ذلك العبد قاد حملة بنفسه إلى بونت لاحقا، ولكن أول سجل وثق فيه اسم بونت كان في عهد الملك سحي رع، الذي دشن أول بعثة مدونة إلى بلاد بونت، وتبعه بعد ذلك العديد من ملوك المملكة القديمة مرورا بازدهار مكانة بونت في مصر القديمة لتشمل الأدب المصري بالإضافة إلى التبادلات التجارية التي وفرت لمصر البضائع التي لم تكن تعرفها مصر كالمر والبخور وأخشاب الأبنوس بالإضافة إلى الذهب وسبائك الإلكتروم والمالاكيت والجلود وبعض الأعشاب المعطرة، وصولا إلى المملكة الحديثة التي ازدادت فيها العلاقات بين الحضارتين وهو ما نراه في نوع التدوين والتوثيق فيما يتعلق في بونت، والتي دونت بأفضل صورة في بعثة الملكة حتشبسوت لبونت في 1493 ق.م



السؤال القديم ..أين بونت ؟

 

الغريب في الموضوع هو أن المصريين لم يستفيضوا حول تحديد مكان بونت على الأقل في البرديات والنقوشات التي تحدثت عن تلك البلاد سوى أن بونت تقع في الجنوب و الشرق من بلاد مصر وانه يمكن الوصول إليها عن طريق البر والبحر، لذا قام العديد من العلماء المتخصصين في المصريات Egyptology، باقتراح العديد من الأماكن التي احتضنت هذه الحضارة أو الثقافة والتي على أرضها فعلا تمت الزيارة التي قامت بها سواء حتشبسوت أو البعثات القديمة التي تمت في عهد الأسر في المملكتين القديمة والمتوسطة، وانحصرت الاحتمالات حول ضفتي البحر الأحمر في الجنوب، فمنهم من قال أنها ارتيريا أو إثيوبيا أو الصومال في الضفة الغربية للبحر الأحمر، ومنهم من قال أنها قد تكون اليمن في الضفة الشرقية من البحر الأحمر، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك واقترح أن تكون بونت هي بلاد عمان في أقصى الشرق أو موزمبيق في أقصى الجنوب الأفريقي !

 

ولكن مع تقدم العلم وتطور التكنولوجيا الحديثة، تمكنت البشرية في فك الكثير من الألغاز وتفكيك الكثير من الأساطير أو الخرافات التي أعطت مادة خصبة للاحتمالات حول موقع بونت وسكانها.

 

إذا رجعنا قليلا إلى الوراء، تحديدا في بعثة الملكة حتشبسوت إلى بونت التي استغرقت لمدة عشرة إلى إثني عشر شهرا، سنجد أن الأسطول المصري رجع إلى موطنه محملا بالكثير من البضائع كالذهب والعاج وجلود الحيوانات والتوابل والأبنوس بالإضافة إلى اللبان والمر والقرود وأحد عشرة شجرة من أشجار اللبان – وهي أول زراعة أشجار في غير مواطنها في العالم – حتى قالت حتشبسوت : لقد جلبت لأمون- رع كل بونت إلى هنا وعملتها كحديقة له كما أمرني، لذا قرر العلماء على القيام بأبحاث بهذه الهدايا المجلوبة من بونت ومقارنتها بنظائرها في البلدان المقترحة حتى يتم معرفة موقع بونت.

 

المر والبخور

 

أشجار اللبان والمر تنقسم إلى فصائل عديدة وتختلف فيما بينها كاختلافات داخل النوع الواحد التي نراها في كل الأجناس النباتية والحيوانية، فهناك فصائل تعتبر خاصة في مكان ما دون آخر، لذا فنوعية البخور والمر والأشجار العطرية التي جلبتها الملكة حتشبسوت من بونت كانت من فصائل بوسواليا فريرينا Boswellia frereana و كوميفورا commiphora وتلك الفصائل موجودة بشكل كثيف في صومال يلاند سواء في السهول أو في الجبال، ولكن تلك الفصائل تتواجد في مناطق أخرى كجنوب اليمن في محيط عدن وفي إريتريا وفي الحدود الشرقية من السودان وهو ما يعني أن نوعية اللبان التي عثر عليها لم تساعد في معرفة موقع بونت، خصوصا وأن رسومات الدير البحري لتلك الأشجار ليست بتلك الوضوح بالإضافة إلى أن المصريين القدماء لم يستخدموا سوى مفردة واحدة في الهيروغليفية لجميع أنواع اللبان والمر.




أشجار النخيل

 

الرسومات المتعلقة بالنخيل كانت واضحة إلى حد ما مقارنة بأشجار اللبان، واستطاع العلماء بالمقارنة تحديد نوع النخيل الذي جلبه المصريون من بونت، وهو نخيل الدوم Hyphaene Thebaica، وهذه النوعية من النخيل تنتشر في مساحات واسعة من القارة الأفريقية أكثر بالمقارنة مع آسيا، وأنها على العكس تماما من فصيل بوسواليا فريرينا ليس لها تواجد أو انتشار في صوماليلاند، ولكنها تنتشر في إريتريا ووبقية بلدان إقليم الساحل في أفريقيا، وهذا الانتشار الجغرافي الواسع لنخيل الدوم لم يساعد في الأبحاث المتعلقة بموقع بونت.




أخشاب الأبنوس

 

توصل العلماء إلى أن نوع الأبنوس الذي جلبه المصريون هو دبلبرجيا ميلانوكسيلون Dalbergia melanoxylon وهذا الفصيل ينتشر في إقليم الساحل الممتد من موريتانيا وصولا إلى السودان والأطراف الغربية من إريتريا، ولكنها توجد بنسب نادرة في اليمن وصوماليلاند والصومال وإثيوبيا.



قردة البابون

 

قردة البابون التي جلبتها الملكة حتشبسوت إلى مصر قد تم تحنيطها بعد رجوع البعثة التجارية إلى البلاد، وكما هو معلوم فإن التحنيط تشير إلى مكانة الشيء المحنَط سواء أكان إنسانا أم حيوانا، وقردة البابون كانت تحظى بالمكانة الموقرة والتقديس في مصر القديمة، فالبابون كان يمثل الإله توت، الذي عادة ما يحمل وجهين إما وجه أبيس أو وجه قرد البابون، والإله توت هو أحد آله المصريين المهمين في الديانة القديمة وكان دوره هو الحفاظ على الكون واتزانه بمساعدة زوجته الإله معات، إله الحكمة.



تكمن أهمية قردة البابون في أبحاث موقع بونت في أن كل الاحتمالات السابقة المستنتجة من أنواع النباتات والأشجار كانت غير دقيقة كما أسلفنا لاتساع الانتشار الجغرافي لتلك النباتات وهو مالم يقدم أي فائدة تذكر لأولئك العلماء الذي سعوا لتضييق نطاق البحث حول موقع بونت، ولكن في الأبحاث المتعلقة بقردة البابون التي جلبها المصريون كشفت أن هذه القردة تنتمي لفصيل معين من البابون وهي فصيلة بابيو همادرياس Papio Hamadryas التي تعتبر أجزاء من منقطة القرن الأفريقي كإريتريا وجيبوتي وأجزاء من إثيوبيا وصوماليلاند بالإضافة إلى اليمن هو الموطن الأصلي لهذه القردة وأيضا أماكن انتشارها التقليدية، وكانت هذه بداية الخيط!

 



عموما هذه أجريت هذه الأبحاث في العقود السابقة مع بدائية وسائل البحث والفحص، وهو السبب الرئيس لعدم حسم العلم لهذه المسألة لفترة طويلة من الوقت، ولكن مع تطور العلم الحديث أصبح باستطاعة العلماء إجراء الأبحاث بشكل دقيق للخروج بنتائج دقيقة وحاسمة في كثير من الأحيان.

 

في عام 2009 اقترح البروفيسور نثنائيل دوميني المتخصص في علم القرود العليا الرئيسة Primatalogy والمتخصص في علم الأنثروبولوجيا فكرة تقليص احتمالات موقع بونت من خلال عمل فحوصات على مومياوات القردة، خصوصا أن تلك القردة لم تكن مصرية المنِشأ بل جلبت من بونت من خلال التجارة وتبادل السلع، فتم تشكيل فريق في جامعة كاليفورنيا المكون بالإضافة إلى البروفيسور دوميني، البروفيسور سليمة إكرام المتخصصة في المصريات وغيرهما من العلماء والفنيين.

 




تم البدء في البحث العلمي على اثنين من قرود البابون المحنطة، والتي هي معروضة حاليا في المتحف البريطاني، من خلال استخدام تقنية الأزوتوب – أوكسجين في شعر هذين القردين، ومقارنتها بالقردة الحالية في كل من الدول المحتملة التي سبقنا ذكرها.

 

الأيزوتوب Isotope أو النظائر وهي المتغيرات التي تطرأ على العناصر الكيميائية، بحيث تكون النظائر شبيهه بعناصرها في كل شيء ماعدا اختلاف عدد النيوترونات، وهذه النظائر موجودة في التربة وفي المياه وفي الهواء، وبالتالي يكون لها أجساد الكائنات الحية ، إما في الأغذية والمياه التي استهلكتها، أو دخولها ضمن تركيب أنسجة الجسم، فمثلا نستطيع أن نجد هذه النظائر في أنسجة الأسنان وتركيبها.

 

لذا تم استخدام تقنية النظائر لعنصرين، هما:

 

تقنية نظائر الأوكسجين Oxygen Isotope: تقوم بتحديد بالضبط الجو والطقس الذين عاشت فيه الكائنات التي ستفحص وبإمكانها معرفة أين ولدت هذه الكائنات بسبب أن النظائر دخلت في تركيب أنسجة الجسم، وتختلف نتيجة تحليل هذا النوع من الأوكسجين باختلاف معدل نظائر الأوكسجين (فهناك مثلا نظير أوكسجين 16، ونظير أوكسجين 18) وكلا النوعين من الأوكسجين يحددان معدل سقوط الأمطار وحالة المناخ بالإضافة إلى حالة التربة و النبات.

تقنية لنظائر عنصر الإسترونتيوم Strontium: العنصر الثامن والثلاثين في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية.





تم تسليط هذه التنقية الدقيقة والمتقدمة جدا على مئة وخمس وخمسين قردا من قرود البابون في سبعين وسبعين موقعا في جنوب البحر الأحمر، ثم استخدمت بعد ذلك في القردين الذين يعودان لفترة الملكة حتشبسوت ولخمسة قرود أخرى تعود إلى الزمن البطليمي في مصر – بعد 332 ق.م – ، أما القردين المحنطين الذين يعودان لعصر المملكة المصرية الحديثة، فسرعان ما استثني أحدهما، نظرا لأنه عاش في طيبة في مصر بعد حملة الملكة لفترة أطول، وهو ما يغير من معدل المستوى الحقيقي للأوكسجين، وبالتالي فالنتيجة ستكون غير دقيقة، أي ستشير إلى النتائج إلى مصر بدلا من بلده الأصلي، لذا تم التركيز على البابون الآخر الذي نفق سريعا وتم تحنيطه مباشرة، وبذلك احتفظ هذه البابون على سمات بيئته السابقة، وهو ما يعني ستكون النتيجة مؤشرا للبيئة التي استقدم منها البابون بشكل عالي من الدقة.


حسب النتائج الأولية للتجربة، تم استثناء القرود الخمسة التي تعود للزمن البطليمي، لأنها طبقا لنتائج التنقية وجد أنها ولدت وعاشت في مصر، بعدها صرح البروفيسور دوميني أنه أمكن تقليص دائرة البحث من اليمن والقرن الأفريقي إلى سواحل إريتريا وصوماليلاند، ثم بعد ذلك تبين معدلات نظائر الأوكسجين لقرد البابون المحنط تتطابق بشكل عال مع معدلات أقرانها من البابون الذي تعيش في إريتريا وبالتحديد في مدينة مصوع البحرية ومحيطها، بينما لا يوجد أي تطابق بينها وبين قرود البابون في الصومال وإثيوبيا واليمن!




هذه النتيجة حسمت بشكل كبير الجدل الدائر والمزمن حول موقع بونت، وهناك الكثير من الشواهد التي تؤيد هذه نتيجة هذا التحليل العلمي لقرود البابون، وهذه الشواهد مازالت محفورة في نقوشات ” صالة بونت ” في مقبرة الملكة حشبسوت في الدير البحري، فالنقوشات حينما ذكرت سكان بونت، لم تستخدم صفة البونتيين
Puntite للإشارة إلى سكان بل استخدمت كلمة أخرى أثارت الكثير من اللغط والجدل في الأوساط، وهو ما سوف نناقشه في المقال القادم




تاريخ العلاقات بين القرن الأفريقي ومصر القديمة: بونت – 1

انتظرونا…

 

إرسال تعليق

0 تعليقات